أخبار - 2016.07.18

هل‭ ‬ثمّة‭ ‬أزمة‭ ‬سكن‭ ‬في‭ ‬تونس؟‭ ‬

هل‭ ‬ثمّة‭ ‬أزمة‭ ‬سكن‭ ‬في‭ ‬تونس؟‭ ‬

امتلاك مسكن في تونس يعتبر من الأمور التي تؤرّق العائلة التونسية، وذلك لارتباط الملكية بالاستقرار، لكن تحقيق هذا الهدف أصبح صعبا للغاية بعد أن تخلت الدولة شيئا فشيئا عن دورها الاجتماعي  لقد شجعت حكومة الاستقلال على امتلاك المواطن لمسكن، فخصصت القروض التي كانت تسندها الشركة التونسية للبنك بفوائض منخفضة، وتم بعث الشركة الوطنيّة العقاريّة للبلاد التونسية التي قامت بدور كبير في بناء مئات الآلاف من المساكن، ثم بعث صندوق الادّخار السكني والوكالة العقارية للسكنى، ولكن هذه المؤسسات زال البعض منها كما هو الشأن بالنسبة إلى صندوق الادّخار السكني ليحلّ محله بنك الإسكان، بينما تقلص دور الوكالة العقارية للسكنى فأصبح المواطن ينتظر مدة طويلة دون الحصول على أي مقسم من الأرض من الوكالة المعنية، التي فقدت نجاعتها وأصبحت لا تضطلح بالدور الحقيقي الذي بُعثت من أجله.

ولو اطلعنا علــى الأرقــــام والإحصائيات الجملية للمحلات السكنية في تونس، لوجدنا أن حاجيات العائلات التونسية للسكن تبدو للوهلة الأولى متوفّرة، باعتبار أن معدّل حجم العائلة التونسية اليوم هو في حدود 4 أفراد للعائلة، مما يجعل عدد العائلات التونسية يساوي 2.713,000 عائلة، بينما يبلغ عدد المحلات السكنية بالبلاد 3.290,000 مسكن، ممّا يعني أن هنالك أكثر من محل سكنى لكل عائلة تونسية.

لكن من الناحية الواقعية فإن هذه الإحصائيات تحجب معطى هامّا للغاية، وهو انه توجد عائلات تملك مسكنا دائما ومسكنا ثانويا يقع عادة في مسقط الرأس أو في بعض المناطق الساحليّة، كما انّه ثمّة من يملكون أكثر من مسكنين، لذلك فإن هذه الإحصائيات تحجب حقيقة قائمة وهو أن عددا كبيرا من العائلات التونسية وخاصة من الشبان مازالوا يبحثون عن امتلاك محل سكنى.

ولو تأملّنا في حجم المساكن الثانوية سنة 2014 ، لوجدنا أنّه يساوي حوالي 17,7 % من الحجم الجملي للمحلات السكنية أي 582 ألف مسكن ثانوي، ولكنها مساكن غير معنية بالبيع بل أن اصحابها يصرّون على مواصلة امتلاكها وعدم عرضها للبيع، والدليل على ذلك أن حجم المساكن الثانوية التي عُرضت للبيع خلال سنة 2004 لا يزيد عن 16 ألف مسكن من جملة 385 الف مسكن ثانوي رُصدت في ذلك التاريخ لذلك فإن عدد المساكن المبنية حاليا لا يستجيب لحاجيات كل التونسيين وهو ما يفرض مواصلة عملية البناء، فقد أشارت الإحصائيات إلى أن معدّل المساكن الجديدة التي تُبنى بالبلاد في السنة قد ناهز سنة 2014 ما يقارب 79 الف مسكن في السنة، بعد أن كان في نهاية القرن الماضي في حدود 55 الف مسكن.

