المرأة في فكر الأمير عبد القادر الجزائري, تمثّلات لصورة المرأة الأنموذج!
ركّزت معظم الكتابات التي تناولت شخصية الأمـــير عبد القادر ( 1808 - 1883م) بالـدّرس والتمحيــص، على مواقفه وممارساته المتصلة بالبعدين السياسيّ والعسكريّ.لذلك ظلت أسئلة عدّة تخص الأمير الجزائري مهملة وغير مبحوث فيــــها، رغم أنّها أسئلة مهمـــة ولا يمكن دون إثارتها والحفر فيها ،الإدعاء بالتعرّف المعمّـق إلى الأمير عبد القادر فكرا وتجربة في الحيــاة، بكل ما تتضمــنه من مجالات وحقول يُكمل بعضها البعض.
ولعلّ مسألة المرأة من أكثر المسائل تهميشا في مدوّنة الأعمال البحثــية المهتمة بشـخصية الأمـــير عبد القادر .وهي مفارقة كبرى وثغرة عميقة، جعلت من معرفة أكثر الرموز الجزائرية شهرة، معرفة منقوصة إلى حدّ كبير.
ومن جهة أخرى، يبدو لنا أن ملامح الأمير عبد القادر المتمثلة في كونه فارسا شجاعا، إضافة إلى كونه شاعرا هيمن الغزل على نصيب وافر من قصائده ،دون أن ننسى تجربته الصوفية، كلّها ملامح وجوانب تثير الفضول للتعرّف إلى صورة المرأة عند الأمير عبد القادر وكيفية تمثّله لها وطبيعة المخيال الذي يحمله إزاءها. ثم إنّ مجرد القول في حدّ ذاته إنّ الأمير عبد القادر، مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، يضاعــف من ضرورة طرح ســؤال عبد القادر والمرأة حيث المرأة هي مفتاح التحديث في الفضاءات العربية الإسلامية.
فكيف هي تمثلات الأمير عبد القادر للمرأة وهل أنّها تمثلات منسجمة أم أنّها صور متناقضة، الانفصام ميزتها الأساسيّة؟
لا تفوتنا الإشارة في مستهل محاولة الإجابة عن هذا السؤال، أنّ هذه الورقة ستكــون من الاختزال، بما يضطرنا إلى القفــز على تفاصيل تُقوي ما سنذهب إليه من ملاحظات واستنتاجات حذرة.إنّ المفتاح الأول لفهم علاقة الأمير عبد القادر بالمرأة، يكمن في بنيته الفكرية وطبيعة تعليمه. ذلك أنّ بنية الفرد الفكريّة والثقافية محدّدة بشكل أساسي لمواقفه وسلوكه.
وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن ثقافة الأمير عبد القادر يغلبُ عليها ما يتصل بالفقه والحديث وعلوم القرآن، فإنّه يمكننا أن نفهم هيمنة الرؤية الفقهية القرآنية الظاهرية على مقاربته لمسألة المرأة.
وتعتبر الأجوبة التي قدمها الأمير للجنرال دوماس1 دليلا على ما ذهبنا إليه من ملاحظة اعتقاده في المرجعية النّصية القرآنية السنية ،إذ أنه يؤمن بفكرة قوامة الرجل على المرأة، باعتبار أنّه الأصل وأنّها الفرع.وهي فكرة، أسّست لتبني الأمير عبد القادر لعدة مواقف تقليديّة على غرار التّمايز بين الجنسين في الأدوار والمكانة أي أنّه يعتقد في أفضلية الرجل وأنّ مجال المرأة الوحيد هو المجال الخاص أي البيت. ويتمثل دورها في إسعاد الرجل والإنجاب. كما أنّه يحق للرجل أن يمارس حقّه في تعدّد الزوجات والمانع الوحيد لممارسة مثل هذا الحق هو أن تجمع المرأة الواحدة ما يريده الرجل ويسعده.وفي هذا السياق تحديدا نستحضر رواية تقول إن الأمير التقى امرأة أجنبية جميلة وأنيقة ،عندما كان في الأســر في فرنسا فسألته: «لماذا تتزوّجون العديد من النساء وليس واحدة فقط كما عندنا» فأجابها الأمير: «نحن نحب واحدة من أجل عينيها وأخرى من أجل شفتيها وثالثة من أجل قامتها ورابعة من أجل عقلها وقلبها فإذا اجتمعت هـذه الصفـــات في امرأة واحدة مثلك لما اخترنا غيرها».
الملاحظ أن حديث الأمير عبد القادر عن المرأة، إنما يطغى عليه إلى حد بعيد التعرض إلى جمال الجسد ودورها في الإنجاب ناهيك عن تدينها. هناك نوع من التوأمة بين المرأة والجمال وفتنة جسدها ووجهها حتى لكأن لا امرأة إلا وكانت جميلة.
