شهادتي عن مشاركتي في معركة بنزرت
أودّ في البداية الترحم على كافة شهداء معارك الجلاء الذين تصدّوا لغزو الجيش الفرنسي الذي فرض حمايته على تونس منذ شهر ماي 1881 والذين استشهدوا في ملاحم طرده عن أرضنا حتى إجلاء آخر جنوده في 15 أكتوبر 1963 (82 سنة).
- ضمن الأحداث الهامة التي عاشها الجيش منذ انبعاثه والتي كادت أن تكون مصيرية لجيشنا الفتي وحتى لتونس حديثة الاستقلال أتشرف بأن أعرض عليكم شهادتي عن أحداث بنزرت سنة 1961 كما باشرتها حول القاعدة الجوية بسيدي أحمد.
- تمّ أول عرض علني لهذه الشهادة يوم 2011/07/19 في إطار نشاط جمعية قدماء ضبّاط الجيش الوطني وذلك نصف قرن بعد الحدث.
- تفضل السيد أحمد المستيري ثالث وزير دفاع مشكورا بالإشراف على هذا الحدث كما تفضّل بالحضور كل من السادة رشيد صفر والهادي البكوش والطاهر بلخوجة ومحمد جغام وكمال مرجان ومحمد سعد.
- لم يستجب السيد عبد الكريم الزبيدي وزير الدفاع آنذاك والجنرال رشيد عمار لدعوة جمعية قدماء الضباط التي نظّمت هذا اللقاء بمدينة العلوم لكن تم الترخيص لبعض الضباط المباشرين للحضور باللباس العسكري.
- سنة 1981، كانت مضت عشرون سنة على تلك الحوادث وقد تمكنت من وثائق فرنسية تروي بالنصّ والصورة تلك الحوادث التي كادت أن تكون تعلة لانطلاق عمليتي (grande et petite charrues) لاحتلال مدينتي بنزرت ثم تونس العاصمة إن اقتضى الأمر.
كانت هذه المعركة أقصر وأشرس معارك الجلاء التي خاضها شعبنا ضد الجيش الفرنسي الغازي، كما كانت نتيجة لصراع عملاقين عظيمين، جبارين عنيدين:
1- الرئيس بورقيبة المتشبث بفسخ عقد معاهدة باردو 1881 ولو بالدخول في مغامرة ليس له طاقة لمواجهتها،
2- الرئيس ديغول المتمسك بعظمة فرنسا الفاقدة لدور فعال في إدارة العالم الحديث والذي يريد فرض إرادته ولو باستعمال القوة المفرطة ضدّ شعب حديث الاستقلال لم يستكمل بعد مقومات السيادة.
- بهذه الشهادة التي ستؤدي حتما إلى نقد كيفيّة إدارة المعركة من طرف الجانب التونسي وذكر العديد من النقائص لم تكن لي يوما نية المسّ من سمعة المؤسسة العسكرية العتيدة التي نشأت صلبها ثم رافقتها 37 سنة حيث نالني شرف تكليفي بأهم قياداتها وتقلدت أسمى رتبها. كما كنت ولازلت أكنّ لرجالاتها ، رغم النقائص عميق التقدير، بل أردت فقط نقدا فنيّا موضوعيا مثمرا تأكّدت دوما أنه تم التغافل عنه (عن قصد أو عن غير قصد) رغم إلحاحي ورغم ذلك الزلزال الذي ألمّ بجيشنا الفتي وحتى بتونس فجر استقلالها.
- في شهر أكتوبر 1960 مباشرة بعد رجوعي من تربص في رياضة الفروسية وإلحاقي بالكتيبة المختلطة (خيالة ومصفحات Half-track) حيث عيّنت على رأس سرية المصفحات وكلفت بالتدريب بكامل الوحدة وجدت 4 مدافع هاون 81 مم (جدد في القرطاس) لتكوين فصيل "إسناد نار" الوحدة مع كمية هامة من ذخيرة التدريب. فبادرت بتكوين مفارز الهاون والرشاش 50 السلاح الرئيسي للمصفحة.
- في بداية ربيع 1961 بعد تشكك طويل وتردد حذر أعطى الجنرال طبيب رئيس الأركان العامة الضوء الأخضر لتنفيذ "مدرسة نار" ببوفيشة حضرها نيابة عنه الرائد محمد الشريف الذي قام في الغد مباشرة برد الخبرعن سير الرمي مستحسنا ما شاهده من نجاح لهذه التجربة الأولى (بدعة زمانها).
- تزامنا مع هذه الحركية القتالية اشتدت أزمة الجلاء عن بنزرت فبادرت القيادة بتعداد وإعداد إمكانياتها الجدّ متواضعة فتذكرت ذلك المخزون "الاستراتيجي" بالكتيبة المختلطة المتمثل في فصيل الهاون 81 مم الشهير. فاتجهت الأنظار من جديد نحو باب سعدون مصحوبة بأمر إلحاقه لدعم الفوج الخامس مشاة المتمركز بمدينة بنزرت فتم تكوين سرية خفيفة شملت حضيرة قيادة وفصيل الهاون وفصيل حماية تحت قيادة الملازم أول سعيد الكاتب مما يجعل عدد الرجال 85 مرشح للقتال.
