أخبار - 2016.05.19

الثـــورة‭ ‬ من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬لغوية

الثـــورة‭ ‬ من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬لغوية

 أثناء اللّقاءات الصحفية التي جمعتني بعدد من السياسيين في الأيام التي تلت سقوط نظام بن علي في تونس كنت حريصا على أن أسألهم واحدا واحد بعيدا عن الميكروفون أو أمامه: هل كنتم تتوقعون ما حصل؟ وكانوا كلّهم يجزمون أن سيناريو 14 جانفي 2011 يستعصي على مخيّلة أعتى السينمائيين وأمهرهم فما بالك بمخيلات السياسيين. وهذا ما يفسّر كثيرا الارتباك اللّغوي الذي حفّ بهذا السيناريو وتشكُّلَ مفهوم الثورة تدريجيا في وقت لاحق وخصوصا في الأجواء التي اكتنفت اعتصاميْ القصبة.

هذا الارتباك اللغوي له أسباب تاريخية، فالثورة فكرا وممارسة لم تكن من الأشياء المقبولة في تونس ،كان التاريخ المدرسي كله يتباهى بالواقعية البورقيبية التي تعارض الاتجاهات الثورية الراديكالية الشرق أوسطية، وقد لعبت البروباغاندا دورا مهما في تجذير هذا التصور البراغماتي للدولة، وكان التوجيه اللّغوي أول مظهر من مظاهر تشكيل الرأي العام وصياغة الشخصية الاجتماعية القاعدية، سُمّي خروج بورقيبة في مارس 1934 عن الحزب الدستوري «الانشقاق المبارك» وسميت المعركة الدامية بين بورقيبة وصالح بن يوسف «الفتنة اليوسفية»، ولم نتساءل البتة ونحن نقرأ التاريخ لماذا نسمي المقاتلين «فلاقة» بينما يسمون في الجزائر «مجاهدين» رغم أنهم ينتمون إلى نفس المعركة، كانت كل المصادمات الشعبية مع السلطة تجد لها في المعجم السياسي وصفا ينزاح بها عن المعجم الثوري الأصلي، وهكذا سُمّي يوم 26 جانفي 1978 «الخميس الأسود» وسُميت أحداث جانفي 1984 «حوادث الخبز» ولم تطلق صفة الشهيد على من بذلوا أرواحهم في مثل هذه الأيام التاريخية الحاسمة الاّ في أغاني «لزهر الضاوي» وحلقات النقاش السياسي الجامعية ونوادي المعارضة الراديكالية. وفي 7 نوفمبر سُمّي الانقلابُ الطبي كما وصفه الإعلام الأجنبي «التغيير المبارك»، وفي سياق يبدو انتهازيا استدرجت بعض النخب معنى «الثورة» لوصف ما حدث ناعتة إياها بالهادئة للبقاء في نطاق المواضعات التونسية رغم تعارض النعت والمنعوت دلاليا وبديهيا.

لقد راجت لدى الأوساط الشعبية منذ السبعينيات فكرة أن تونس مثل سويسرا في حيادها وصداقتها للجميع وأن التونسيين على حدّ وصف الزعيم لشعبه في أحد خطاباته هم «عصافير الجنة»، وتطوّر هذا التوجه في التسعينيات لتصير تونس «بلد الأمن والأمان» و «بلد الفرح الدائم» تحت شعار «ابتسم أنت في تونس» بينما كان العالم يموج بالاضطرابات والثورات والاعتداءات الإرهابية التي لم تسلم منها حتى الدول الكبرى، كانت آلة الدعاية تعمل طيلة نصف قرن بلا هوادة على تشكيل الوجدان التونسي بطريقة تختلف عن السياق العربي والإفريقي المحرّض، لا ثورات ولا انقلابات ولا هم يحزنون، الثورة الوحيدة التي يمكن دعمها والوقوف إلى جانبها والتظاهر من أجلها هي الثورة الفلسطينية.

لكن في جانفي 2011 حدث كل شيء بسرعة مذهلة، لم يكن أحد يتوقّع أن تنتهي الاحتجاجات الشّعبية التي اندلعت منذ أقلّ من شهر في سيدي بوزيد بتلك الكيفية، ولم يكن أحدٌ يتصوّر أنّ الرئيس الذي حكم البلاد بقبضة من حديد يمكن أن ينهار حكمه في أقلّ من ثلاث ساعات وسط تشويق هوليودي صنعته قناة الجزيرة بإتقان شديد، ثم ظلّت أحداث «الثورة التونسية» في الفترة الفاصلة بين سقوط النظام في جانفي 2011 وانتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر 2011 تُكتب سطرا سطرا بلا تخطيط مسبق، يتجاذب دفّةَ الأحداث فيها التنازعُ بين المتناقضات، تنازعٌ بين اتجاه وسطي يعمل على ترميم النظام من الداخل واتجاه راديكالي يرمي إلى إلغائه كليا، وتنازعٌ بين نخبة تنتصر لأولوية الحرّية والديمقراطية على المطالب الاجتماعية الفئوية وأغلبية تطالب بالعدالة لمقاومة الحيف الاجتماعي وتحقيق التنمية. لم يكن ثمة آنذاك توصيف لغوي دقيق وكلّ التّسميات التي استعملتها وسائل الإعلام العالمية والمحلية أنتجتها جهات خارجية في وقت مُبكر يكاد يستبق الأحداث بشكل مريب، ففي يوم 6 جانفي 2011 نشرت مجلة foreign policy الأمريكية مقالا للدكتور «مارك لينش» أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن بعنوان «الربيع العربي التابع لأوباما» تحدّث فيه عن دور الوسائط الجديدة في إحداث التغيير داخل البلدان العربية، ثم سرعان ما أطلق على أحداث تونس اسم «ثورة الياسمين» قبل أن تستقرّ في الأدبيات الرسمية تحت مسمى «ثورة الحرية والكرامة».

يفسّر ما سبق كثيرا من الارتباك الذي يسود في التعامل مع التاريخ السياسي من منظور محلي أساسا، فالغرب يصف التحولات التي عصفت بالشرق الأوسط من منظوره الخاص ويعتبر التجربة العربية مماثلة للتجربة الأوروبية إذ يستحضر مصطلح الربيع العربي ثورات مماثلة في التاريخ الحديث والمعاصر على غرار ربيع الأوطان 1848 وربيع براغ 1968 أو ربيع أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات بعد سقوط الأنظمة الشيوعية، ويستبطن هذا التمثيل اللغوي بداهة توقعات بأن تكون هذه الثورات ديمقراطية علمانية تطيح بالأنظمة المستبدة التي حكمت المنطقة لأجيال تحت راية دولة الاستقلال الوطنية، لكن الرؤية من الداخل ومعايشة الواقع الاقتصادي والاجتماعي في بلدان الربيع العربي تفسح المجال للتشكيك في فكرة الربيع وتمنح المعارضين والمتردّدين مبرّرات كثيرة لتقويض الأسس التي تقوم عليها الثورات عادة.

عامر بوعزة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.