قطـاع القــوارص في تـــونس: وفرة في الإنتاج ونقص في التّرويج
تونس كلها خيرات وهي غنية بما حباها الله به من موارد طبيعية فلاحية قليلا ما نجدها مجمعّة بنفس الجودة في بلد واحد بفضل التّربة الخصبة والمناخ المتميّز. ألا يمثّل زيت الزيتون والتمور والغلال والخضراوات ثروة يمكن في صورة العناية بها وتوظيفها للتصدير أن تدّر على الاقتصاد الوطني مداخيل هامّة من العملة الصعبة يمكن أن تقترب من مداخيل الفسفاط مثلا؟
ها أنّ الأزمة الأخيرة في قطاع القوارص، التي تجلت في غضب الفلاحين وإلقائهم البرتقال في الشارع كما حصل سابقا مع البصل والحليب، تطرح من جديد ما يجب إيلاؤه من عناية للقطاع الفلاحي ليكون إحدى الدعائم الأساسية لاقتصاد تونس.
18 ولاية تنتج القوارص
رغم أنّ زراعة القوارص نشاط قديم في تونس إلا أنّ الطلب عليه بدأ يبرز منذ سنة 1918 فتكثّف الإنتاج وتطورّت تجارة القوارص. وازدهر الإنتاج في منطقة الوطن القبلي باعتبارها تجمع كل الظروف المواتية لمثل هذه الغراسة بفضل توفّر الماء وثراء التربة وحرارة الشمس المعتدلة والمفيدة، إضافة إلى توفر العملة والفنيين المختصين. ثم توسعت غراسة القوارص فيما بعد لتشمل 18 ولاية مثل تونس وولايات الساحل والقيروان وسيدي بوزيد وباجة وجندوبة ... وتغطي غابات القوارص في تونس مساحة تقدر بـحوالي 27 ألف هكتار 75% منها في ولاية نابل ويحتّل البرتقال والمندرين والكليمنتين نسبة 94% من المساحة الجملية. ومع ذلك تعتبر هذه المساحة صغيرة بالنسبة إلى الأراضي الصالحة للزراعة في البلاد (أقل من العشر) كما تمثل 5% من المساحات الجملية للأشجار المثمرة المغروسة. وتضم غابات القوارص حوالي 8 ملايين عود من القوارص تنتج أكثر من 40 نوعا يعتني بها حوالي 12 ألف فلاح جلّهم من صغار الفلاحين. وتعرف المساحات المغروسة قوارص تجديدا بـ 700 ألف عود مشتّل سنويا.
وعرف إنتاج القطاع تطوّرا ملحوظا منذ الاستقلال بفضل مراعاة المعايير الدولية في الانتاج والخزن والجودة وذلك لتلبية طلبات السوقين الداخلية والخارجية. ثم أصبح القطاع يتمتّع بهياكل دعم مثل المركز الفني للقوارص الذي من بين مهامه التّكوين والرّسكلة والإرشاد والمساهمة في مقاومة الآفات والأمراض والمحافظة على الجودة وكذلك مثل المجمع المهني المشترك للغلال المتخصّص في تعديل السوق والتصدير، هذا إضافة إلى الدور الذي يقوم به الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري.
وفرة في الإنتاج
حسب السيد عماد الباي، رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة بولاية نابل، شهد موسم القوارص الحالي وفرة في الإنتاج الجملي للقوارص في البلاد التونسية حيث بلغت الكميات المنتجة حوالي 600 ألف طن مقابل معدل ما بين 350 و400 ألف طن للمواسم الأخيرة. وبالمقابل يبلغ معدل الاستهلاك المحلي حوالي 400 ألف طن.