- يوم 6 جويلية 1961 أتى الرائد قرطاس آمر الفوج لمحطة الأرتال بسيدي أحمد للإشراف على تركيز سريّتي مباشرة حذو الأسلاك الشائكة للقاعدة الجوية الفرنسية (تماما في فم الأسد) ثم ما لبث أن غادر المكان تاركا "أهل البلاء في البلاء" دون أن يفيدني ولو بكلمة حول المهمة التي أتيت هناك من أجلها.
- إنّ هذه الشهادة شخصية انفرادية وذلك في غياب عمل جماعي طالما حرصت على تحقيقه دون جدوى.
- في شهر جويلية 1961، كيف كان حالي وحال رجال سريّتي؟ كنت برتبة ملازم أول-وعمري آنذاك 25 سنة – اختصاص دروع وخيالة- 5 سنوات أقدميّة مع القليل من التجربة طبعا – متزوج منذ 3 أشهر.
كان يجمعني برجال سريتي "الشباب وغياب طعم نار العدو" (Baptème du feu) ذلك الغول الأسطوري الذي يُنزل الرعب في قلوب المقاتلين حتى الشجعان منهم . كانت المعادلة صعبة بيننا وبين العدو.
كنا هاجمين على جبل "بقادومة" – لكن ما العمل؟ وجب التعامل مع الموجود، والقيام بالواجب لإعلاء كلمة تونس؟
- في شهر ماي 1981 بعد 20 سنة من حوادث بنزرت عينت ملحقا عسكريا بباريس فصادف أن التقيت الأميرال AMMAN قائد القاعدة الإستراتيجية أيام المعركة. كان اللقاء هذه المرة سلميّا بل وديا. تعددت اللقاءات للحديث عن الأسباب ومسببات أزمة الجلاء وكيفية إدارتها من الجانبين. كان النقاش فنيا عسكريا بحتا.
نقد الأميرال بصفة ودّية متسائلا عن العديد من تصرفات قيادتنا التي وصفها بالغريبة، الغير المعقولة والغير المفهومة. وعند مغادرتي باريس نهائيا في صائفة 1984 سلّمني الأميرال مشكورا وثيقة صادرة عنه في شهر أكتوبر 1961 ببنزرت (شهران فقط بعد الكارثة).
اعتمدتُ تلك الوثيقة لتسجيل وتوثيق شهادتي هذه وتأكيد مصداقيتها بعد أن شهد شاهد من أهلها. هكذا اطّلعنا ولأوّل مرة على ما حدث ببنزرت أيام 18-19-20-21 جويلية 1961.
لنمرّ الآن إلى أهم الحوادث حسب ترتيب التسلسل الزمني:
- نشاط السرية من 6 إلى 18 جويلية: تحديد مهمة السرية - حفر الخنادق – تحديد مهمة فصيلي الهاون والحماية. عملية انسحاب تكتيكي.
- يوم الأربعاء 19 جويلية 1961: كان يوما مشهودا حقا إذ كان الوضع على وشك الانفجار.
- حوالي الساعة الثانية بعد الظهر وردت علينا برقية مشفرة مباشرة من الأركان العامة تأمر بالتصدي للطيران الفرنسي حال استعمال بنية القاعدة. استعمال النار عند الضرورة.
- حوالي الساعة الخامسة مساء: نزول أوّل طائرة نقل N2501 على المدرج الرئيسي (سبب الأزمة). إطلاق النار عليها من بندقية رشاشة ثم تدميرها بقذيفة مدفع مضادّ للدبّابات فكانت الكارثة الأولى للفرنسيين. أعتقد أنهم جازفوا بمحاولة الهبوط هذه لسبر نوايانا ومعرفة وتقييم يقظتنا وقدرتنا على رد الفعل. فسرعان ما فوجئوا بفشل ذريع إذ كنا لهم بالمرصاد.
عندها، غيروا أسلوب إيصال المدد الآتي من الجزائر وقرروا تعويض الهبوط على المدارج بإنزال جوي فوق القاعدة. وفجأة أقلعتُ عنوة عديد الطائرات من القاعدة ومن حاملة الطائرات Arromanches لحماية عملية الإنزال. استمر الاشتباك حتى غروب الشمس حيث خيّم هدوء حذر حتى صبيحة يوم الغد.
وهذه بعض برقيات الأميرال آمان لقيادته يصف فيها الوضع السيّء للغاية الذي خيّم على القاعدة أيام 19- 20- 21 جويلية.
