أخبار - 2017.03.20

‭‬احميده‭ ‬النيفر: عـن الإسـلام السّـيـاســـيّ ومــــآلاتـه

‭‬احميده‭ ‬النيفر: عـن الإسـلام السّـيـاســـيّ ومــــآلاتـه

1 - في خضمّ الأحداث المتلاحقة بوتيرة غير مسبوقة في عموم أقطار العالم العربي تطالعنا دراسات مختلفة عن «الإسلام السيــاسي» وإلى ما سيؤول إليه في المستقبل القريب ومفاعيل هذه المآلات على المشهد السياسي العربي العام والقطري الخاص. من هذا التنوّع اللافت والمتزايد يمكننا الوقوف عند عيّنة دالَّة.

يعتبر «خليل العناني» أستاذ العلوم السياسية في جامعة «جونز هوبكنز» الأمريكية، أن سقوط جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر يمثّل نهاية حقبة يمكن أن نطلق عليها حقبة «الإسلاموية الأرثوذكسية» في تاريخ الحركات الإسلامية. على هذا يمكن أن يعني سقوط النّموذج الكلاسيكي للحركات الإسلامية نهاية الأركان الثلاثة الأساسية التي قام عليها وهي: الإيديولوجية المحافظة والتّنظيم الصارم والقيادة المركزيّة الجامدة. تشخيص المشهد السياسي منظورا إليه من جهة «الإسلام السياسي» الإخواني في مصر لا يريد أن يقتصر على النموذج المصري بقدر ما يرمي إلى أن يقدّم تقييما شاملا للتجارب العاملة في عموم الأقطار العربية منذ عقود من أجل إقامة «مشروع إسلامي مميّز». هو تقييم ينحو إلى الإطلاق وإلى القول بفشل العاملين ضمن نموذج للحراك التّغييري القائم على اعتبار أن الإسلام «دين ودولة» وأنّه يمتلك نظرية للسّلطة السّياسيّة وأنّه لذلك الأقدر على تعبئة الجماهير الواسعة من أجل إقامة نظام سياسيّ للحكم.

2 - بالمقابل ينحو الكاتب والباحث السوداني عبد الوهاب الأفندي عند قراءة وضع الإسلام السياسي في كلّ من مصر وتونس منحى مغايرا. هو لا يعتبر أن أوضاع الإسلاميين تتماثل في كافة الأقطار العربية مضيفا أن مسارات كل تجربة ستكون مختلفة تبعا لذلك. يصرّح بهذا قائلا في خصوص الوضع التونسي: «لقد تصرّف الشيخ الغنوشي بحكمة وعقلانية بعد أن تعرّضت النهضة لابتزاز مفضوح من الفئات التي رفضها الشعب، فسعت كما كان الأمر في سوريا لتمزيق البلاد وتدميرها نكاية في النّهضة. ولكنّ الحركة اتّبعت حكمة صاحبة سليمان التي رضيت تسليم طفلها إلى من ادعته كذبًا حرصًا عليه. وأذكرُ بأنني كنت قد تقدمت بنصيحة مماثلة لإخوان مصر على صفحات «القدس العربي»، راجياً منهم أن يخضعوا لابتزاز خصومهم حرصًا على مصر.

3 - من جهة ثالثة نقرأ للمفكّر والاقتصادي «سمير أمين» مقاربة حَريّة بالاهتمام إذ يعتبر أن الإسلام السياسي يمكنه أن يخرج من هذه التّجارب بقدر من النّجاح إن هو وعى طبيعة التحديات المحلية والدولية وإن صاغ من خصوصياته الثقافية والاجتماعية الإجابات المطلوبة. يقول أمين «يقع في خطأ كبير من يعتقد أن ظهور حركات سياسية مرتبطة بالإسلام هي ظاهرة مرتبطة بشعوب متخلفة ثقافيّا وسياسيّا على المسرح العالمي، وهي شعوب لا تستطيع أن تفهم سوى اللغة الظّلامية التي تكاد ترتدّ لعصورها القديمة وحدها. هذا خطأ تنشره، على نطاق واسع، أدوات الاتصال المسيطرة، التّبسيطيّة، والخطاب شبه العلمي للمركزيّة الأوروبية. وهو خطاب مبنيّ على أن الغرب وحده هو القادر على اختراع الحداثة، بينما تنغلق الشّعوب الإسلاميّة في إطار «تقاليد» جامدة لا تسمح لها بفهم وتقدير حجم التّغييرات الضّروريّة»


