أخبار - 2017.01.02

علي‭ ‬اللواتي: هــل‭ ‬من‭ ‬جيـل‭ ‬جديــد‭ ‬يشحـــن‭ ‬الفعل‭ ‬المسـرحـي‭ ‬بـرؤى‭ ‬وأهـداف‭ ‬جديدة ‬؟

علي‭ ‬اللواتي: هــل‭ ‬من‭ ‬جيـل‭ ‬جديــد‭ ‬يشحـــن‭ ‬الفعل‭ ‬المسـرحـي‭ ‬بـرؤى‭ ‬وأهـداف‭ ‬جديدة ‬؟

بمناسبة مرور نصف قرن على نشر ما اصطُلح على تسميته بـ «بيان الأحد عشر» حول المسرح في تونس، (نشر تحت عنوان Et si on parlait du théâtre بجريدة «لابريس»، 30 أوت سنة 1966)، نظّمت هيئة «أيّام قرطاج المسرحيّة» لقاء يوم 23 نوفمبر الماضي بأحد فنادق العاصمة ، وكان من المنتظر أن يدور النّقاش حول الظّروف التي حفّت بظهور البيان وعن آثاره في الممارسة المسرحيّة وعمّا إذا بقي اليوم بعض الأثر من الرّؤى والأفكار التي نوقشت آنذاك. غير أنّ اللّقاء لم يحضره من الموقّعين عليه الأحد عشر سوى فرج شوشان وكاتب هذه السّطور؛ وغاب عنه بعضهم مثل توفيق الجّبالي والنّاصر شمّام وغيّب الموت البعض الآخر مثل المنصــــف السّويسي وعبد الله رواشد ويوسف الرّقيق.

وقد ارتأيت أن أعرض في هذا المقال جـــوانب مـن محتـوى البيان والمنطلقات الفكريّة التي استند إليها في توصيفه لأوضاع المسرح التّونسي ومشكلاته في تلك الأيّام وما طرحه من قضايا وحلول من وجهة نظر الموقّعين وما بقي له من أثر في الحركة المسرحيّة الرّاهنة.

المنطلقات والدّوافع

لقد ذكر بعض الباحثين في المسرح تلك الوثيقة في سياق التّأريخ للمسرح التّونسي غير أنّ الجمهور العريض لا يكاد يعرف شيئا عنها وعن الظّروف التي حفّت بظهورها في مرحلة شهدت حركيّة ثقافيّة لافتة وظهرت خلالها بوادر التّجديد أو التّأسيس في الأدب (البشير خريّف؛ عزالدّين المدني) والموسيقى (محمد سعادة) والفنون التّشكيليّة (نجيب بالخوجة) والسّينما (عمار الخليفي). والمسرح (علي بن عيّاد). كان الموقّعون على البيان شبابا من خرّيجي مدرسة التّمثيل أو ممّن نشطوا في المسرح الجامعي والمدرسي، أو من المثقّفين المولعين بالفنّ الرّابع؛ وكان بعضهم قد حصل آنذاك على منح من كتابة الدولة للشؤون الثقافية للمشاركة في بعثات لدى مؤسّسات فرنسيّة (TNP-Villeurbanne بمدينة ليون بإدارة روجي بلانشون) أو لِحضور مهرجان أفينيون بإدارة جون فيلار رجل المسرح الشّهير وأحد كبار مديري المسرح الوطني الشّعبي الذي عمل على تغيير المفاهيم حول أهداف المسرح وعلاقته بالجمهور في فرنسا. كان الجماعة يلتقون في المقاهي (وكان فرج شوشان والمرحوم المنصف السّويسي أكبرهم سنّا وكنت أصغرهم)، للخوض في أوضاع المسرح ومشكـلاته وتبادل الآراء حول وسائل الاستفادة من التّجربة الفرنسيّة في تقريب المسرح من الجمهور، أسوة بتجربة مماثلة كان يخوضها آنذاك المسرح الوطنيّ الجزائريّ.

