في دكتاتورية »الفيتو«: حلب تدمر تحت وطأة »صدام الهمجيات«

في دكتاتورية »الفيتو«: حلب تدمر تحت وطأة «صدام الهمجيات»

مصطلح " صدام الهمجيات " هو مستعار من كتاب بنفس العنوان صدر في أكتوبر 2002 (سنة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001) للباحث والكاتب اللبناني (جلبير الأشقر) وهو عنوان مضاد لمصطلح " صراع الحضارات " للمنظر الأميركي اليهودي (صمويل هنتنغتون) الذي نظّر للصراع مع الحضارة الإسلامية من خلال العمل على نشر نموذج " الدولة العلمانية الليبيرالية الحديثة " واعتماده في إدارة العالم في إطار الأحادية القطبية (الغربية الأميركية) بعد نهاية الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفياتي , وهي المقاربة التي يبدو أنها مثلت المرجعية الإيديولوجية والمحفز الخفي للتدخلات العسكرية والحروب المباشرة أو غير المباشرة التي اعتمدتها الإدارات الأميركية المتعاقبة وحلفاؤها في العديد من المناطق وخاصة في منطقة الشرق الأوسط (العراق وسوريا تحديدا) في إطار السعي إلى تجسيد استراتيجيتها لإقامة " نظام عالمي جديد " على أساس الأحادية القطبية بنية " التحكم " في العالم. وباختصار شديد يمكن اختزال مقاربة الأكاديمي جلبير الأشقر في الميل إلى تغليب النظرية القائلة بأن الحضارات لا تتصارع ماديا فيما بينها بل تتنافس وتتناظر ولا تتصادم باستعمال العنف ولا تلجأ إلى السلاح, بينما " الهمجيات " تتصادم بالعنف وتمارس الإرهاب وتلجأ إلى استعمال كل أنواع الأسلحة المدمرة , مع الملاحظة بأن " صدام الهمجيات " قد يمثل العنصر المادي لصراع الحضارات خاصة وأن تلك الصدامات أو الصراعات غالبا ما تغذيها خلافات إيديولوجية أو عقائدية تقف وراءها الدول في مواجهة بعضها البعض أو في مواجهات مع جماعات متشددة تنتمي للدول أو للحضارات المتنازعة، ومن هنا تأتي ممارسات العنف بين الدول وضد الجماعات المتطرفة في إطار ما يعرف "بإرهاب الدولة" وتأتي ردود الفعل من الجماعات المتطرفة والمتشددة في شكل ممارسات إرهابية منظمة وقوية إلى درجة توخي نظام الدولة كما هو الحال اليوم لتنظيم "داعش".

وبالرجوع إلى موضوع الحال في هذا المقال وفي الوقت الذي يدمي فيه القلب مما يحصل من قتل ودمار في حلب وما قد ينتظر جزءها الشرقي بصورة خاصة من تخريب كامل وإبادة جماعية لساكنيها من حاملي السلاح ضد النظام ومن المدنيين بدون تمييز لأن ذلك غير مؤمّن في ظل العمليات الحربية المتواصلة , ومع فشل مجلس الأمن الدولي نهاية الأسبوع الفارط في تمرير أي من مشروعي القرارين الفرنسي والروسي وبالتالي عجزه عن إقرار هدنة لإعطاء فرصة جديدة للتفاوض , فلا مناص من الإقرار بأن ما يعرف بالمجتمع الدولي (الذي يستأثر لنفسه بحق الرقابة على العالم) قد فشل مرة أخرى في تجاوز أنانياته الذاتية وخلافاته المصلحية ولم يتوفق حتى إلى احترام روح ومبادئ الميثاق الأممي الذي خوله حق النقض " الفيتو " في إطار صلاحيات المجلس للحفاظ على السلم والأمن الدوليين. ومع الإقرار بأن ما يجري على الأرض في حلب وفي سوريا بصورة عامة ( وحتى في العراق وفي اليمن وليبيا أيضا ) هو تجسيد لمقاربة " صدام الهمجيات " بكل المقاييس مع دخول فاعل جديد منذ أكثر من سنة في سوريا بصورة خاصة في " اللعبة الهمجية " وهو النظام الروسي بكل ثقله الدبلوماسي والعسكري سعيا إلى استرجاع أو تأمين موقعه في جيوسياسية المنطقة على سواحل سوريا بالقرب من "المياه الدافئة" ، وقد نجح لحد الآن على الأقل في إعادة خلط الأوراق وفي انتزاع عديد الأوراق ومساحات هامة من مسرح العمليات من الأطراف التي كانت إلى وقت قريب تمارس السيادة والقوة الفاعلة على الأرض بالمنطقة بدون منافس، ومن إفرازات هذا الاستعمال المفرط لحق النقض انعكاساته السلبية على الأمن والسلم العالميين وعلى الدول والشعوب المستضعفة والجماعات المضطهدة وعلى العلاقات الدولية بصورة عامة بما في ذلك العلاقات بين الدول الكبرى وبالذات الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن التي أصبحت تكيل لبعضها البعض عديد الاتهامات وأخطرها "جرائم الحرب" وحتى التلويح بتجميد العلاقات الدبلوماسية، من ذلك أن فرنسا صرحت بأنها ستقاضي روسيا من أجل ارتكابها جرائم حرب في سوريا أمام المحكمة الجنائية الدولية بينما أعلن الرئيس الروسي (بوتين) عن إلغاء أو إرجاء زيارة لباريس لأن الرئيس (هولاند) يريد أن يقتصر اللقاء على الأزمة السورية. وفي تفاعل آخر مع ما جرى عليه التصويت داخل مجلس الأمن تشير الأخبار إلى أن المملكة العربية السعودية قد تقطع إمدادات النفط على مصر عقابا لها لتصويتها لفائدة مشروع القرار الروسي مع أنها صوتت في نفس الجلسة لفائدة المشروع الفرنسي.

