مـاذا‭ ‬في‭ ‬نصّ‭ ‬البيعة‭ ‬التــي‭ ‬يـــؤدّيــــها‭ ‬الإرهــابيّــــون؟

كنّا أشرنا في عددنا السابق في ركن«كواليس وأخبار» (ص7) إلى صدور دراسة بعنوان «الإرهاب في تونس من خلال الملفّات القضائية»، أعدّها المركز التونسي للبحوث والدراسات حول الإرهاب الذي أنشأه المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وتقدّم هذه الدّراسة التي تعتبر وثيقة مرجعيّة توصيفا دقيقا للظاهرة الإرهابيّة في تونس من خلال جرد علمي للملفّات المتعلّقة بها. من الباب الثالث الذي يتناول المؤشّرات الخارجية للانتماء إلى التنظيمات الإرهابيّة ننشرالورقات التالية:

من خـلال الملفـات القضائية التي أمكـن الاطّلاع عليها تبيّن أنّ التنظيمات الإرهابية تعتمد في علاقتها الداخلية على العامل الولائي المعلن، إذ يشترط للدخول إلى العوالم السريّة لهذه التنظيمات أن يقبل الشخص المستقطب حديثا الانتماء وأن يصرّح بذلك بإعلان البيعة. وقد اتّفقت أغلب التصريحات الواردة بالملفّات القضائية أن نص البيعة المستعملة في تونس هو التالي: «أُبايعك على السمع والطاعة في المنشط والمكره وفي اليسر والعسر وعلى إثرة من نفسي وعلى أن لا أُجادل الأمر أهله».

إنّ العلاقة التي تنشأ من خلال البيعة بين الأمير والإرهابي الذي بايعه تعبّر عن انتقال ذهني وتنظيمي للشخص الذي بايع. فعلى المستوى الذهني يتحوّل الشخص الذي قبل تقديم البيعة وإعلامها من شخص عادي متعاطف أو متأثّر بمضامين فكر عنيف إلى شخص إرهابي حامل لقناعة قاتلة ومستعد لتنفيذ كلّ التعليمات والأوامر التي تعطى إليه. أمّا على المستوى التنظيمي فإنّها تعبّر عن تأسيس علاقة بين شخص وتنظيم يصبح بموجبها تابعا تبعية مطلقة لذلك التنظيم في شخص أميره الذي قدّم له البيعة.

ويمكن من خلال نصّ البيعة فهم العلاقة بين الشخص المستقطب حديثا وأمير التنظيم الذي يبايعه إذ أنّها تنقسم إلى عدة عناصر.

العنصر الاوّل: السمع والطاعة. إنّ العلاقة التي تنشأ تنظيميّا بين الشخص المستقطب حديثا وأمير التنظيــــم هي علاقة تعليمات تسدى من أمير وعلى هذا الشخص تنفيذها دون نقاش. فالبيعة في هذا المستوى تؤسّس لعلاقة تابع بمتبوع، بمعنى أنّ الأمير هو الذي يفكر، يقرّر ويأمر والتابع هو الذي يتلقّى ويخضع وينفّذ. ويفهم ممّا تقدّم أنّ التنظيمات الإرهابية تفصل في داخلها بين المؤسّسات المعدّة للتفكير (الأمير، مجلس الشورى) وبين بقية مستويات التنظيم الذي توكل إليها مهمة التنفيذ والتي يحجر عليها استعمال العقل والتفكير والمناقشة وإبداء الرأي.

وهذه القاعدة أي السمع والطاعة هي قاعدة عامّة لا يستثنى منها أيّ مستقطب حـــديثا، بل لا يستثنى منها حتى أمراء التنظيمات عند مبايعتهم لتنظيمات إقليمية ودولية. من ذلك أنّ البيعة داخل أنصار الشريعة تؤدى إلى أبي عياض الذي قام بدوره بأداء البيعة إلى أمير القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي عبد المالك درودكال المُكنى أبو مصعب عبد الودود خلال صيف 2011 في جبال الكاف، والذي تلقّاها منه الرجل الثاني في تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي موسى أبو رحلة المُكنى أبو داوود.

ولقد تمّت ملاحظة أنّ البيعة تعتبر مؤشرا خارجيّا مهمّا لانتقال الشخص من مجرّد متأثّر بفكر من خلال عوامل سمعية وبصرية أو أشخاص أو جوامع أو كتب إلى شخص منتمي إلى تنظيم إرهابي أعلن فيه خضوعه إلى أميره وصارت محاولة خروجه منه لاحقا موجبة للتهديد والعقاب والقتل.