البعد الاجتماعي والسّياسي

والواقع أنّ الانبهار بالمسرح الوطنيّ الشّعبي الفرنسي لم يكن انجذابا إلى مضامينه الجماليّة أو الفكريّة بقدر ما كان إعجابا بطريقته المبتكرة في التّعامل مع الجمهور ونسج علاقات بالمؤسّسات والجمعيّات. وقد اعتمد القائمون عليه أسعارا في متناول العموم، إضافة إلى الحرص على أن لا يبقى العمل المسرحيّ حبيس قاعات العرض ويحقّق مشروعيته بملاقاة الجمهور أينما وُجد للتّفاعل معه وتوعيته بأهمّية المسرح في حياة المجتمع، وكان الهدف من تلك السّياسة الاتّجــاه إلى أكثر ما يمكن من الشّرائح الاجتماعيّةوبينما كان المسرح الشّعبيّ الفرنسي يتعامل مع نصوص المسرح الفرنسي والعالمي، الكلاسيكيّ منه والمعاصر من خلال تناول حديث، كان فتية البيان لا يؤمنون بجدوى النّص المُنتج خارج السّياق المحلّي (وتلك نقطة الاختلاف مع المرحوم علي بن عيّاد مدير الفرقة البلديّة لمدينة تونس) ويتطلّعون في تلك الفترة إلى مضامين تعكس مشكلات الحاضر الاجتماعي في تناقضه مع الوضع السّائد اقتصاديّا وثقافيّا؛ بالإضافة إلى اقتناع بعض منهم بضرورة إرساء مسرح سياسيّ على شاكلة مسرح برتولد بريشت.

مسرح الوعي في مواجهة مسرح التّرفيه

من أهمّ ما جاء في البيان انتقاده لمسرح التّرفيه المتأثّر بتمثيليات الفــــودفيل (vaudeville) المستوردة التي كانت تشغل، سنويّا، حيّزا من برمجة المسرح البلدي بالاتفاق مع وكالة حفلات كارسنتي وهربرت (Les Galas Karsenty-Herbert) التي احتكرت السّوق المسرحيّة في فرنسا إلى حدود السّتّينات من القرن الماضي بعروض متفاوتة القيمة، وكان يؤخذ عليها، خاصّة، اهتمامها بالفئات المرفّهة دون غيــرها. وقد رأى الممضون على البيان أنّ مسرح التّرفيه يكرّس اغتراب مرتاديه عن الواقع ويمدّهم في ذهولهم عن مشكلات الحاضر ولا يأبه لما تعانيه غالبيّة الشّعب من أدواء التّخلّف الاجتماعي والأخلاقي، مشدّدا على أنّ «توْنَسَة» المسرح تتمثّل أساسا في معالجة مشاكل الإنسان التـــّونسيّ حيثمــا كان وبالتّالي فإنّ المطلوب هو تأسيس مسرح ينشر الوعي بالحـــاضر في إطار لامركزيّة تحقّق العدالة في المجال الثّقافي.

البيان ضمن مسار المسرح التّونسي

واليوم وبعد مرور عقود على «بيان الأحد عشر»، وجب أن يُنْظَر إليه كحلقة من حلقات تاريخ المسرح التّونسيّ الزّاخر بالعطاء منذ بدايات القرن الماضي، وهو حدث يُضاف إلى نضالات رجال ونساء خدموا المسرح كلّ على طريقته وحسب ما اقتضته المرحلة التي ينتمي إليها، وكانت لهم تجارب رائدة في تجذير المسرح بالتّربة التّونسيّة وبلغ بعضها مستوى متميّزا مثل أعمال المرحوم علي بن عيّاد.

وبصرف النّظـر عن مـدى وجاهة أفكار جيل السّتّينات في توصيف الواقع المحلّي ومهما بدت اختياراتهم راديكاليّة لتأثّرها بحماسة شباب يتوق نحو التّغيير، فإنّ مضامين بيانهم أتى استجابة لهموم وتطلّعات كامنة في السّاحة الثّقافيّة وقد صادفت تربة ثريّة أنبتت رؤى وممـــارسات جديدة وإن تعدّدت مساراتها واختلفت في اختياراتها عن أفكار البيان في صيغتها النّضاليّة «الشّعبيّة»، فالثّابت أنّها طوّرت الفعل المسرحي وأضافت إليه الكثير وأدّت إلى ظهور تجارب مميّزة في الكتابة والتّمثيل والإخراج على امتداد عقود من الزّمن. ومن النّتائج المباشرة لبيان الأحد عشر نذكر انطلاق المسرح الجهوي منذ سنة 1967 في صفاقس والكاف ثمّ في قفصة ليصل خلال العقود التّالية إلى جهات أخرى. ومن روّاد ذلك المسرح المرحوم المنصف السّويسي والأمين النّهدي ورجاء فرحات وفاضل الجّعايبي ومحمد إدريس ورؤوف بن عمر وفاضل الجزيري وغيرهم. وقد حقّقت تلك التّجربة الخروج عن ثنائيّة الكاتب/المخرج إلى كتابة ركحيّة مندمجة تجمع إنتاج النّص وتمثيله وإخراجه في ديناميكيّة جماعيّة أعطت أفضل ثمارها في أعمال متميّزة لفرق مثل «المسرح الجديد» التي تأسّست سنة 1975 وجمعت بين فاضل الجعايبي ومحمد ادريس وجليلة بكّار وفاضل الجزيري والمرحوم الحبيب المسروقي وآذنت بظهور المسرح الخاصّ. وقد تلتها فرقــة «مســــرح فـو» (1979ومن مؤسّسيها توفيق الجبالي ورجاء بن عمّار والمنصف الصّايم؛ ثمّ ظهر خلال الثّمانينات «مسرح الأرض» (1984) مع نور الدّين وناجية الورغي و«المسرح العضوي» مع المرحوم «عزالدّين قنّون» (1985).