هل يتم هذا الازدياد في شكل شقق أو محلات فردية وهل تقوم به شركات البعث العقاري أم المواطن مباشرة؟

من خلال متابعة نشاط البعث العقاري يتّضح انه يوجد اليوم حوالي 2500 شركة للبعث العقاري تنشط منها 500 شركة على أقصى تقدير، مما يؤكّد أن غالبية هذه الشركات قد وقع بعثها للحصول على إعفاء جبائي عن الأرباح عن طريق إعادة الاستثمار. ولا تنجز هذه الشركات إلا حوالي 10 آلاف مسكن في السنة أي بمعدل 4 مساكن لكل شركة بعث عقاري وهو معدل ضعيف للغاية، لذلك فإنّ أغلب المحلات التي تُبنى كل سنة هي من إنجاز المواطنين مباشرة الذين يُقدمون على بناء مساكن فردية فوق أراض مهيأة وغير مهيأة، أو يقومون ببناء طوابق علوية على بناءات موجودة وأغلب هذه البناءات تتمّ بطريقة عشوائية وهو ما يفسّر تفاقم البناء العشوائي بأغلب المدن والقرى التونسية.

لكن كيف يمكن للتونسي أن يموّل عملية امتلاكه لمحل سكنى؟

في غالب الأحيان يتم التمويل عن طريق قروض بنكية تسند بفوائض مرتفعة تتجاوز 8%. وقد بلغ حجم القروض التي أُسندت لبناء مساكن أو لشرائها حوالي 15% من حجم القروض الجملية، يضاف إلى ذلك أن 5% من القروض البنكية أسندت للباعثين العقاريين و2% من القروض الجملية تم إسنادها لفائدة مقاولات البناء، مما يعني أن قطاع البناء يستأثر حاليا بحوالي 22% من حجم القروض الجملية وهو رقم مرتفع مقارنة بالبلدان الأوروبية ولكن المؤسسات المالية وجدت ضالتها في هذا القطاع، وأسندت قروضا عديدة بفوائض مجحفة وهو ما يفسّر ارتفاع أرباح البنوك سنة 2015 رغم الانكماش الاقتصادي الذي تعيشه البلاد وقد لاحظنا في المدة الاخيرة وجود تراجع في إسناد قروض السكن.

ويعتبر البعض أن العقار في تونس قد ارتفع سعره في السنوات الاخيرة ويفسرون ذلك بأن ثمن المتر المربع مغطى قد ناهز الأربعة الآف دينار ببعض المناطق كالبحيرة ووصل إلى 2500 دينار بمنطقة النصر وحدائق قرطاج ويناهز الألفي دينار في منطقة عين زغوان. كما ارتفع السعر كذلك داخل الجمهورية ليصل الى حوالي 1700 دينار للمتر المربع وهو ما خلق كسادا كبيرا لدى الباعثين العقاريين الذين أصبحوا يجدون صعوبة كبرى في ترويج منتوجهم.

وتتعلّق الأزمة التي يعيشها قطاع البعث العقاري أساسا بالمحلات الرفيعة وهي غير موجودة بالنسبة إلى السكن الاجتماعي ولا السكن الاقتصادي الذي كثيرا ما يفوق الطلب فيه العرض.

لقد سجل سوق العقار في سنتي 2012 و 2013 ارتفاعا غير مسبوق، وذلك نتيجة تهافت مواطنين من بلدان مجاورة على اقتناء عقارات بتونس، ولكنّ هذا الارتفاع سرعان ما تراجع بداية من سنة 2014 ليستقر في حدود 5% سنويا وهو نسق يقارب الزيادة المسجلة في أسعار الكراء التي هي في حدود 4,3 % ونسق الزيادة في التّضخّم المالي. كما أن هذه الزيادة متماشية مع نسبة الزيادة في مواد البناء التي بلغت 6,7%.

