أخبار - 2016.11.04

الإبهــار‭ ‬و‬الإرهـاب:‭ ‬ جنــون‭ ‬يغـــذّي‭ ‬جنـونـا

الإبهــار‭ ‬و‬الإرهـاب:‭ ‬ جنــون‭ ‬يغـــذّي‭ ‬جنـونـا

لقد شهد العالم خلال هذه الصائفة تفشّيا لنوع جديد من الأعمال الإرهابية عسر من خلالها التّمييز بين الجنون العقدي، أي الإرهاب بالمعنى المتداول عموما، والجنون المرضي، أي المشاكل النفسية العميقة التي قد تؤدّي إلى أقصى درجات العنففبعض الجرائم التي وُصفت بالإرهابية والتي شهدتها بلدان كفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة واليابان وغيرها، وإن كانت لم تخل كلها من دوافع عقدية، فانّ شخصيات مرتكبيها وأساليب تنفيذها لم تسمح للسرديات الكلاسيكية باحتكار الفضاء الإعلامي، وذلك رغم المحاولات الكثيرة لتسويقها على أنها أعمال إرهابية عادية.

لم يمنع هول الفاجعة قطاعات واسعة من الرأي العام في هذه البلدان من رفض تجاهل العامل النفسي الذي يبدو أنه طغى في بعض الأحيان على الأبعاد التنظيمية وحتى الإيديولوجية في الدفع للجريمة. ذلك أنّ الروابط المثبتة لبعض الجناة بتنظيمات إرهابية دولية، أو حتى بخلايا محلية نائمة، غير مقنعة. في حين أنه من الواضح أنهم قد عاشوا مشاكل نفسية حادة، وصلت أحيانا الى حدّ محاولة الانتحار. وبالتالي فإن تنفيذهم لعملية إرهابية لا يمكن أن تؤدي لغير موتهم ليس إلا سبيلا آخر إلى التدمير الذاتي، فالإرهاب هو أيضا شكل من أشكال الانتحار. ولكنه انتحار مقترن بجريمة قتل جماعي وبنيّة إلحاق الأذى بأكثر عدد ممكن. والعلاقة السّببية بين البعدين واضحة للعيان. فمن المنطقي أنّ من يملك الاستعداد للإقدام على الانتحار أقرب للإرهاب من غيره. فمن يقبل بإيذاء نفسه أقدر على إيذاء الآخرين. ويبقى الحديث الرسمي عن الانزلاق السريع نحو التّطرّف، كما في حالة محمد بوهلال مرتكب جريمة نيس، مشوبا بتساؤلات مشروعة حول طبيعة العلاقة السببية التي تربط بين العناصر الثلاثة المشكّلة للغز: الحالة النفسية المرضية واعتناق الفكر الإرهابي والإقدام على جريمة الارهاب.