و«التياترو» ضمن مركز ثقافي خاصّ أسّسه توفيق الجبالي وزينب فرحات (1986) . وتوالت بعد ذلك الفرق الخاصّة إلى أن أصبحت ظاهرة مسيطرة في السّاحة المسرحيّة. ولعلّ من أهمّ الأحداث في هذا المجال بعث المسرح الوطني ومهرجان أيّام قرطاج المسرحيّة سنة 1983 تحت إدارة المرحوم المنصف السّويسي.

آفاق المسرح التّونسيهل من أسئلة جديدة؟

تلك بعض الملامح من حيويّة الحركة المسرحيّة الحديثة التي كان «بيان الأحد عشر» منطلقا لها. واليوم وقد أصبح المسرح ممارسة متنوّعة تحظى بمتابعة شرائح مختلفة من المجتمع كما يشهد بذلك الإقبال عليها لا بدّ من وقفة للتّساؤل عمّا إذا بقي لروح بيان الأحــد عشر من أثر، وما إذا كان الفنّ في حاجة إلى تســـاؤلات جديدة وأيّ قضايا مستحدثة يمكن طرحها لرفد أسسه الفكريّة والجماليّة والحفاظ على حيويّته التي تتهدّدها أشكال تعبيريّة أخرى من عالم الصّورة والتّكنولوجيات الحديثة التي بسطت سلطتها على الأفئدة والعقول.

لقد غلبـــت على المســـرح في السّنــوات الأخيرة الشّكلانيّة الجماليّة والتّعبير الجسديّ والمؤثّرات الرّكحيّة ولعلّه يشهد في أغلب انجازاته افتقارا إلى مسوّغات فكريّة واضحة نظرا إلى اختلال التّوازن بين النصّ وانجازه الرّكحيّ في الكثير من التّجارب. إنّنا نلاحظ اعتماد الكثير من الأعمال المسرحيّة نصوصا ذات بناء فوضويّ ودلالات غائمة بدعوى الحداثة فأيّ فكر وأيّ تعبير عميق وأيّ شاعريّة وأيّ اختيارات جماليّة يمكن أن تحملها إلى الجمهور؟ والأدهى أنّ الكثيرين من رجال المسرح عزفوا عن إنتاج أعمال باللّغة العربيّة الفصحى بدعوى أنّ العاميّة هي الأقرب إلى الشّعب وهي مقولة مردودة على قائليها، فكأنّما العربيّة في نفور مع جماليات المسرح وكأنّها عصيّة على فهم جمهور من الأميّين لا يفهمونها. تجدر الإشارة في هذا الصّدد إلى أنّ المسرح الوطني الشّعبي الفرنسي الذي كان نموذجا للمسرحيين التّونسيين في مرحلة ما، لم تمنعه «شعبيته من تقديم نصوص كلاسيكية أصليّة أو مترجمة في لغة أدبيّة. وقد نحى المرحوم المنصف السّويسي ذلك المنحى بإخراج نصوص بالفصحى كتب بعضها عز الدّين المدني.

وسواء كان النّــــص عـــاميّا أو فصيحا فهو يظلّ عنصرا هـــامّا ذا طبيعة مزدوجة، أدبيّة فكريّة وركحيّة مشهديّة، ويكسبه التّفاعل بين الطّبيعتين خصوصيّته كشكـــل يحمـــل رؤى مفتوحة على تأويــــلات كثيرة يغنم منها المسرح كلّ الغنم؛ كما أنّ له دورا مميّزا في تحقيق التّواصل بين المسرح وجمهوره لما يحمله من معان ودلالات وسمات ثقافية تشدّه إلى السّياق الاجتماعي والحضاري الذي ينشأ فيه. فهل من جيل جديد يشحن الفعل المسرحي برؤى وأهداف جديدة وهل يكون أحدها دعم حضور النصّ المخبر عن فرادة روحيّة وفكريّة رائدة ويمكن مشاهدته على المسرح ومطالعته في كتاب؟.

علي اللواتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.