مواقف وآراء -
2016.09.15
ماذا بعد مرحلة 'الفوضى المستقرة'؟
بقلم بوجمعة الرميلي - عندما يصل الأمر بنا إلى حد التساؤل من طرف الكثير من بيننا حول ما إذا كنا رابحين أم خاسرين من الثورة فهذا مؤشر جدي حول النقطة الدقيقة التي وصلنا إليها. وإن كان مثل هذا السؤال ليس من صنف الممنوعات، لأن الثورات ليس محكوم عليها بالنجاح بصفة حتمية، خاصة فيما يتعلق بالثورات العفوية، بدون قيادة وتأطير وتخطيط ومساهمة منظمة وبأهداف ومراحل محددة.
لكن الثورة العفوية، مثل ثورتنا التونسية، التي تواكبها وحتى تطغى عليها في بداياتها ولمدة قد تقصر أو تطول الذبذبة واللخبطة والتردد، لها مزاياها، من حيث هي ثورة غير مقيّدة، وحساباتها ليست محسوبة، مفتوحة على احتمالات التجديد والإبداع والابتكار وخاصة المساهمة الأوسع للمجتمع. وبالتالي فالجواب ليس بالحكم المطلق بالربح أو بالخسارة، وإنما هي حسبة، من نوع نحن الآن في كم من الربح وكم من الخسارة.
وحتّى هذا النوع من التقدير لا يجب أن يكون ساكنا وإنما متحرك، من نوع كم من الربح وكم من الخسارة، الآن ومستقبلا. حيث إذا رسمنا كهدف للانتقال الثوري إحلال التقدم النوعي على كل المستويات، في الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمؤسساتي، فإن ذلك سيتطلب فتح حضيرة كبرى ومتشعبة، تستغرق عشر سنوات على الأقل. وهو ما يفرض علينا ما لم ننجح إلى حد الآن في تصوره وصياغته ألا وهو التمشي المزدوج، الذي يوفق، من ناحية أولى، بين ضرورة 'التواصل'، حتى ببعض الآليات الأدوات القديمة، شرط ألا تعطل الانتقال، لضمان مستلزمات الحياة اليومية ومتطلبات الحاجيات الملحة التي ليس شأنها 'تحقيق أهداف الثورة' مقابل تأجيل ما لا يقبل التأجيل و، من ناحية ثانية، تشييد البناء المستقبلي الجديد، الذي بالضرورة سيتضمن جانبا كبيرا من 'القطيعة' وإلا فهي ليست ثورة.
وليس هذا التعقيد هو الوحيد الذي واجهه ولا يزال الانتقال الثوري التونسي، الذي لم تطرح عليه في واقع الأمر محطتين فقط، 'المراوحة' أو 'التقدم' نحو الأفضل الديمقراطي والتنموي، وإنما ثلاث محطات إذا أضفنا محطة 'التقهقر إلى الوراء'. وكان لزاما في ظل التعقيد المطلق للثورة التونسية اعتماد الازدواجية في التمشي كما أشرنا إليه وكما وقعت ممارسته في بداية الأمر حيث لا يجب أن ننسى أن انطلاق البناء الجديد كان على أساس دستور 1959 ومحمد الغنوشي كوزير أول وفؤاد المبزع كرئيس جمهورية. أي أننا في البداية توصلنا إلى الفهم بأن بناء الجديد لا يمكن أن يكون بصفة معلّقة بين سماء وأرض وإنما بالارتكاز الأدنى على جزء من الموجود، مع العلم أنه تم في نفس الوقت حل البرلمان ومجلس المستشارين، وبالتدرج الحذر لكنه الفعلي والحقيقي نحو نسج الشبكة الديمقراطية الجديدة بقوانينها ومؤسساتها وآلياتها.
