الحبيب الدّريدي: قراءة في وضع مأزوم
تجتاز بلادنا مرحلة عصيبة من تاريخها تتزايد فيها المصاعب وتتعدّد التّحديّات، فإلى التّهديدات الإرهابيّة القائمة تضاف أزمة اقتصادية خانقة، وإلى الارتباك السّياسيّ المتواصل يضاف تذمّر اجتماعيّ لا يني. والشّعور السّائد لدى أغلب شرائح المجتمع هو مزيج من الحيرة والذّهول بسبب استمرار تردّي الأوضاع ومن الخشية والخوف ممّا قد يخبّؤه مستقبل غامض مجهول.
إنّنا بلا شكّ إزاء أزمات متعدّدة متداخلة متراكـبة، وقـــد لا يكون من اليسير تشريحها والمسك بجميع أبعادها، غير أنّنا نحاول أن نقف عند أبرز تجلّياتها.
أزمــة تــــفــكــيــر
لعلّ أحد الأبعاد العميقة للأزمة التّي تتخبّط فيها البلاد وتتعثّر النّخب والسّاسة في التّعاطي معها هو البعد الفكريّ، إنّها أزمة تفكير قبل كلّ شيء، ولا غرابة في ذلك لأنّ شؤون الحكم وسياسة النّاس اقترنت بالعقل والتّفكير عند القدامى والمحدثين، فالفرنسيّ Bossuet (1627-1704) يعتبر أنّ «الحُكم عمل من أعمال العقل والذّكاء»، وابن المقفّع كان يقول «إن ابتُليت بالسّلطان فتعوّذ بالعلماء».
وأزمة التّفكير عندنا تكشفها ثلاثة تجلّيات كبرى على الأقلّ:
1- تَمَثُّلات النّخب والسّاسة للمرحلة التّي نعيشها منذ أكثر من خمس سنوات تمثّلات مغلوطة، فقد أقاموا فهمهم لأحداثها على استيهامات مضلّلة fantasmes لا على تحاليل واقعيّة، ذلك أنّهم نظروا إلى هذه المرحلة على أنّها طفرة تاريخيّة يجب أن تُنْتَزع من سيــــاقها أو قطيعة مع الماضي تلغي ما قبلها. وغير خفيّ ما في هذه النّظرة من قصور عن إدراك حقيقة التّاريخ باعتباره حَدَثَانًا processus وسيرورة متّصلة الحلقات.
ومن ثمَّ وقع التّعامل مع الماضي بمنطق النّسف والتّقويض والهدم بدلا من منطق المراجعة والتّصويب والإصلاح، ولذلك استعصت عمليّة البناء على قادة هذه المرحلة لأنّ البناء مراكمة وإضافة وليس نسفا وتحطيما. ولمّا كانت تمثّلاتنا للّحظة الرّاهنة مغلوطة فإنّ فهم شروط المستقبل سيكون حتما مغلوطا هو الآخر، وإذا كان تقييمنا لأسباب الإخفاق خاطئا فإنّ نظرتنا لمسالك الإصلاح وسبله ستكون بدورها مجانبة للصّواب.
ثمّ إنّ هذه النّخـب تحاول دائمـــــا أن تفهم كلّ المشاكل والقضايا الطّـــــارئة من خلال رؤية ضيّقة تنحصر في حدود الفضاء الدّاخليّ endogène، وتهمل في الغالب العوامل الرّاتبة عن مؤثّرات خارجيّة exogène، ذلك أنّنا نعيش في محيط دوليّ وإقليميّ متقلّب طالته تحوّلات جذريّة وطرأت عليه تغييرات عاصفة ومربكة سنوضّحها لاحقا، وهي تحوّلات تلقي علينا اليوم بتداعياتها وآثارها.
2- افتقار هذه النّخب لأدوات التّحليل والقراءة والفهم، فالملاحَظ أنّ جانبا من الخطاب السّياسيّ والإعلاميّ في السّنوات الأخيرة كان يجترّ – دون وعي- الشّعارات والمقولات نفسها التّي كان قد أعدّها في تسعينيات القرن الماضي منظّرو حركات الانفصال في جمهوريّات ما كان يسمّى الاتّحاد السّوفياتي و»ثورات» أوروبّا الشّرقيّة، ويصدر عن أدبيّات تردّد أصداء ما حدث في تلك المناطق.
