نقائص قانون الموفق المصرفي ونتائجه الضعيفة وغير المفاجئة
هل يمكن لأحد أن يزعم أن قانون الموفق المصرفي حقق درجة معقولة من النجاح؟
بعد مضي عشرة أعوام على صدوره، أعتقد أن هذا القانون قانون عدد 19 لسنة 2006 مؤرخ في 2 ماي 2006 يتعلق بتنقيح وإتمام القانون عدد 65 لسنة 2001 المؤرخ في 10 جويلة 2001 (المتعلق بمؤسسات القرض) يحتاج تقييما من أجل تدعيمه أو تحسينه أو تغييره كليا. فالتجربة أثبتت أن البنوك قامت في البداية وبعد صدور القانون بتعليق قائمات الموفقين المصرفيين الذين اختارتهم عملا بأحكامه، ولاحظنا أن بعض البنوك نشرت في فروعها قائمات تتضمن أحيانا اسمين أو ثلاثة أسماء وربما أكثر. لكن مع مرور الوقت، تغيرت الممارسة تدريجيا نحو نشراإسم واحد على أنه "الموفق المصرفي" للبنك الفلاني، وبالتالي انتفت إمكانية الاختيار بالنسبة للحريف الذي أصبح أمام شخص واحد، عليه أن يختار بين اللجوء إليه أو اللجوء إلى المحاكم. فما الذي أدى إلى هذا التغيير؟
إن منطق القانون ومنطق البنوك هو السبب في هذا الإشكال. فالبنوك عموما اختارت لهذه المهمة بعضا من أعوانها المتقاعدين (وأكون سعيدا لو اكتشف أن أحد البنوك قام بغير ذلك)، مع خيار جوهري يتمثل في منحهم جراية قارة مهما كان حجم العمل الذي يقومون به، بما تحولت معه العملية إلى ما يشبه الجراية التكميلية المستحقة بصفة آلية دون اشتراط بذل مجهود ما. وطبعا فإن الموفق المصرفي ليس من دوره التجول بين فروع البنك للبحث عن أصحاب المشاكل واقتراح نفسه عليهم كوسيط، بل إن الحريف هو المطالب بالبحث عن الموفق المصرفي. لكن حين يجد الحريف نفسه أمام خيار وحيد فإن ذلك يقلص كثيرا من فرضيات اختيار التوفيق مع أنه بإمكانه اللجوء مباشرة إلى المحاكم.
أما البنك فبما أن العملية مكلفة له مهما كان حجم العملية فإنه سيميل إلى الاقتصاد في المجهود، بخلاف ما إذا كانت المكافأة مرتبطة بحجم العمل، ففي هذه الحالة يمكنه أن يقترح على الحريف قائمة موسعة، كما يمكن حسب رأيي إحداث قائمة وطنية تشترك البنوك معا في اختيار أفرادها كما هو شأن قائمات الموفقين والمصالحين لدى مؤسسات التحكيم والمصالحة، ويمكن في هذه الحالة أن يتم مثلا وضع قائمة وطنية موحدة من 40 أو 50 اسما، على أن تعتمدها كافة البنوك معا، وأن يكون للحريف الخيار من بينها دون تحديد مهما كان اسم البنك الذي له إشكال معه. وبما أنه من غير المناسب أن يتكفل البنك المركزي أو غيره من السلطات العمومية بإدارة هذا الأمر فمن الممكن أن يوكل مثلا إلى الجمعية المهنية للبنوك والمؤسسات المالية، على أن يقع تعميمه إلى قطاع التأمين مثلا. وفي هذه الحالة ، يتحمل كل بنك مكافآت الموفق الذي يتم تعيينه في أي نزاع يخصّه، والتي تحتسب وفق جدول أتعاب يقع ضبطه من قبل الجهة التي تشرف على المنظومة، بحسب الجهد المبذول والنتيجة الحاصلة (مكافأة عن كل توفيق مصرفي ناجح).
إن العقلية التي ينبغي أن تبنى عليها منظومة التوفيق المصرفي هي عقلية الفعالية والكفاءة، ولذلك يجب مراجعة القائمة كل ثلاثة أعوام، مع التفكير في تشريك منظمات الدفاع عن المستهلك أو حرفاء البنوك بوجه خاص في عملية اختيار الموفقين.