ويوفّر هذا الانتاج القياسي لتونس هذا الموسم فائضا يقدّر بحوالي 200 ألف طن. وقد كشفت صعوبة التعامل مع هذه الزيادة عن المشاكل التي يعيشها القطاع من حيث غياب الاستشراف وعدم توفر استراتيجية واضحة للتعاطي مع تطوّر الجانب الكمّي لإنتاج القوارص وكيفية امتصاص الفوائض عندما تحدث. كما كشفت عن ضعف آليات الترويج والتحويل والتصدير الخاصة بهذا القطاع. وعزا السيد عماد الباي ذلك لعدة أسباب منها تذبذب حجم الإنتاج من سنة إلى أخرى وتراجع حجم تصدير المالطي التونسي الذي لا يوجد إلا في بلادنا وهو النوع الذي أعطى لتونس اسما تجاريا في السوق الفرنسية خاصة والتي إليها يصدّر. ففي الثمانينات من القرن الماضي كانت تونس تُصدّر 50 ألف طن واليوم تراجع حجم الصادرات إذ تمّ تصدير حوالي 23 ألف طن من البرتقال في الموسم الماضي 90% منها من نوع المالطي أي حوالي 21 ألف طن، أما بقية الأنواع المصدّرة فهي الكليمنتين والطمسون والليمون، ممّا وفّر للاقتصاد التونسي حسب السيد عماد الباي حوالي 26 مليون دينار من العملة الصعبة، مع أنّ التصدير لا تتعهد به سوى 14 محطة كلها في ولاية نابل.
ويعود ذلك التراجع إلى ضعف الحملات الترويجية وضعف الإقبال على المالطي التونسي من قبل المستهلكين الفرنسيين الشبان الذين أصبحوا لا يفرّقون كآبائهم بين المالطي التونسي الفريد من نوعه والمالطي الوارد من بلدان أخرى، وكذلك بسبب اشتداد المنافسة عموما مع البلـدان المصــدّرة كالمغـــرب وإسبانيا ومصر وتركيا. وفي مجال إصلاح هذا الخلل يُبذل جهد لتصدير 25 ألف طن من المالطي هذا الموسم.
عوائق بالجملة
وحول الصعوبات التي تؤثّر في الإنتاج في هذا القطاع أكّد لنا أحد الفلاحين أنّها متأتية من شيخوخة أشجار القوارص (تغطّي الغراسات التي يفوق عمرها 40 سنة حوالي 34% المساحة الجملية لغابات القوارص)، علما وأنّ المزاولين لهذا النشاط أغلبهم من صغار الفلاحين، إضافة إلى ترهّل عديد المسالك الفلاحية وارتفاع ملوحة المياه الجوفية في بعض المناطق بالإضافة إلى مديونية الفلاحين المترتّبة عن القروض الموسمية ويضاف إليها أخيرا صعوبة استرجاع الفلاح لمصاريفه بسبب تدنّي الأسعار هذا الموسم وعجزه عن ترويج إنتاج ضخم للتجار بأسعار معقولة.
جدولة الدّيون
وللوصول بالقطاع إلى برّ الأمان هذا الموسم يرى أحد الفلاحين ضرورة جدولة مديونية صغار الفلاحين الخاصّة بالقروض الموسمية ومساعدتهم بخصوص المبالغ المتخلّدة بذمتهم من استهلاك الماء والكهرباء. ودعا الفلاحين إلى عقلنة عملية الجني ليحصل بصورة تدريجية ممتدة في الزمن، كما اقترح استعمال النقل العسكري الجوي للتصدير إلى إفريقيا.