ويمكن أن تتواصل مضاعفات الاستغلال المفرط لحق النقض على أوجه أخرى من مسار العلاقات بين الدول بطواقم انعكاساتها السيئة على الشعوب وعلى التعاون الدولي بصورة عامة ( كما هو الشأن  بالنسبة للقضية الفلسطينية التي لا تزال تراوح مكانها منذ عقود من جراء ما يمكن نعته بدكتاتورية الفيتو) . ويبدو أن القادم أسوأ على المنطقة بأكملها ( مينا ) في إطار جولة جديدة من الحرب الباردة – الساخنة لا يعرف مداها الجغرافي والزمني وتنبئ بعواقب وخيمة على الشعوب إذا لم تتدارك القوى المتصارعة أمرها وتعود بسرعة إلى رشدها بالرجوع إلى طاولة المفاوضات واعتماد الدبلوماسية لإيجاد الحلول السلمية للإشكالات القائمة بما يضع حدا للعنف وللقتل وللدمار ويحفظ حق الشعوب في تقرير مصيرها والعيش في الأمن والأمان, على أن توجه الجهود بصورة موحدة إلى التحكم في الجماعات المتشددة الحاملة للسلاح للحد من فعاليتها على الميدان وقطع السبل أمامها في مواصلة ممارساتها الإرهابية في كل مناطق التوتر وخاصة بإقليم الشرق اللأوسط وشمال إفريقيا ومربع الساحل الصحراوي المتاخم، مع الانكباب على العمل الجدي من أجل معالجة الأزمة العالمية القائمة على ظاهرة الإرهاب وهي الواجهة المعلنة من الأزمة بصورة جذرية في إطار مؤتمر دولي للتصدي للإرهاب تحت مظلة الأمم المتحدة أو ضمن دورة استثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة تتضمن مخرجاته معالجة شاملة ومندمجة تغطي كل عناصر الأزمة القائمة على الميدان وتؤمّن التعاطي مع المراحل اللاحقة على أساس الشرعية والعدالة واحترام المواثيق الدولية ذات الصلة ، بما في ذلك معالجة أسباب الأزمة في جذورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تغذي الخلافات بين الدول والانتفاضات داخلها ومن ضمنها الحث على عدم استغلال الدين من طرف الحركات المتشددة لأغراض سياسية وجعل الدين في منأى عن الخلافات والتجاذبات السياسية حفاظا على قداسته وعلويته، دون إغفال القضية الفلسطينية التي تبقى الضحية الكبرى للنظام العالمي الموروث عن الحرب العالمية الثانية.