وكان بالإمكان في ظل نفس الفلسفة اتخاذ القرار بعدم المساس بالماكينة الاقتصادية وماكينة الإدارة، على علاتها، وإدخال الإصلاح والتغيير بجرعات مدروسة في خصوص قابليتها ومخاطر الرفض التي قد تعترضها وكيفية التعامل معها. لكن عموما ما قمنا به تمثل بتلخيص شديد في الإصرار على تحطيم الموجود دون التأكد المسبق من قيام المنشود. و هكذا بقينا ننتظر خمس سنوات قبل أن تعود آليات الأمن للاشتغال من جديد بصفة قريبة من الطبيعية، بينما ضاعت في الأثناء آليات رفع الفضلات بدون رجعة. والذي ساهم في تكسير أداة الدولة هو ما سميناه 'محطة التقهقر إلى الوراء'، التي اتسمت بعقلية انتقامية تخلط بين السلطة والدولة، أتت بمنطق تصفية حسابات والتخلص من تركة بورقيبة.
كل هذه التعقيدات المضاعفة، بما فيه المطلبية المشطة خارج أي إطار عقلاني يراعي الظروف الوطنية الاستثنائية، وبالإضافة لردة فعل 'الجسم الإداري' الذي لم يقبل بالاستهداف الذي مورس عليه، كل هذا ساعد، مع استفحال التهرب والتهريب والفساد، على إحلال مرحلة 'الاستقرار الفوضوي' أو'الفوضى المستقرة' التي نحن الآن في قلبها. هذا المعطى يجب أن نقر به، والمنطلق لن يكون إلا من هذا الإقرار. لأن اللعبة لعبة مصالح، حتى نكتشف جماعيا وبالتجربة اليومية والملموسة أن التمادي في الفوضى والاستقرار في صلبها ليس في صالح لا الأفراد ولا الفئات ولا المجموعة الوطنية في مجملها. كما سنكتشف فرديا وجماعيا، يوميا وبالملموس، أن الدولة وحفظ النظام ليس من الكماليات وأن كل مخالف للقانون وكل متنطع ومتعنت ومستكبر ومتطاول على الدولة هو متطاول علينا جميعا وضارب لكل المصالح بما فيه مصلحته الخاصة إذا كانت شرعية. أي أن مرحلة إعادة التأسيس للدولة الديمقراطية، الذي هو مفتاح كل مسائلنا العالقة، لن يتم بالوعظ والإرشاد وب ‘بجاه ربي يهديكم'، وإنما بالطرح اليومي لمسألة الدولة كشرط الانتماء للمجموعة.
إن التجريم الصارم للخروج عن القانون والاستهتار بالدولة لا بد أن يصبح هو المفتاح العملي والمادي للانتماء الوطني. حيث تنقلب مسألة الردع لتصبح ليس من باب البحث المجرد على هيبة الدولة وإنما من باب الدفاع المشروع عن البقاء الجماعي، الذي يعني كل تونسي. ومن هنا لا نتصور أن أي حكومة معلقة بين سماء وأرض ستجد حلال ‘الفوضى المستقرة'.
لا بد أن تتحول مسألة الدولة إلى أم المسائل ومطلب حفظ النظام الديمقراطي إلى 'أبو المطالب'، يرفعه الشعب باقتناع وبمبادرة منه كشرط حيوي لإعادة البناء الوطني. حيث لا مصداقية لأي مطلبية فئوية أو جهوية إذا لم تكن مرفقة بتعبئة سياسية واجتماعية شعبية تنادي بالمحافظة على سلامة الدولة واحترام القانون. لا بد أن يتمكن الشعب بنفسه من إعادة بناء الدولة الديمقراطية وإلا سيبيعون له دولة في ظاهرها ديمقراطية وفي باطنها مافيا.
لا بد للأحزاب الوطنية والديمقراطية والتقدمية والمنظمات والمجتمع المدني أن تكون هي الرائدة والمبادرة في بناء الدولة على أسس سليمة لأن الدولة لا تبني نفسها. إذا كان هناك معنى للثورة فهي ثورة رفض الوكالة على الشعب والسعي إلى تعويضه بشتى التعلات. وهكذا تصبح من المفارقة أن الحالة التي عليها الدولة وما تتعرض له من مخاطر الخوصصة تمثل فرصة لا تعوض لكي يأخذ الشعب الأمر بيده ليطبع ببصماته بناء الدولة الديمقراطية و لا يقبل عن ذلك وصية. فهل سيضيع على نفسه الفرصة ؟
بوجمعة الرميلي
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
- اكتب تعليق
- تعليق
أصداء المؤسسات