Jeudi 20 juillet 4h45: Décollage des avions «corsaires» et «mistrals» et attaques des positions adverses (Gare). Une compagnie de paras sort des enceintes est stoppée malgré un tir de protection d’artillerie de 83 obus et de l’appui de l’action qui attaque à la roquette et au canon Faisant preuve de beaucoup de mordant les Tunisiens ne sont réduits que par des bombes de 500 livres
- يوم الخميس 20 جويلية الساعة 4 تماما: إطلاق نار 4 مدافع الهاون بالتزامن- 40 قذيفة على كل هدف حساس- جملة 160 قذيفة دون انقطاع مدة حوالي 40 دقيقة. اندلعت النيران في مأوى الطائرات فكانت الكارثة الثانية الأهمّ والأخطر. فكيف سيكون رد الفعل الفرنسي يا ترى؟
- أعطيتُ الأمر للانسحاب المنظم لكن بسبب كثافة ردّ فعل نار العدو رفض العديد مغادرة الخنادق لإحساسهم بالأمان داخل شبكة الخنادق.
تم اطلاق 83 قذيفة مدفع 105 على مساحة هكتار واحد. تلاها قصف جوي أعنف بلغ استعمال قنابل ذات وزن 250 كلغ.
- أمام صعوبة تنفيذ الانسحاب الجماعي أعطيتُ أمر الانسحاب الفردي أملا في نجاة أكثر عدد ممكن فتم ذلك حسب المخطط وتم اللقاء بمركز شرطة تينجة يوم الجمعة 21 جويلية على الساعة الواحدة صباحا بالضبط. غادرت محطة سيدي أحمد يوم الخميس 20 جويلية حوالي الساعة 5 (20 ساعة لاجتياز أقل من 20كلم).
- اتصلت مباشرة بالجنرال طبيب لردّ الخبر فلم يصدق أنّي و 25 من رفاقي نجينا من نيران المدفعية والطيران الفرنسي. أمرني بالرجوع إلى تونس سريعا لإعادة بناء فصيل الهاون والمشاركة في الدفاع عن العاصمة التي أصبحت مهدّدة بمخطط La grande charrue الذي أعدّ بالجزائر للغرض...وعُدنا !!
- رددت الخبر مباشرة للسيد الباهي الأدغم ثم التحقت بوحدتي الأم "الكتيبة المختلطة" لكن في الليلة الفاصلة بين يومي 22 و23 أصدر مجلس الأمن قرارا بإيقاف إطلاق النار.
كانت أهم خسائر العدوّ 16 طائرة، خسائرنا كانت جسيمة للغاية في الأرواح و العتاد. لم يتم إحصاؤها والإعلان عنهارسميا.
- رغم الخسائر الفادحة التي تكبدها جيشنا في بداية نشأته وما تحمّلته دولتنا حديثة الاستقلال يمكن الجزم:
1. أن تونس ربحت معركة الجلاء
2. أن هذا الجيش الوطني عاش تجربة فريدة متحدّيا جيشا عصريا فواجه نيران أسلحته الثلاثة البرية البحرية والجوية في حجمها الكبير وتجهيزاتها العصرية ذات الفعالية التقنية العالية زيادة عن حاملة الطائرات Arromanches.
إنه في ظروف صعبة كهذه علينا أن نتذكر أنه قلّما تنمو الشعوب والجيوش دون تجارب قاسية عبر تاريخ طويل حافل بالعمل الدؤوب المثمر. أنظر تصرف الأمريكان والفرنسيين لابقاء قواتهم في حالة تأهب دائم.
- في الختام إليكم هذه الخواطر الشخصية التي استنتجتها إثر عودتي من سيدي أحمد بعد هذه التجربة الفريدة القاسية لكن الغنية بعديد الدروس التي أثرت حتما في حياتي المهنية العسكرية طيلة 37 سنة :
بعد كل ما حدث طيلة الأيام الأربعة لمعركة الجلاء، إني أشعر بالسعادة والفخر(دون غرور طبعا) لأنني:
1. لم أضعف عند مواجهة الجيش الفرنسي، أحد عمالقة جيوش العالم.
2. أني سيطرت في ذلك اليوم على الخوف الذي كان يمزق أحشائي قبل بدء المعركة، أما بعد ذلك فغمرتني أمور أهم واخطر من ذلك: التصدي للأجنبي الغاصب وتحقيق المهمة.
3. أني لم أفقد رشدي، الشيء الذي مكنني من تحديد مهمة لسريّتي ثم القيام بها على أحسن وجه بإعانة مقاتلين شجعان كنت قد كوّنتهم بنفسي طيلة 9 أشهر مضت.
4. تمكّنت سريّتي من تسديد ضربات موجعة لعدو متغطرس صرّح في كبرياء و"حڤرة" أنه أعطانا درسا مؤلما،متناسيا تلك الأضرار التي تكبدها صباح يوم الخميس 1961/07/20.
5. في الختام أحمد الله أني لم أمت في سبيل تونس مُدبرًا (في حالة فرار).
الفريق أوّل (م) سعيد الكاتب
- اكتب تعليق
- تعليق