بوجمعة الرميلي: أخف الضررين إيقاف المبادرة
لقد فشل ما وقع تسميته بمبادرة حكومة الوحدة الوطنية و لا فائدة في مزيد النفخ في رمادها. ويتعين استخلاص الدروس من الظروف والأسباب والملابسات التي حفت بها وأدت إلى ما باغت الجميع وأثار استغراب من تعودوا على حكمة الباجي قائد السبسي وحنكته وحسن تدبيره وقدرته على الخروج من أعناق العديد من الزجاجات. لكن لا بأس ما دامت النية صادقة والهدف خدمة تونس والبحث عن كل السبل لإخراج البلاد من الصعوبات. وكان بإمكاننا أن ننير رأي السيد رئيس الجمهورية، نحن رفاق الدرب والنصوحين المخلصين، لكننا بقينا نتفرج على استقبالات القصر الرئاسي لمن هب ودب إلا ممن ساهموا مثلنا في التأسيس الأصلي، وليس الملفق، لحركة نداء تونس، و تحملنا جراء ذلك الرمي بالخيانة التي قذفنا بها رفاق من حزب المسار الديمقراطي والإجتماعي، لكننا تحملنا الشتائم رغم قسوتها علينا ودافعنا على موقفنا بأن المرحلة التونسية الجديدة تقتضي الانتقال نحو أشكال وأطروحات واستراتيجيات سياسية لم يعرفها اليسار من قبل، لأنها ثورة وحقبة تاريخية بأكملها، تتطلب تجاوز كثير من القوالب والآليات القديمة التي جربناها العقود تلو العقود وكللت كلها بالفشل. و لم نندم على الخيار والتحمنا بإخوة من الوطنين الدستوريين واحترمناهم واحترمونا وجربناهم وجربونا وكانت مسيرة حركة نداء تونس الرائعة والرائدة. لكن الأطماع والتكالب و الطموحات المفرطة والكثير من الأحيان في غير محلها جعلت التجربة تتأزم وتتعطل. كما لم يتفطن سي الباجي بما فيه الكفاية إلى مخاطر الخلط بين السياسي والعائلي و التجربة المريرة التي قامت عليها ثورة بأكملها وما تركته لدى التونسيين بدون استثناء من تطير شديد من هذه الظاهرة رغم احترامهم الكبير للرئيس المؤسس. علاوة على أن حافظ قائد السبسي الذي نكن له كل العطف والتقدير والمودة والصداقة لا يتمتع بأي خبرة أو تكوين سياسي يؤهله بأن ينفرد بقيادة أول حزب وطني في مرحلة ديمقراطية حساسة ومعقدة وفريدة من نوعها ومحتاجة لكل أنواع الاجتهاد الفكري والسياسي لمواكبة مسيرتها الصعبة، و ما يحصل الآن في أمر قيادة النداء لا يليق بتونس ويلقي بضلاله على مجمل المبادرة، التي لا تخلو من خلفيات سلبية من بينها أن الحبيب الصيد وقف في وجه التجاوزات التي ترمي إلى ترويض دواليب الدولة لخدمة مصالح ضيقة. حيث من المعروف أن مصير الحبيب الصيد تحدد إلى حد كبير إثر إقالته لناجم الغرسلي وزير الداخلية السابق، وكل الباقي ليس إلا تغليف لأمر معلوم. وبالتالي إذا كان هناك من تقييم لمجمل العمل الحكومي فلا بد أن يكون كاملا بما فيه المسألة الجوهرية والمحورية والأساسية والمتمثلة في حماية الدولة من المنزلقات التي تؤدي إلى تحويلها إلى دولة مناطق نفوذ مشبوهة وخدمة مصالح وتجاوزات، حيث أن هذه المسألة هي المسألة المركزية وكل الباقي يتبعها.
ومن هذا المنطلق ليس هناك أي مجال لاستبلاه الشعب ومثقفيه ومجتمعه المدني القوي والفاعل ومنظماته الوطنية العتيدة لتمرير مبادرة في نواياها وظاهرها، ونحن ننزه بدون أي تردد أو تحفظ الرئيس الباجي قائد السبسي، ذات بعد وطني، لكنها لا تخلو من محاولات التغطية على الخلل السياسي الأصلي، الذي أدى إلى تغييب السند القوي لحكومة الحبيب الصيد، والمتمثل في انهيار قيادة نداء تونس.
حيث أن أول تقييم للمسار الحكومي لا بد أن يتناول سلسلة الورقات الحمراء التي رفعت منذ مدة في وجه رئيس الحكومة من طرف من أصبح بعد ذلك، لمكافأته، رئيس كتلة نواب الحزب الذي رشح السيد الحبيب لخطة رئيس الحكومة. كان هذا الأمر كافيا لوحده لأن يثير أزمة مؤسسات حين يفقد رئيس الحكومة مساندة كتلة الحزب الذي رشحه، وهو ما كان من شأنه أن يتطلب في ما يتطلب مسألة النظر في انتخابات تشريعية سابقة لأوانها لأن الكتلة أصبحت خارجة عن قرار الحزب الذي قام هو باختيار رئيس الحكومة وليس الكتلة. كان بالإمكان أن تثار هذه المسائل المؤسساتية الحيوية قبل الخوض في ملفات الفسفاط والنفط على أهميتها. هذا مع العلم أن مبادرة حكومة الوحدة الوطنية لا بد منطقيا أن يكون منطلقها الإقرار بالفشل الشامل والذريع لحكومة نداء تونس وبالتالي التنسيب الكبير لدور الحركة في المبادرة بل الانتزاع منها لأي إمكانية للريادة من طرفها، لإيلائها لمن هو أولى منها بها، مثل 'الجبهة الرئاسية' مثلا، أو ما شابهها من التغليفات لنفس المحتويات. حيث لا يجب أن يغيب عن أي كان الأجواء السياسية الملوثة للغاية لمباردة حكومة الوحدة الوطنية، التي لم يستسغها الرأي العام التونسي ولم يفهم معانيها وأبعادها، حيث كان ولا يزال المطلوب بحدة هو توفير المساندة القوية للحكومة وليس العكس، حتى تقوم بدورها في مواجهة التحديات الوطنية المتنوعة والعديدة والمتشابكة، لكن ما تم مخالف لذلك تماما، من خلال اختلاق عملية في مجملها إرباكية لا غير، في ظروف من المفروض أن تقتضي التماسك والتضامن الوطني ورص صفوف جبهة مقاومة الإرهاب والفساد والتسيب، من أجل النهوض بالتنمية ونشر العدالة وفرض احترام القانون. وخلاصة القول أن التراكمات السلبية للتمادي في المبادرة أصبحت هي الجانب الطاغي عليها وأصبحت الحكمة والشجاعة والوطنية تتمثل في التخلي عنها، على الأقل في شكلها الحالي.
بوجمعة الرميلي
- اكتب تعليق
- تعليق