4 - في اتجاه مغاير يقدّم الباحث والكاتب اللبناني رضوان السيد قراءة لإيديولوجية «الإسلام السياسي» التي يعتبرها تركيبا بين «روح سلفية جديدة في جسد إخواني». صميم هذه الإيديولوجية اعتقاد بتوفّر نظرية لنظام إسلامي كامل هو «سَمْتٌ صارمٍ في العقائد والشعائر والعبادات واللباس والعادات الاجتماعية يعتني بظواهر الدّين وحرفياته تعلوه رؤية الحاكمية، ويتفرّع إلى أغصان عقائدية في النظام السياسي والاقتصاد والاجتماع وصولاً إلى أدقّ التفاصيل». خصوصية هذا النظام الكامل هو حرصه على» الانفصال عن نظام العالم، وعن نظام الدولة الوطنية المتفرّع عنه وقاعدتُه تطبيق الشّريعة».

عن أسباب الافتتان بالدّولة الدّينية في العقود الثّلاثة الأخيرة، يرجع رضوان السيد إلى الفشل الذريعُ الذي عانت منه الدولةُ الوطنيةُ العربيةُ، خاصة في الأنظمة العسكرية والأمنية وفي صَون المصالح الخّاصة والعامّة والكرامة الوطنيّة. ذلك أحدث لدى الجمهور تطلعات للاستبدال بالدولة الوطنية الفاشلة في زمن القتل والطائفيات والهزائم أمام إسرائيل دولةً دينيةً بحثوا عنها في إيران وأفغانستان اعتقادا منهم بأن الإصلاح السياسي ينبغي أن يتقدم على إصلاح الشأن الديني لأنّ الأوّل قادر على جعل الثّاني ممكنا وهو أحد العناصر الصميمية لمشروع «الإسلام السياسي».

5 - ما ينبغي التّأكيد عليه هو أن القاسم المشترك لهذه الطّروحات ولغيرها الكثير، هو اعتبار «الإسلام السياسي» ظاهرة سياسية بامتياز مسوغاتُها تاريخية حديثة. أما عن الجدل والصّراع الدّائرين بين الإسلاميين وبين مخالفيهم فمردّه إشكالية مُرَكَّبة من علاقات بين مكوّنات ثلاثة هي: طبيعة الدولة وخصوصية العمل السياسي والمواطنة. بذلك يتبيّن أن عموم هذه الطروحات لا صلة لها في تحليلها وتحديد مواقفها بالاعتبار الديني الذي تعتمده حركات الإسلام السياسي. ما يُثبت هذا المعنى أن المرجعيّة  الإسلاميّة الجامعة لهؤلاء لم تمنع من الانقسام والافتراق في مستوى الرّهانات والسّياسات والمناهج المتّبعة قصد تحقيق الأهداف المرسومة. الأحداث المحلية والإقليمية تبيّن أن الانتساب إلى الإسلام أساسًا ومرجعيةً والاشتراك في بعض القيم والأفكار لم يحل دون الاختلاف والتنوّع بل والتّنازع.

مع كل هذا فإنّ هذه الطّروحات التي تتعاطى مع الظّاهرة الإسلامية على أنها في منتهاها معطى تاريخي وتعبير اجتماعي- سياسي لا يختلف عن غيره، عجزت عن حسم الجدل المتّصل بإشكالية العلاقة بين الدّين والدّولة. لقد تواصل النّزاع في حلقة مفرغة وحارقة دون أن يحقّق تجاوزا نوعيا يُذكر في المستويات الفكرية - الثقافية والمؤسّساتية- الاجتماعية.

السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا يستمرّ هذا الجدل والصّراع بين الإسلاميين والعلمانيين في أكثر من موقع عربي وخاصّة في تونس؟ ما هي خلفية هذا التّدابر الذي لم تفلح الجهود المتضافرة للتخفيف من حدته والتوّجه إلى تأسيس حقيقي للتعايش السلمي بين الفاعلين المختلفي المشارب؟

6 - للإجابة يبرز عائقان أساسيان أحدهما هيكلي موروث من إعاقات الأنظمة التسلطية التي سادت في الدّولة التّحديثية ما بعد الاستعمارية والثاني إيديولوجي قائم على التّمركز الثّقافي على الذّات حيث لا يرى معنى لأيّ حوار متكافئ مع الآخر الإسلامي.