وعلى الرغم من التخوف الذي قد تبديه بعض البنوك من إمكانية اختيار الحريف موفقا لا يروق البنك فإنه ينبغي خصوصا التذكير بأن الموفق ليس قاضيا ولا محكما وليس من دوره أن يرفع تقارير إلى أي جهة كانت حول البنك، بل يقتصر دوره على تنظيم الحوار والاستفادة من خبرته لتقريب وجهات النظر بين الطرفين وتقديم مقترحات معقولة للتقدم بالنقاش، ثم تحرير محضر اتفاق أو محضر فشل التسوية الودية دون أن يحق له أن يحرر تقارير حول ما دار من النقاشات أو أسباب فشل التسوية الودية أو ملابسات الاتفاق، كما لا يجوز أن يدعى أمام المحاكم أو هيئات التحكيم كشاهد إلا في صورة اكتشاف جرائم إرهابية بمناسبة قيامه بمهمته.
وينبغي أيضا التذكير بأنه كان هناك تصور مغاير قدمه مركز الدراسات القانونية والقضائية للمسألة في إبانه، يقتضي الاستعاضة عن التوفيق بالتحكيم، وذلك بأن يكون التحكيم بمثابة "خدمات ما بعد البيع" التي تقدمها البنوك، بحيث يجب على كل بنك أن يختار قائمة محكمين لا تقل عن 10 محكمين، يتم إشهار أسمائهم بفروعه وموقعه الالكتروني الرسمي، بحيث يحق للحريف بمجرد وقوع نزاع أن يختار أحد المحكمين الذي ينظر في النزاع كمحكم وحيد بعد سماع الطرفين، ويصدر حكمه في أجل قصير، ويتحمل البنك أتعاب المحكم في جميع الأحوال حتى ولو صدر الحكم ضده. وجدير بالذكر أن هذا الصنف من التحكيم يلقى حاليا انتقادات كبيرة في بعض البلدان مثل روسيا حيث أصبح الفقه يطلق عليه تسمية "تحكيم الجيب" pocket arbitration) [1]) باعتبار أن كثيرا من الشركات أصبحت تقدم التحكيم كخدمة من خدمات ما بعد البيع service après-vente (SAV) مع إدراج شروط في عقودها تقيّد الحريف بوجوب اللجوء إلى التحكيم ولا تمنحه خيار اللجوء إلى المحاكم، مع اختيار محكمين يناسبونها وعدم منح الحريف حرية اختيار محكم من خارج القائمة التي تضعها الشركة، مما أدى إلى رد فعل تشريعي قاس من خلال تعديل قانون التحكيم في ديسمبر 2015.
أما فكرتنا فكانت وما زالت متمثلة في ترك الخيار للحريف في جميع الأحوال، بحيث يمكنه أن يختار اللجوء إلى المحكمة أو أن يلجأ إلى التحكيم، وفي هذه الحالة لا يمكنه اختيار المحكم من خارج القائمة التي يضعها البنك على ذمته، بحيث يتحقق تلاقي الإرادتين على التحكيم وعلى شخص المحكم بمجرد اطلاع الحريف على قائمة المحكمين واختياره أحدهم محكما في نزاعه.
وبهذه الكيفية نضمن فض النزاعات البنكية بفاعلية من قبل محكمين يختارهم البنك والحريف، كل من جهته، بتكلفة معقولة يتحملها البنك وحده، وفي وقت معقول، بخلاف التوفيق الذي لا يفضي في الغالب إلى حل للنزاع.
أعتقد أنه من الوجيه التفكير مجددا في هذه المسائل والخيارات.
أحمد الورفلي
محام – محكم
[1] بدأ الإشكال يبرز حين قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية هذا الشكل من التحكيمات (2014) ثم تبعتها المحكمة العليا في قضية of Geotrest LLC v Gazprom Invest Vostok LLC- قرار منشور بـ: http://doc.ksrf.ru/decision/KSRFDecision182762.pdf. أنظر مقال:
Ivan Philippov: «The Problem of ‘Pocket Arbitration Courts’ in Russia: Finally Resolved?», published on http://www.cisarbitration.com/2015/04/07/the-problem-of-pocket-arbitration-courts-in-russia-finally-resolved/ , 7 April 2015.
وصدر القانون المؤرخ في 29 ديسمبر 2015 مانعا لهذه الممارسات. أنظر مثلا: «Laws on Arbitration Reform in Russia Adopted «http://www.debevoise.com/~/media/files/insights/publications/2016/02/20160216_laws_on_arbitration_reform_in_russia_adopted.pdf, 16 Feb. 2016
- اكتب تعليق
- تعليق