تشبيــب الغــابة وتطــوير الصناعات التّحويليّة
وبخصوص الوفرة في الإنتاج يؤكّد السيد عبد الفتاح سعيد مدير المركز الفني للقوارص بأنه بالإمكان استهلاك الزيادة محليّا وباحترام الأسعار والتمديد في فترة العرض والخزن مع التصدّي للمضاربات. لكن لمزيد تطوير القطاع مستقبلا من الضروري العمل على تأهيله حتى يصل الإنتاج إلى حوالي مليون طن في السنوات الخمس القادمة وذلك بزراعة حوالي 700 ألف عود جديد في السنة لتعويض القديم وتشبيب الغابة وتطوير تصدير الأصناف الأخرى من القوارص وتطوير الصناعات التحويلية المشتقة من القوارص التي تعتبر محتشمة جدا، رغم أنّ تحويل البرتقــال لا تنجرّ عنه أي خسارة، إذ تستغل كلّ مكوناته وذلك ببعث وحدة تحويل كل الغلال بما فيها القوارص يشترك في إنشائها القطاعان العام والخواص بهدف بلوغ تحويل 100 ألف طن إلى عصير مركّز (نكتار) تستورده تونس حاليا من الخارج. ودعا رئيس المركز إلى إحداث المصانع التي يمكن استغلالها أيضا لتحويل بقية الغلال وإلى تشجيع إنتاج العصير الطازج الذي لا تنتجه تونس إلا بقلة وإنتاج المربّى وتحويل القشور لاستعمالها في التوابل واستعمال زيوتها في مواد التجميل وتحويل مادّة الزهر إلى زيوت روحية واستخراج بزور البرتقال pulpe لتحويلها إلى عصير وتحويل البرتقال وقشوره إلى دواء لبعض الأمراض الانسانية والحيوانية وتحويل قشور البرتقال علفا للحيوانات.
فتح أسواق جديدة
ومن بين الحلول التي أشار إليها السيد عماد الباي، العمل على فتح أسواق خارجية جديدة لحل مشكلة التضخم في الإنتاج الحالية ووضع استراتيجية للتصدير من ذلك مزيد التصدير إلى السوق الجزائرية التي تستورد 60 ألف طن سنويا من إسبانيا بينما لا تصدّر تونس إلّا 4000 طن من المالطي الرقيق لفائدة مصنع بالجزائر يحوّله إلى بزور (هناك مصنع آخر في ألمانيا يستورد حوالي 500 طن لتحويله إلى بزور أيضا). كما أنه بالإمكان تطوير التصدير إلى ليبيا المقّدر حاليا بكميات محتشمة لأنّ السوق الليبية تزوّد خاصة من البرتقال المصري، ويصبح البرتقال التونسي مطلوبا في ليبيا في غضون شهر أفريل لأنّ البرتقال التونسي يتواصل استهلاكه إلى فترات متقدمّة من كل سنة يمكن أن تصل إلى شهر جويلية، إضافة إلى ضرورة فتح أسواق في إفريقيا جنوب الصحراء حيث لا يوجد البرتقال التونسي. وأشار السيد مراد الباي إلى أن الدولة ستشجّع مصدّري القوارص إلى السوق الروسية إذ ستتكفّل بنسبة هامة من تكاليف النقل إلى روسيا وستضع على ذمة المصدّرين بداية من شهر جانفي الحالي 4 بواخر للغرض مما سيفتح المجال لتصدير حوالي 2000 طن من البرتقال بمختلف الأصناف. ومن بين الحلول أيضا الترويج المحلي للبرتقال بفتح أسواق من المنتج إلى المستهلك في كل الجهات لتشجيع الاستهلاك علاوة على جعل البرتقال عنصرا قارا في الوجبات الغذائية في المطاعم التابعة لوزارات الدفاع والتربية والتعليم العالي والداخلية والصحة والعدل.
تصدير اللّيمون
ومن الآفاق الواعدة يذكر السيد عبد الفتاح سعيد مسألة تصدير الليمون الذي عليه اليوم طلب كبير بفعل نقص الإنتاج في بعض البلدان المنتجة لهذه المادّة بسبب أمراض فطرية أصابته كما قضت الآفة على القوارص في أمريكا اللاتينية أيضا فارتفع سعر الطن الواحد من عصير الليمون في الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان أمريكا اللاتينية من 800 دولار سنة 2011 إلى 3800 دولار اليوم. وقد صدّرت تونس هذا الموسم حوالي 5000 طن من الليمون. وهذه الظروف تفتح المجال أمام تطوير سوق جديدة لتصدير عصير الليمون إذ أنتجت تونس 72 ألف طن من الليمون هذا الموسم.
خالد الــشّــــابي
- اكتب تعليق
- تعليق