ولا تنطبق هذه الاحصائيات على المحلات الرفيعة لأن هذه المحلات مقامة في مناطق مثل البحيرة حيث أن الكثافة السكنية للمقاسم ضعيفة وهو ما جعل الأعباء العقارية على ثمن البيع مرتفعة، ناهيك أن السكن الرفيع أصبح يتسم بالفخامة والرفاهية إذ دخلت في عمليات البناء مواصفات لم تكن مألوفة على مستوى التجهيزات والمرافق كالتكييف المركزي وتجهيز المطابخ والمصاعد، والتي تُعتبر مكونات ساهمت في ارتفاع كلفة بناء المحلات الرفيعة التي تعتبر باهضة الثمن بالنسبة إلى التونسي.

ويمكن القول إن سعر العقار لم يشهد ارتفاعا كبيرا في المدة الأخيرة بل يوجد تراجع على مستوى الأسعار مع ما سجل ظرفيا سنتي 2012 و 2013 وتبقى الأسعار مرتفعة جدا بالنسبة إلى المحلاّت الرفيعة وهي التي شُيّدت بالبحيرة أو بالنصر أو بحدائق قرطاج نظرا للثمن الباهض الذي بيعت به المقاسم التي أقيمت فوقها البناءات.

وعلى الرغم من ذلك فإن المواطن أصبح يجد صعوبة كبرى في امتلاك شقّة ولو من الشقق الاقتصادية فيُخيّر أن يبني طابقا جديدا فوق عقار والديه أو يتحصّل على مقسم من الأرض في منطقة غير مهياة ويعمد إلى البناء فوقها تدريجيا  وفق ما يتوفّر له من إمكانيات.

ولا يكمن المشكل في سعر العقار فقط بل وكذلك في تكلفة القروض التي يحصل عليها الشخص لشراء عقار فإذا ما حصل على قرض لمدة 20 سنة فإنه يسدّد اليوم ثمن الشراء مضاعفا وهو ما يفرض التخفيض في نسبة الفائض بالنسبة إلى القروض السكنية.

كيف يمكن التّصرّف لدفع  هذا القطاع وإعانة المواطن على امتلاك محل سكنى؟

الدولة مدعوّة إلى اتخاذ عدة مبادرات لمعالجة هذا الموضوع، أوّلها توفير المقاسم الصالحة للبناء الفردي او الجماعي، فلقد تخلّت الوكالة العقارية للسكنى عن القيام بدورها. ويتعيّن التفكير في بعث وكالات عقارية مستقلة بالجهات الداخلية، فلا يمكن لوكالة واحدة أن تقوم بدورها بكامل جهات الجمهورية، كما يتعيّن تغيير أمثلة التهيئة العمرانية بعديد الجهات وخلق مناطق سكنية حول العاصمة والمدن الكبرى، فلقد اختنقت تونس العاصمة وأصبح من الضروري بعث تجمّعات سكنية مرتبطة بها، تتوفّر فيها كل المستلزمات كما هو الشأن بالنسبة إلى العواصم الكبرى، فماذا ننتظر لبعث قرية سكنية بمنطقة سيدي ثابت، وأخرى بمنطقة برج العامري وثالثة بالمنطقة الكائنة بين سليمان وفندق الجديد وربطها بالطريق السيارة حتى يتمكن الشباب من إقامة مساكن فردية بهذه المناطق بأسعار معقولة وفي مناطق يستطاب فيها العيش؟

كما أن نشاط البعث العقاري سوف لن يؤمّن دوره كاملا إذا لم تسارع الدولة عن طريق الوكالات المعنية بتوفير مقاسم صالحة للبناء الجماعي بمختلف أصنافه، فالباعث العقاري يشتري اليوم المقاسم من الخواص، الذين تمكنوا من امتلاك اراض فلاحية حوّلوها إلى مناطق سكنية في ظروف معيّنة، بأسعار مرتفعة وينعكس ذلك على ثمن الكلفة فتصبح الشقة التي تبنى تباع بأثمان مرتفعة لارتفاع تكلفة العقار الذي بنيت عليه، فالوكالات العقارية مدعوة لتوفير مقاسم للباعثين العقاريين بأسعار مدروسة ومقبولة.