ويبدو عند التّحليل أنّه خطاب لا يخلو من سذاجة وسطحيّة لأنّه لا يستبطن الأسباب المباشرة والعميقة للتّحوّلات السّياسيّة في المنطقة ولا ينفذ إلى العوامل المعقّدة والمتشابكة التّي أفضت إلى ذلك ولا يتسلّح بآليّات التّفكير المساعدة على تعميق القراءة واستقصاء الرويّة في خصوصيّات المرحلة وكيفيّة تجنّب مخاطرها والاستفادة من فرصها ومواجهة رهاناتها، ومن ثَمَّ – وهو الأهمّ- لا يمتلك أدوات الإعداد للمستقبل وتصوّره وبنائه، وهو ما جعلنا اليوم نقع في مأزق غياب الرّؤى والبرامج.
3- تهافت آليّات المعالجة، فقد ترتّب عن ذلك كلّه تهـافت une faillite في طرائق مقاربة الملفّات الكبرى والقضايا الجوهريّة، إذ هي لم تباشَر على نحو عقلانيّ موضوعيّ مُنَزَّه عن الخلفيّات السّياسويّة والحسابات الضيّقة، ولم تُعالَج معالجة تنمّ عن تبصّر واتّزان بل إنّها عولجت غالــبا في أجواء من التّشنّج والانفعال وبعيدا عن الواقعيّة والنّظر الثّاقب، فكانت في الأعمّ معالجة خرقاء تحكمها المصالـح الآنيّــة أو الاعتبارات المذهبيّة والإيديولــوجية أو الأهواء والنّزعات الفرديّة أو التّجاذبات والمشاحنــــات أو التّــــوافقات الهشّة. ففي عصر «مدرّعات التّفكير» think tanks ومؤسّسات التّفكير الاستراتيجيّ العتيدة ما يزال الواقع السّياسيّ في بلادنا اليوم محكوما بقدر كبير من الارتجال والعشــوائيّة، وقد لا نغلو في القــــول إن ذهبنا إلى أنّنا نعمل بما نعلم أنّه خطأ، ونترك العمل بما نعلم أنّه صواب، ونُقْدم على ما لا نعلم أصواب هو أم خطأ.
وعموما فإنّ الحياة السيّاسيّة والحياة العامّة إجمالا غير مؤطّرة بقادة فكر وصنّاع مفاهيم وتصوّرات، فلم تُطرح أفكار كبرى تقود عمليّة الحُكم في هذه المرحلة وتقترح المسالك التّي يجدر أن تمضي فيها البلاد. فإذا كانت الحرب اليوم في العالم المتقدّم حرب أفكار وتفكير فإنّ الأزمة الأولى عندنا هي أزمة أفكار وتفكير.
أزمة سيادة
إنّ العجز déficit الذّي كنّا لاحظناه في مستوى التّفكير حجب عن نخبنا أزمة أخرى قلّما تحدّث عنها المحلّلون وهي أزمة السّيادة التّي رافقت ما يسمّى بالرّبيع العربيّ. والحقّ أنّها أزمة قديمة متجدّدة لأنّ الصّراع القائم بين «الوطنيّ» و«ما فوق الوطنيّ» هو صراع يعود إلى ما بعد الحرب العالميّة الثّانيّة حين تأسّست منظّمة الأمم المتّحدة وسائر الهياكل التّابعة لها.
ولكنّ هذا الصّراع عاد بقوّة منذ بدء الحديث عن العولمة في أواسط تسعينيات القرن الماضي وتأسيس المنظّمة العالميّة للتّجارة الموكول إليها تحرير المبادلات التّجاريّة. فالعولمة - باعتبارها إيديولوجيّة التّحرّر المطلق الذّي لا حدود له- ستصبح تهديدا صريحا وحقيقيّا لمفهوم السّيادة الوطنيّة في صورته التّقليديّة لأنّ التّحرّر الذّي تدعو إليه يتجاوز أصعدة المبادلات التّجاريّة وتنقّل رؤوس الأموال وعوامل الإنتاج ليمسّ أنماط القيادة الاقتصادية والسّياسيّة de ويزعزع ثوابتها القديمة.
فمن المعلوم أنّ المؤسّسات متعدّدة الجنسيّات تمكّنت من الاستيلاء على الكون وافتكاك مقاليد السّلطة والنّفوذ من الدّول والحكومـــات وأعلنــــت عن نهاية القوميّات والأوطان بل عن نهاية السّياسة ونهاية التّاريخ، وهكذا سيتمّ إخضاع مفهوم السّيادة لمتطلّبات العولمة وستعاد صياغة مجال النّفوذ والسّلطة في العالم لينتقل من الحكومات والدّول إلى قوى السّوق نعني بذلك المصنّعين ورجال المال والوسطاء الخواصّ، إنّ سلطة القرار لم تعد بيد رجال السيّاسة وإنّما ستستأثر بها أطراف أخرى خارج أجهزة الحكم التّقليديّة.