إن العلاقة المفترضة بين المشاكل النفسية من جهة والقابلية للتدمير الذاتي والجماعي من جهة أخرى لا تكفيان لتفسير الإرهاب. والحديث عنها لا يُمثّل بأيّ حال من الأحوال تبريرا لجرائمها أو تخفيفا من مسؤوليات مقترفيها. ولكنّها دعوة إلى الوعي بنتيجة خفية من نتائج الإرهاب الذي يساهم من خلال أثر الابهار لديه في تقوية ديناميكيات الهدم عند بعض الأفراد شديدي الضعف نفسيا. فمن شأن انتشار هذه الظاهرة أن يمنح المعنى للتدمير الذاتي، وذلك من خلال تبرير الإيذاء الجماعي. وهو ما ينتقل بالراغب في الانتحار من الشعور بالخوف المرتبط بغريزة الحياة لديه الى الإغراء الضبابي بنجاة لا يزيدها غموضها إلا سحرا. وليست هذه النجاة أخروية فحسب. من دون أن يفهم هذا الكلام أنه نفي لأهمية هذا للبعد الأخروي كمحفز للإرهاب. ولكن فيه تذكير بحدوده باعتباره لا ينسحب مثلا على الأعمال الإرهابية غير المبررة دينيا ومنها أحداث القتل الجماعي التي كثيرا ما تشهدها الولايات المتحدة، وإن تجنب الإعلام وصفها بالإرهابية.ان للنجاة التي يطمح إليها المقدم على الجمع بين الفناء والإيذاء بعدا دنيويا، رغم ما في ذلك من تناقض بيّن. وللجمع بين عناصر هذه المفارقة يجب أن لا ننسى أننا لسنا بمعرض طرح قضية عقلانية يمكن فهم بنيانها الداخلي. وإنّما نتعاطى مع جنون ذي أبعاد مختلفة، نسعى إلى فك شفرات العلاقة بينها. إن النجاة الدنيوية المقصودة في هذا السياق مرتبطة بالقيمة المعنوية التي يتمتّع بها الإرهابيون لدى أولئك الذين انزلقوا إلى منحدر التدمير الذاتي. ويمكن تعريف هذه القيمة بأنها رأس مال رمزي يجعل من أصحابه أبطالا يُقتفى أثرهم. مما يعني أنّ الإرهاب قد يمثل دفعة تسرع بالوصول إلى سفح منحدر التدمير الذاتي لمن يحلم بإدراك هذه الرمزية من خلال بوابة الإيذاء الجماعي. ومن شأن الهوس الإعلامي الذي يعقب كل عملية إرهابية أن يضاعف أثر الإغراء لدى هؤلاء الذين يخالجهم إغواء الفناء. ولاستيعاب ذلك يكفي أن نتخيّل التعاطف الذي قد يشعر به ناقم على المجتمع مع من ألحق الأذى بذلك المجتمع، خاصة حين يكتشف هذا الناقم أنّ الإرهابي الذي سبقه قد نجح في إسداء المعنى على تدميره الذاتي. وبالتالي ينتقل الانتحار في نظره تدريجيا من عمل منعزل يمثّل منتهى لهذا التدمير، إلى فعل معقلن، وإن جنونيا، في إطار مسيرة جماعية مستمرة من أجل قضية توهم بالقيمة. أي أنّ الإرهاب يملي على بعض الميّالين إلى الانتحار سردية جديدة تقنعهم بأنّ نجاح موتهم سيغسل فشلهم في حياتهم، على الأقل لدى أشباههم.

وهي مسيرة تختلف جوهريا عن الديناميكيات العقدية التي قد يؤدّي فيها الغلوّ تدريجيا إلى الإرهاب. وتبعات هذا الاختلاف كثيرة من أبرزها أنها تجعل من العسير جدّا تصوّر نموذج، وإن تقريبيا، لشخصية الإرهابي. وقد عبّر عن ذلك وزير الداخلية الفرنسي برنار كازناف حين صرّح أنّ عملية نيس قد أعلنت عن بروز نمط من الإرهاب تصعب مقاومته لعسر توقّعه.

لا شكّ أنّ رئيسة الحكومة البريطانية السابقة، مارغريت تاتشر حين قالت إنّ الإعلام هو أكسجين الإرهاب، لم تكن تقصد هذا البعد. ولكن قولها يعبّر بدقة مفزعة عن الحلقة المفرغة التي يعيشها عالمنا اليوم. ذلك أنّ تحالف الأفكار الهدّامة مع التكنولوجيا الحديثة قد أوصل الإبهار إلى حدّ الجنون. ولكنه قد يجعل في نفس الوقت من الجنون وسيلة للإبهار. ولا يكفي المجال المتاح لبيان كل تبعات العلاقة الشائكة بين الإبهار والإرهاب. ولكن الإشارة إليها تذكير بضرورة تجاوز كل القراءات التبسيطية لإشكالية الإرهاب وروافده. فالقول بمحاربته قد يمثّل في حدّ ذاته رافدا خفيّا من روافده خاصّة حين يؤدي إلى ملء الفضاء العام بصوّر جرائمه وبردود الفعل التي تثيرها. اذ أنّ من الواضح أنّ تلقّي الجمهور لهذه الصّور ولتلك الرّدود شديد التّعقيد ولا يخضع للأحكام المسبقة.

أيمن البوغانمي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.