كما أن الدولة مدعوّة إلى دفع البنوك إلى التخفيض في فوائض القروض السكنية، فلا يعقل أن يبقى الفارق بين نسبة الفائض عند الإيداع وعند الإقراض يفـــوق 5% فهذا إثراء فاحش للبنوك لا يمكن السكوت عنه مهما كانت المبرّرات.

كما حان الوقت للتفكير في التمديد في أجل تسديد القرض السكني كما هو الشان في أوروبا حتى يصبح بالإمكان التسديد على مدى 40 عاما لينتقل الالتزام بتسديد القرض للورثة حتى تكون أقساط التسديد معقولة وبمقدور المواطن التونسي تحملها.

يحتاج قطاع السكن إذن إلى مبادرات جدّيّة وذلك بالإسراع في إعداد أمثلة التهيئة العمرانية حتى لا يساهم تعطيل صدور هذه الأمثلة في تحويل بعض المناطق إلى مناطق للبناء العشوائي على غرار منطقة البحر الازرق التي تفشّى فيها البناء العشوائي نتيجة تأخر صدور مثال التهيئة المتعلق بهذه المنطقة.

كما بات من الضروري الإسراع بإسناد رخص الولاية عند البيع للأجانب حتى لا يتعطّل نشاط البعث العقاري الذي يتوجه في بعض الاحيان إلى الأجانب، وخاصة من البلدان المجاورة والقريبة منا، ثم ما الفائدة من الإبقاء على رخصة الولاية عندما يقوم أجنبي ببيع عقّاره لفائدة مواطن تونسي؟

هذا ولا ننسى في هذا المجال الإشارة إلى الوضعية المزرية التي أصبح عليها العقار وسط تونس العاصمة والمدن الكبرى نتيجة لاستمرار العمل بحقّ البقاء، فعطّل هذا الحقّ مالكي العمارات القديمة على تحديثها أو ترميمها وهو ما أفسد جمالية المدن التونسية وريفها بشكل غير مقبول، وحتّم الأمر مراجعة التشاريع السكنية وذلك للعناية بالرصيد العقاري داخل المدن التونسية والتفكير في مشاريع سكنية داخل المدن نفسها، فقد تعطل  انطلاق بعض المشاريع الهامة مثل منطقة صقلية الصغرى التي لم تر النور رغم أهمية هذا المشروع نتيجة للتشاريع السكنية التي تكرّس حقّ البقاء في المحلات السكنية المبنية قبل سنة 1956.

كما يتعيّن إيلاء الاهتمام للمدن العتيقة كالقيروان وصفاقس وتونس المدينة والمنستير وسوسة التي أصبحت تحتاج إلى تدّخل سريع خاصة وانه يمكن الحصول على قروض دولية وحتى هبات للعناية بوضعية هذه المدن التاريخية. فقطاع السكن في تونس لا يعيش في الوقت الحالي أزمة بالمعنى الحقيقي ولا يتوقّع أن تعرف الأسعار ارتفاعا أو انخفاضا استثنائيا، ولكن الأزمة تقتصر على الباعثين العقاريين الذين بنوا الآلآف من الشقق الفاخرة ولم يتوفّقوا الى الآن في بيعها لارتفاع تكلفتها.

كما يتعيّن اتخاذ مبادرات حتى لا يتسبّب ذلك في انهيار عديد شركات البعث العقاري.

إن الوضعية الصعبة التي يعيشها المواطن تفرض الانكباب على هذا القطاع وذلك للتقّليل من سعر الكلفة وتوفير قروض بشروط ميّسرة حتى يتمكّن الشباب من امتلاك محل سكنى يعتبره ضروريا لضمان استقراره وتوازنه.

عادل‭ ‬كعنيش

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.