وعلى هذا النّحو فإنّ الربيع العربيّ هو في واقع الأمر دكّ لآخر معاقل الدّولة – الوطن état – nation في المنطقة واسقاط لما تبقّى من السّيادة الوطنيّة وإيذان بالشّروع في استبـــــاحة مصــــادر الثّروة في هذه البلدان واستهداف القطاعات المنتجة لإضعافها وإنهاكها ثمّ الاستحواذ عليها.
وإنّ ما نعيشه اليوم من صعوبات اقتصاديّة تهدّد بانهيار المؤسّسات الماليّة والبنكيّة وتنذر بشلّ قوى الإنتاج ونضوب مصادر الدّخل الوطنيّ هي نتاج طبيعيّ لامتداد أيادي «العالميّة» mondialisme و»القولبة القاريّة» globalisme والجهات التّي تمثّلها إلى ميكانيزمات الاقتصاد الوطني ودواليبه.
وليس أمامنا إزاء هذا المأزق سوى المسارعة إلى بناء فضاء سياسيّ واقتصاديّ إقليميّ قويّ الأركان (قد يكون اتّحاد المغرب العربي مثلا)، وهو فضـــاء إن لم يكن قادرا على إيقاف خطر التّهديدات المذكورة فلعلّه يحدّ من وقعها ويكبحها ويطوّر آليّات المناعة والحصانة ضدّها.
كما أنّنا مدعوّون عاجلا إلى مراجعة عقيدتنا الديبلوماسيّة وتطويرها، فنحن اليوم في أمسّ الحاجـــة إلى المــــــرور من ديبلوماسيّة التّمثيل ورعاية المصالـح إلى ديبلوماسيّة إعادة التّموقع داخل المشهد الجيو- سياسيّ الجديد بما يمكّننا من لعب دور أهمّ واجتناب الــذّوبان في هذا الخضمّ العولماتيّ الجارف.
أزمة حكم
لئن أكّد عدد من خبراء القانون الدّستوريّ على أنّ النّظام السّياسيّ والنّظام الانتخابيّ اللّذين تمّ اختيارهما ينطـويان على عديد النّقائص والهنات بما يجعلهما غير مناسبين لهذه المرحلة فإنّ فلاسفة الفكر السّياسيّ في القديم والحديث يشترطون مفهوما أساسيّا لاستمرار الدّولة واضطلاعها بوظائفها هو مفهوم القوّة وهو الذّي سمّاه ابن خلدون «الوازع» و «اليد القاهرة» فهو القائل: «المُلْك على الحقيقة لمن يجبي الأموال ويبعث البعوث ويحمي الثّغور ولا تكون فوق يده يد قاهرة»، وسمّاها الأنقليزي Thomas Hobbes 1679 - 1588 «السّلطة القاهرة التّي تخرج النّاس من حرب الكلّ ضدّ الكلّ».
غير أنّ هذه القوّة التّي كانت مجتمعة حصريّا في يد الدّولة ومؤسّساتها وأجهزتها تفتّت وأضحت اليوم موزّعة إلى قوى فرعيّة متفرّقة، ذلك أنّ جزءا من هذه القوّة ذهب إلى بعض الأحزاب المهيكلة وجزءا آخر عاد إلى بعض المنظّمات ومكوّنات المجتمع المدنيّ وجزءا ثالثا اجتذبته إليها قوى ماليّة بعضها ينشط في مجال التّهريب والتّجارة الموازيّة.
وعلى هذا النّحو تأثّرت مؤسّسات الدّولة وسلطها المختلفة بانفصام هذه القوّة وتفكّكها، فالقانون ليس نافذا بالقدر الذّي يحفظ هيبة الدّولة ويكفل بسط نفوذها، والقدرة على اتّخاذ القرارات الجريئة والحاسمة لم تعد متوفّرة لأنّ ذلك كان يتاح بقوّة الدّولة فصار يمتنع لتضاربه مع مصالح القوى الجديدة الضّاغطة. وانعكس هذا الأمر على أداء بعض رجــــــال الدّولة فأبدوا في كثير من المقامات قدرا من التّردّد والارتباك بما يتعارض مع مقتضيات إدارة الأزمات ويتنافى مع ضرورة امتلاك تقنيّات اتّخاذ القرار. وقديما اشترط الفارابي في رجل الدّولة «أن يكون قويّ العزيمة على الشّيء الذّي يرى أنّه ينبغي أن يُفعل، جسورا عليه، مقداما غير خائف ولا ضعيف النّفس» (آراء أهل المدينة الفاضلة).
