محـمّد المصـمودي: من ابن صيّاد بحري بسيط إلى رجل دولة
في السنة الأولى من حياتي الجامعية في باريس (1949 – 1950)، وجدت محـمّد المصمودي رئيسا للشعبة الطلابية الدستورية، والطيب المهيري كاتبها العام وعبد القادر السلامي أمين المال. وحدث في السنة نفسها أن قرر الديوان السياسي إقصاء سليمان بن سليمان من الحزب بسبب مواقفه الموالية للشيوعيين. واعتبرت أنّ فصل الرجل التقدمي الوحيد في تشكيلة الديوان السياسي قد يعني أنّ الحزب الحر الدستوري الجديد لم يعد تجمّعا يشمل كافة أبناء الوطن، مهما كانت اتجاهاتهم الاجتماعية.
عبرّت عن استيائي في رسالة إلى الديوان السياسي وعرضتها على عدد من الطلبة الدستوريين. فجمعت حوالي عشرين توقيعا، وسلّمت الرسالة إلى هيئة الشعبة طالبا منها إيصالها بشكل نظامي إلى إدارة الحزب. وعلمت أن محـمد المصمودي رئيس الشعبة صَاحَب الرسالة بملاحظة، وهي أنّ عدد الطلبة المستائين من طرد سليمان بن سليمان يفوق عدد الموقعين. وبعد يومين أو ثلاثة أيام، قابلت صدفة المصمودي، فأبدى تفهما لموقفي، ذاكرا أنّه لن ينسى أبدا أنه ابن صيّاد بحري بسيط.
دور المصمودي المزدوج
كان المصمودي معروفا في اجتماعات الشعبة بصراحته وبمواقفه التي لا تنسجم دوما مع سياسة إدارة الحزب، ممّا جعل عددا من الطلبة الدستوريين يسعون إلى إزاحته، فلم يقدروا، لأنّهم كانوا يمثلون أقليّة في الشعبة.
وبجانب عمله في إطار الشعبة، كان محـمد المصمودي كثير الاتّصال بالأوساط الفرنسية من مسؤولين سياسيين وإعلاميين قصد إقناعهم بضرورة تمكين تونس من استقلالها الداخلي. كما يسّر مهمة الزعيم الحبيب بورقيبة عند قدومه إلى فرنسا، فعرَّف المجاهد الأكبر بكثير من الصحفيين، وساعد رئيس الحزب على تقديم برنامجه ذي السبع نقاط سنة 1950. وكان دوره فعّالا لما اندلعت الثورة التونسية في 18 جانفي 1952، وقام بدور حاسم في حلول رئيس الحكومة الفرنسية منداس فرانس بتونس، واعترافه الرسمي بحق تونس في استقلالها الداخلي.
وبفضل اتصالات المصمودي الواسعة بالساسة الفرنسيين، كان من الطبيعي أن يعيّن ضمن الوفد الـحكومي التونسي المكلّف بالتفاوض مع الحكومة الفرنسية. ثم أصبح مع بورقيبة مدافعا قويّا عن اتفاقات الحكم الذاتي، ومعارضا شديدا لسياسة صالح بن يوسف الذي كان يزعم أنّ هذه الاتفاقيات تشكّل خطوة إلى الوراء.
المصمودي رجل دولة
لكن صراحة المصمودي جعلت عدد خصومه يتزايد حتى من بين البورقيبيين. لذلك لم يعيّن وزيرا في حكومة الاستقلال الأولى برئاسة الحبيب بورقيبة سنة 1956، لكنه احتفظ بعضويته في الديوان السياسي الذي تمّ تشكيله إثر مؤتمر صفاقس سنة 1955.
وتوطّدت العلاقات بيني وبينه لما سمّي سنة 1958 على رأس كتابة الدولة للإخبار، وكنت وقتها فيها مدير الإخبار. فترك لي حرية العمل دون أي احتراز. لكني وجدت أنه أصبح ينتقد مواقف بورقيبة. وكان انتقاده أكثر وضوحا وشدّة لخطاب الرئيس الذي ندّد فيه بتناقص الإنتاج في شهر رمضان. والحقيقة أنّ المصمودي أخذ يبتعد شيئا فشيئا عن بورقيبة. و كانت القطيعة عندما نشرت جريدة «أفريك أكسيون» مقالها المشهور حول الحكم الفردي. والمعروف أنّ صداقة قوية تربط المصمودي بالبشير بن يحمد، مدير الجريدة. فتمّ فصل المصمودي عن الديوان السياسي أوّلا، ثم عن مسؤوليته على رأس كتابة الدولة للإخبار.
وابتعد المصمودي عن الأضواء سنوات عديدة. وبعد اضطلاعه بمهامّ سفير تونس بباريس ،عيّن وزيرا للخارجية سنة 1970 لكنه لم يمكث طويلا في هذه الخطة، إذ وُضع حد لمهمته إثر توقيع بورقيبة والقذافي على معاهدة جربة الرامية إلى توحيد تونس وليبيا في دولة واحدة. و قد وجدت هذه المعاهدة معارضة من قبل بعض الساسة التونسيين خاصّة من بين من لم تذكر أسماؤهم في قائمة أعضاء الحكومة التي أعدّها معمر القذافي للدولة الجديدة. كما ناهض الوزيرالأول الهادي نويرة مشروع الوحدة. وقيل إنّه اتّخذ هذا الموقف لأنّه لم يكن على علم بالتحضيرات التي تمّت بين المصمودي ومعمر القذافي في طرابلس. وإني أنزّه المرحوم الهادي نويرة من أنّه عارض مشروعا مصيريا لأسباب شخصية. والحقيقة أنّ الوزير الأول كان عرضة لضغوط دولية قويّة، وحتى لتهديدات خارجية جديّة. ذلك أنّ وحدة بين تونس وليبيا تغيّر التوازن في المنطقتين المتوسطية والأفريقية، إذ تحدث دولة كبرى لها إمكانيات بشرية هامّة وخيرات نفطية وفيرة.
وهكذا كان مـحمد المصمودي كبش الفداء، فغادر تونس التي خسرت مناضلا صادقا ذا تجارب ثرية.
حــــامد الزغل
- اكتب تعليق
- تعليق