لذلك تسكت كتابات الأمير عبد القادر ورسائله عن عقل المرأة وفكرها وكينونتها الذهنية، بل إنه يبوح في بعض شقوق رسائله مثلا بعدم ضرورة تعلم المرأة للكتابة وهو في الحقيقة موقف تقليدي محافظ يزيد في تأكيد صورة المرأة الجسد والمتاع والشهوة ، لا المرأة العقل والوجود المستقل كما تبشر الحداثة وقيمها بذلك.
وبالنظر إلى أشعاره التي تتغزل بالمرأة، نستنتج أنّ الشاعر الأمير متعلق بحب المرأة الجميلة إلى درجة العشق. فالمرأة هي كائن خلق من أجل أن يعشقه الرجل وهــو ما نجده في كثير من الأبيات ومنها هذه الأبيات:
وأخضع ذلةً فتزيد تيهاً *** وفي هجري أراها في اشتداد
فما تنفك عني ذات عزّ *** وما أنفك في ذلي أنادي
فما في الذل للمحبوب عارٌ *** سبيل الحب ذلٌّ للمراد
رضا المحبوب ليس له عديلٌ *** بغير الذل ليس بمستفاد
لا شك في أنّ تأثره بمدّونة الشّعر الجاهلي في الغزل واضحة وأيضا بالثقافة العربية ككل التي جعلت من المرأة موضوعا للحب أكثر منها ذاتا فاعلة.
ظاهرة اقتران المرأة بالجمال في خطاب الأمير عبد القادر العام شعرا ورسائل، يمكن أن تُفهم بشكل مختلف أي معارض لما ذهبنا إليه في هذا المقال من استنتاجات وملاحظات حذرة. بمعنى أنّ الكثير ممّا قاله الأمير في المرأة يمكن إخضاعه إلى القراءة الصوفية حيث المرأة رمز الجمال الإلهي واختزال بليغ لجمال الكون وأسرار الوجود.
وتبدو لنا أسس هذه القراءة مقبولة من حيث قوة المستندات لأن الأمير عبد القادر كان لا فقط متديّنا تقليديا بل أيضا متصوّفا ينتمي إلى طريقة صوفية هي القادرية.
كما لا تُخفي مضامين كتاباته في سياقات معينة، تأثره القوي والعميق بالصوفي الكبير الشيخ محيى الدين ابن عربي صاحب مذهب وحدة الوجود والمعروف بتقديسه للمرأة وبرؤيته ذات المذهب الإنساني وهو القائل: "كن على أي مذهب شئت فإنك لا تجد إلا التأنيث يتقدم حتى عند أصحاب العلة الذين جعلوا الحق علة في وجود العالَم والعلة مؤنثة. وإن شئت القدرة فمؤنثة أيضاً".
لذلك، قد يكون الجمال المتواتر الذّكر والحضور في أشعاره ورسائله يحمل في الوقت نفسه الدلالات الغريزية المباشرة وأيضا المعاني الصوفية ذات المحمول الرمزي المكثف.
إلى جانب هذه الأبعاد الفقهية والصوفية والأخرى ذات الصلة بالشعر الجاهلي وخصوصية المرأة في المخيال العربي والإسلامي، نعثر على مواقف ذات طابع حداثي تؤكد الخروج الجزئي عن صرامة المرجعية الفقهية وتبني موقف حقوقي إنساني إزاء المرأة وهو ما يظهره موقفه الرافض لزواج البنت بشكل مبكّر وأيضا دفاعه عن حق المرأة في طلب الطلاق. وقد يُعزى هذا الموقف الطلائعي نسبيا بالمقارنة مع تنشئته البدوية المحافظة إلى الحضور القوي الذي كان لوالدته في حياته حيث كانت ترافقه أسفاره ومحنه ومنها يستمد القوة والنصح والحكمة في المعارك التي خسرها.
إن الاشتغال على صورة المرأة في فكر الأمير الجزائري عبد القادر ينتهي بنا إلى الإقرار بأن هناك صورا عدّة ومتعددة للمرأة الأنموذج. كما أن مرجعيات الرجل المختلفة التي تجمع بين الفقه والتّصوف والشعر وثقافة الفرسان... كلّها فعلت فعلها فأنتجت صورة مركبة يمتزج فيها الطابع المحافظ التقليدي والطابع الشعري المنفتح والمنفلت من قيود التقليدية والثقافة المحافظة.
ربّما لو لم يكن الأمير عبد القادر من أبناء القرن التاسع عشر وظهر في القرن العشرين لفعل السياق الزمني فعله وكان أكثر حداثة وانتباها إلى عقل المرأة تماما كشدّة انتباهه لجمالها الجسدي.
1 الجنــــرال أويجين دوماس (Eugène Daumas) عسكري وكاتب وسيـــاسي فرنســي (1803-1871) أقام بالجزائر حـــيث شغل بالخصوص منصب مدير الشؤون العربية في مقاطعة وهران، قبل أنّ يكلف بالشؤون المحلية للجزائر بأسرها.
آمال موسى
- اكتب تعليق
- تعليق