خصوصيّة هذين العائقين أنهما متـرابطان وأنّ الثّاني مسكـوت عنه رغم أنّه وازن وأنه يجهض أيّ تفاعل نِدِّي بين الفاعلين السياسيين وأي مسعى جدّي لتجاوز العائق الأول الهيكلي.

صميم الإشكال في العائق المسكوت عنه هو قناعة قسم هام من النّخب العربيّة المثقّفة والحاكمة من أنّ الخلاف مع الإسلام السياسي أساسه مرجعيته الدينية التي يصدر عنها. هو اعتقاد ناجم عن أنّ اندغام السياسي بالديني قد ركّز تخلُّف مسلمي اليوم وحال دون دخولهم العصر وانخراطهم في حداثته خلافا لما فعلته بقية ثقافات العالم. خلاصة هذه القناعة صيغت فيما يُعرف بـ»الاستثناء الإسلامي».

ما لا ينبغي الذّهول عنه أن هذا التّوجّه تزداد مخاطره بظهور ما يعرف في الغرب بـ «الاستشراق الجذري» المختلف منهجيّا عن الاستشرق السّابق. لقد اهتمّ الاستشراق الكلاسيكي بالتّراث حفظا وتحقيقا ونشرا خلافا للـ»مراجعين» من المستشرقين الجدد «الجذريين» الذين لا يولون أهمية للتراث ونصوصه إذ يشكّكون بصورة قطعيّة في صدقيتها. الاعتماد على الواقع المعيش أهم في نظرهم من كل النصوص التي لا تمتّ بصلة إلى الحقائق. إنهم باعتمادهم مناهج تفكيكية، اجتماعية أو انتروبولوجية يعلنون عن نهاية الاستشراق القديم الذي يعتبرونه مخطئا في دراسة جذور الإسلام وتاريخه.

7 - أقل مقولات هذا الاستشراق الجذري شراسة نجده عند «إرنست غيلنر» (E.Gellner) القائل بانتفاء إسلام واحد وأن الحضارة الإسلامية ليس لها حاضر أو مستقبل لافتقادها أية وحدة تقليدية معرفية أو رؤية ثقافية مميّزة. باترشيا كرون (P.Crone) ومايكل كوك (M.Cookيذهبان أبعد من ذلك إذ يرفضان صدقية القرآن مؤكّديــن أنّـــه لم يكتمـــل إلا في نـهـــايـة القـــرن الثـــاني للهجـــرة /الثامـــن الميلادي. مــؤدّى هذه المقــولات الدّاعمة للسياسات الاستعمارية الجديدة هو رفض إمكان وجود «إســـلام معــاصر» لأنّ طبيعته الدينية متشظّية من أساسها فلا يتوقّع منه سوى الانقسام والعنف والدّمار.

أخطر ما في هذا التّوجّه، داخليا وخارجيا، هو انتفاء أيّ وعي بأهمية الاختلاف مع ما يصدر عن مرجعية إسلامية. إنه التمركز الثقافي الذي صاغته شروط تاريخية فتعالى على بعـــده التاريخـــــي، مختزلا أصـــوله ومقوّماته في مجموعة من المفـاهيم الإطلاقية التي تتجــــاوز ذلك البعد إلى نوع من «اللاهوت» غير التاريخي.

إزاء هذا التّمركز الثقافي المُصِرّ على التّدابر والتّدمير لا مفرّ لكلّ من يسعى لبناء كتلة تاريخية في الأقطار العربية من الانخراط في الرهانات الوطنية الكبرى: تصحيح مسار تجديد الوعي الإيجابي للدولة والنظام، وحماية مصالح المجتمع وتطلّعاته وحــــراكه  وترسيخ حرّيّة الأفراد وكرامتهم. ضمن هذا لا يبقى للإسلام السياسي من خيار سوى مدنية الدولة وتحديد موقعه الاجتماعي واختياراته الاقتصادية. فوق هذا وذاك يتوجّب بعث المؤسسة الدينية الوطنية ليس باعتبارها سلطة ملزمة بل لكونها مرجعيّة مستقلّة ذات مصداقية قائمة على العلـــم والتّعليم ومصدرَ اجتهاد وتجديد. هي بذلك تضحى القوة المؤسّسة التي ينتهي معها تطلع الشباب بوعي مفوّت إلى الدولة الدينية الموهومة.

‭‬احميده‭ ‬النيفر

رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.