إنّ مفهوم القوّة مفــــهوم مركــزيّ في الفكر السّيـاسيّ الحديث لأنّ القانـــون في حاجة إلى قوّة لإنفـــاذه والحريــــّة في حاجة إلى قوّة لحمايتها والعدالة في حاجة إلى قوّة لتحقيقها والحقـوق في حاجة إلى قوّة لضمان التّمتّع بها.
أمّا المظهر الثّاني الذّي يكشف أزمة الحكم فيتمثّل في غياب «برنامج للحكم» أو «مشروع للحكم» يكون قــادرا على إقناع المواطنين بجدواه ونجاعته وقادرا على تعبئتهم حوله واستثارة حماستهم للمساهمة في إنجازه، وقادرا على أن يكون عامل شحن للعزائم وشحذ للهمم. فاللّحظات التّاريخيّة الهامّـــة في حياة الشّعوب هي اللّحظات التّي آمنت فيها بأهداف واضحة وطموحة وخاضت من أجلها معارك وطنيّة، فنحن في أمسّ الحاجة اليوم إلى رسم هدف سام نخوض في سبيله معركة نبيلة.
أزمة إيطيقا
لا خفاء أن مناخ الفوضى والانفلات من شأنه أن يمنح مساحات واسعة لسلوكات الانتهازيّة والتّزييف والادّعاء وأن يقلب موازين القيم والأخلاقيّات، فمثلما تبرز في مجال الاقتصاد مظاهر الاحتكار والمضاربة والتّهريب وتبييض الأموال فيشهد المجتمع نشأة فئة من الأثرياء الجدد تبرز كذلك في مجال السّياسة مظاهر «التّسلّق» و»الفهلوة» بما يهيّؤ لظهور فئة يمكن أن نطلق عليها نعت «الأشباه» أو «المكذوبين» أو «المزعومين» (les pseudos).
فإلى جانب السّياسيّين المكرَّسين والمعروفين، هجمت على السّاحة جحافل من السّياسيّين الأدعياء المكذوبين pseudo-politiciens ، ومع الإعلاميين الأكفّاء طفت فئة من الإعلامييّن المزعومين pseudo-journalistes، ونـــــــجم فجـــــــأة على منابر الإعلام محلّلون مكذوبون pseudo-analystes، وتبوّأ صدارة المشهد ثوّار مزعومون pseudo-revoltés ومناضلون مزعومون pseudo- militants ... وصار يصدق فينا بيت ابن رشيق:
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد
ومن شأن امتلاء السّاحة بهذا النّمط من الأدعياء والمزعومين أن ينعكس سلبا على الأخلاقيّات التّي تحكم مجالات السّياسة والإعلام وغيرها، وهو ما أفقد هذه الميادين قيمتها الرّمزيّة الحقيقيّة فتهاوت الضّوابط والتّقاليد والأعراف وتلاشت القيم الاعتباريّة. ولعلّ الأخطر من كلّ ذلك أنّ فئة الأشباه المكذوبين هذه تمكّنت من توسيع مجال تحرّكها شيئا فشيئا وأصبحت تمسك بمقاليد كثير من المنابر وتحتلّ عددا من المواقع الحسّاسة، ولمّا كانت لا تمتلك آليّات الفهم والتّحليل ولا تسيطر على مناهج المعرفة والإدراك أصبح صوت الغوغاء والسّطحيّة يغلب على صوت الرويّة والعقل. وقديما قيل إذا تعاطى الشّيءَ غيرُ أهله وتولَّى الأمرَ غيرُ البَصير به أعضلَ الدَّاءُ واشتدَّ البلاءُ.
وقد نقول في النّهاية مع بدر شاكر السيّاب:
« يا أيّها الرّبيعْ
يا أيّها الرّبيع ما الذّي دهاكْ؟
جئتَ بلا مطرْ
جئتَ بلا زهرْ
جئتَ بلا ثمرْ
وكان منتهاك مثل مبتداكْ
يلفّه النّجيع ... »
الحبيب الدّريدي
- اكتب تعليق
- تعليق