قد يكون ما ذهبت إليه من قبيل الحلم والخيال في ظل المناخ الدولي الحالي القائم على التغول الدبلوماسي والعسكري للدول الكبرى مع افتقارها للإرادة السياسية الحقيقية وللنجاعة في تظاهرها بالسعي لفض الإشكالات المستعصية والتي قد تكون ساهمت في إيجادها من خلال السياسات التي فرضتها على البلدان التي تدخلت فيها عسكريا وخاصة العراق , ولكن الفشل السياسي والبراغماتية والواقعية السياسية وضغط الرأي العام الوطني في البلدان "الديمقراطية" قد يجبر الحكومات على النقد الذاتي وعلى توخي المرونة اللازمة في التعاطي مع الأزمات بالانخراط في التوافقات السياسية والدبلوماسية التي عادة ما تحجب مظاهر الفشل وتبرز مظاهر النجاح، وبلغة أخرى تبقى كل الفرضيات واردة في العلاقات الدولية ويبقى كل شيء ممكنا في الدبلوماسية وهي "فن الممكن" في فض النزاعات وحل الأزمات. ففي السياسة وفي الدبلوماسية لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة والكل يبقى رهن التقييمات على أساس المصالح عاجلة كانت أم آجلة وصديق الأمس يمكن أن يصبح عدوا إذا تصادمت المصالح وعدو الأمس يمكن أن يصبح صديقا إذا التقت المصالح . هكذا "تصالحت" أميركا في الستينات مع الصين ومنذ سنة مع كوبا ومع إيران وسرعان ما تم تجاوز أزمة إسقاط الطائرة الروسية بين تركيا وروسيا منذ أشهر، ما نتج عنه تليين في الموقف التركي من النظام السوري قابله فتور في العلاقات بين تركيا والإدارة الأميركية. على هذا الأساس وإذا ما التقت الشعوب والدول المتضررة من الأزمة الحالية على "كلمة سواء" لإعلان رفضها للتدخل الخارجي مهما كان مصدره وتمسكها بحقها في تقرير مصيرها بنفسها وإعلانها القيام بالمبادرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية اللازمة لمعالجة قضاياها الوطنية والإقليمية فإن الدول الأجنبية المتدخلة قد تجد نفسها مضطرة بحكم الواقعية والبرغماتية على القبول بالواقع والإعلان عن وضع حد لتدخلاتها (خاصة العسكرية) والجلوس على طاولة المفاوضات الدولية صلب المنتظم الأممي من أجل المعالجة المنشودة لأزمة الإرهاب العالمية المتفاقمة في إطار التعاون الدولي متعدد الأطراف الذي يبقى على شوائبه الإطار الأمثل لمعالجة  قضايا وإشكالات مستعصية على الساحة الجيوسياسية إقليميا ودوليا.

وفي سياق الإشارة إلى النظام العالمي ( غير المتوازن ) الموروث عن الحرب العالمية الثانية وبعد فشل المحاولات الهادفة إلى إقامة نظام عالمي جديد على أساس الأحادية القطبية، خاصة بعد استفاقة "الدب" الروسي من صدمته إثر سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين واضمحلال حلف فرصوفيا وتقدم روسيا ( الجديدة ) كلاعب أساسي على الساحة الدولية والإقليمية ، فلا مناص اليوم من تعبئة الإرادة السياسية والدبلوماسية على المستويين الإقليمي والدولي من أجل إعادة فتح ملف إصلاح المنظومة الدولية الموروثة عن الحرب العالمية الثانية بمختلف آلياتها خاصة الدبلوماسية والمالية والاقتصادية بدءا بالهرم الهيكلي للأمم المتحدة بهدف إدخال جرعة ديمقراطية توازن بين ركيزتيه الأساسيتين ( مجلس الأمن والجمعية العمومية) وتحدث قدرا من التوازن بين الدول الأعضاء ولو بصورة نسبية تحفظ للدول الكبرى مكانتها باعتبار حجمها ومدى مساهمتها في الأعباء المالية لميزانية المنظومة. وتهدف مقاربة الإصلاح فيما تهدف كما تم تداولها منذ سنوات خاصة بعد انهيار الثنائية القطبية إلى معالجة حق النقض ( الفيتو ) في مجلس الأمن على أساس أحد السيناريوهين:

السيناريو الأول يتمثل في توسيع تركيبة مجلس الأمن بما في ذلك الترفيع في عدد الدول المتمتعة بحق النقض بما يكفل تمثيلا دوليا يتسع إلى عدد من الدول الكبرى الجديدة ضمن الدول المتقدمة مثل ألمانيا واليابان ومن الدول الصاعدة في كل من آسيا وأميركا اللاتينية وإفريقيا مثل الهند والبرازيل وإفريقيا الجنوبية مع ضمان تمثيل ولو بالتناوب لمجموعة الدول العربية والإسلامية ، هذا التمشي يعتبر حلا منقوصا قد يمثل معالجة محدودة لمسألة انعدام التوازن في تمثيل الدول وبين المجلس والجمعية العمومية ولكن لا يعالج مشكلة الإفراط في استعمال حق النقض لا من طرف الدول الخمس " العظمى " ولا من طرف الدول الجديدة خاصة منها المنتمية للدول النامية.

السيناريو الثاني أكثر جرأة لتأمين الإصلاح الهيكلي المنشود ويهدف إلى " دمقرطة " العلاقات الدولية في إطار التعددية القطبية بما يؤمّن إقامة نظام عالمي جديد أكثر توازنا وأكثر عدلا من خلال إعادة مأسسة هياكل المنظومة الأممية على أساس ديمقراطية تشاركية حقيقية في تركيبة الهياكل المنتخبة ومنهجية ممارسة صلاحياتها، وهذا يستدعي فضلا عن ترسيخ قاعدة الاقتراع المفتوح لتأمين توسعة متوازنة في تركيبة المجلس الجديدة التخلي عن حق النقض وتعويضه بآلية عادلة تستمد من قواعد الاقتراع الجديدة التي قد تعتمد في تسيير المجلس على أساس نظام الأغلبيات بما يحفظ قاعدة التوازن ومبدأ العدالة في ممارسة المجلس لصلاحياته . هذه الفرضية في إصلاح المنتظم الأممي والتي يجب أن تمتدّ إلى إدماج مؤسسات " برتن وودز " المالية والاقتصادية بما فيها المنظمة العالمية للتجارة في البرنامج الإصلاحي قد تنتج في النهاية ما يشبه " الدولة العالمية أو الكونية " الديمقراطية بجمعية عمومية تضم كافة الدول الأعضاء ولها صبغة "برلمان دولي" وبمجلس أمن يأخذ صبغة "حكومة دولية" منتخبة تدار بطريقة ديمقراطية وتكون مسؤولة أمام البرلمان الدولي، وإذا توفقت المجموعة الدولية بمختلف مكوناتها إلى مثل هكذا إصلاح للنظام الدولي الحالي فسيجنب العالم الكثير من الإشكالات والأزمات والأحداث المؤلمة التي يخبئها الزمن في حقباته المقبلة والتي لا يمكن التكهن بمدى ويلاتها لا قدر الله , والأمل كل الأمل هو أن لا نكون في حاجة إلى حرب عالمية ثالثة قد تكون أكثر دمارا للعالم من سبقاتها لإقامة نظام عالمي جديد على أنقاضها قد يكون أسوأ من النظام الحالي.

أخيرا وليس آخرا لا يفوتني وأنا أتوغل في أغوار مثل هذه القضايا والإشكالات الجيوسياسية المتشعبة والمستعصية التي تهم تونس عن قرب في أكثر من جانب أن أتساءل عن مدى تفاعل دبلوماسيتنا معها في إطار متابعتها للتطورات الجيوسياسية في محيطها الإقليمي والدولي ، مع اليقين بأن الدبلوماسية التونسية العريقة وذات الخبرة الواسعة بالعلاقات الدولية لها من الحنكة ومن القدرات البشرية والتجارب المتراكمة في تعاملها مع الأحداث الإقليمية والدولية ما يؤهلها للتعاطي والتفاعل مع المعطيات الجيوسياسية الراهنة بكل تبصر وإيجابية ، ونتمنى أن تكون فاعلة في هذه القضايا على المستويين الإقليمي والدولي تثمينا لرصيد الثقة الذي تحظى به على الصعيد الدولي خاصة بعد نجاحها في مسار التحول السياسي الديمقراطي في إطار ما أصبح يعرف "بالربيع التونسي" (بصرف النظر عن الركود الاقتصادي الذي يسود البلاد منذ خمس سنوات وما يصحبه من توتر في الأوضاع والعلاقات الاجتماعية). نسأل الله التوفيق والنجاح.

صالح الحامدي
سفير سابق
                                                    





 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.