العنصر الثاني: في المنشط والمكره ويقصد بهذا المستوى أنّ علاقة البيعة هي علاقة نهائية لا فكاك منها، تمارس في كل الظروف وفي جميع الأحوال وتستمرّ حتى بانقطاع العلاقة المباشرة بين الشخص المستقطب والأمير، لا تنفكّ بتغيّر الظروف ولا تنحلّ مهما كانت الصعوبات التي يواجهها الشخص الذي أدّى البيعة. ويعود ذلك إلى أنّ الأمير يمكن لأسباب أمنية وللطبيعة السرية للتنظيم أن يبقي بيعة بعض الأشخاص مجهولة وغير معلنة إلى أن يحتاج إليهم لتكليفهم بمهام محدّدة. ولا يقبل عندها ممّن أدّى البيعة أن يتعلّل لتغيّر الظروف أو بأوضاعه الاجتماعية والعائلية أو بخطورة المهمّات الموكّلة إليه.

فالمقصود بالمنشط والمكره أنّه لا إعداد بإرادة المستقطب حديثا سواء أن كان قابلا وراضيا بالتعليمات التي تلقاها. فهذا المستوى هو دخول دون خروج، وذهاب دون عودة. وكتأكيد لصحّة ذلك ورد على لسان الإرهابي حسام الدين المزليني ما يلي: «أثناء تواجده بمعسكر درنة أعلمه أحمد الرويسي أنّ كامل المجموعة التي معه تنتمي إلى الجناح العسكري التابع لتنظيم أنصار الشريعة بتونس تحـــت إشـــراف الأمير سيف الله بن حسين وأنّ التنظيم يسعى إلى بعث إمارة تحكم بشرع الله وعرض عليه فكرة الانضمام إليه فأبــــدى موافقته وتمت مطالبته بمبايعة المظنون فيه سيف الله بن حسين عبر أحمـد الرويسي بالمصافحة والغـــاية منـها (أي البيعــــة) تطبيق التعليمـــات الصادرة عن قيادات التنظيم دون تململ وفي صـورة رفضه يقومون بقتلــه قصاصا.

العنصر الثالث: «في اليسر والعصر» ويقصد بذلك أنّ تغيّر الحالة الاجتماعية والعائلية والمادية للمستقطب حديثا لا يمكن أن تؤثر في العلاقة الرابطة بينه وبين الأمير أو الشيخ أو الباني. وهذا الشرط يكشف عنصر الاستمرارية لتلك البيعة وامتدادها في الزمن.

العنصر الرابع: «وعلى إثرة من نفسي» ويقصد بهذا المصطلح أنّ المستقطب حديثا يجعل لمصلحة التنظيم ولمصلحة الأمير مكانة أعلى وأهمّ من مصلحته الخاصّة. بمعنى أنه يسبّق في تقدير المصالح الأمير على مصالح الأمير على مصالحه ومصالح عائلته. وهو يبايع بشكل نهائيّ على ذلك التقديم ويجعل التعليمات المسادة إليه أهمّ من حيث مكانتها ومرتبتها من أموره الاجتماعية  والحياتية الخاصة. ويفهم من الإيثار أنّ الاهتمام بالمصلحة العليا للتنظيم تمرّ قبل مصلحة أعضائه. ويدخل ضمن مفهوم مصلحة التنظيم الإرهابي العناية بالأمير وشؤونه إذ تتّحد مصلحة الأمير مع مصلحة التنظيم الإرهابي وتتماهيا إلى الدرجة التي لا يمكن معها الفصل بينهما.

العنصر الخامس: «وعلى أن أجادل الأمر أهله» تستمرّ التنظيمات الإرهابية في التركيز على العلاقة الهرمية بين الأميـر والمجموعات التي تبايعه من حيث اتّخاذ القرار وتبادل الآراء والنقاش والتداول في الشأن الداخلي والخارجي للتنظيمات. وتتأسس فكرة البيعة في هذا المستوى على أنّ هناك احتكارا للمعـــرفة وتميــــّزا بالإدراك خــاصّا بالأمير في مقابل بقية المنتمين الذين يتميّزون بالجهل وغياب النشاط الفكري والمعرفي. وهذا مـا أدّى إلى اعتبار أنّ المعـــرفة بشكل عـام والنشـــاط الذهـــني بشـــكل خاص متروكان للأمير لا يجــادله فيهما أحد.

والمعلوم أن لمفهوم الأمر دلالة خاصّة، إذ يقصد به السلطة الشرعية والروحية والقيادية والخلافة وغيرها من المفاهيم التي تختزل في تلك الصفة، والتي تدلّ على صاحبها السلطة المطلقة في اتخاذ القرارات.

ويسلّم المنتمي للتنظيمات الإرهابية بأنّ لا حقّ في مجادلة صاحب الأمر وهو الإمام فقد صرّح الإرهابي محمد العوّادي المكنّى «الطويل» أنّه بايع سيـــف الله بن حســـين بنصّ البيعـــة التــــالي: «أبايعـــك على السمـع والطـاعة في المنشـط والمكـره هــو أبايعك على السمـع والطاعة في العســـر واليســر وعلى إثــرة مــن نفـسي»..