بيـن عـبء التاريخ ومضـايق السيــاسة
فرض قرب انعقاد المؤتمر العاشر لحزب حركة النهضة طرح تساؤلات عن إمكان توصّل المؤتمر إلى اعتماد مقاربات واتخاذ قرارات نوعية تفضي إلى بروز قوةً سياسية - اجتماعية وطنية فاعلة؟
يرتبط البحث عن هذا الإمكان بطبيعة حضور حركة النهضة في المشهد الوطني منذ نشأتها وما يثيره ذلك الحضور من إحراج لأكثر من جهة باعتبار أن سؤالها الصميمي الذي تطرحه كان على الدوام سياسيا وثقافيا في آن. ذلك أن «إقحام» الثقافي في المجال السياسي- الاجتماعي كما صاغته النخب الحاكمة والمثقفة في تونس الحديثة يبدو كأنه مفارقة تاريخية لا تُطاق.
في أحد اجتماعات مجلس الوزراء التونسي، سبعينيات القرن الماضي، مع بدايات التظاهرات الإسلامية في المركب الجامعي بالعاصمة وما صاحب ذلك من مشادات سأل الوزيرالأول آنذاك عن مطالب المحتجين فجاءه الجواب مفاجئا: يريدون جامعا للصلاة. علّق الوزير الأول في حيرة من لا يصدق ما يسمع: جامع في الجامعة؟
قبل ذلك بعقدين، وقبيل الاستقلال، يروي أحد المقرَّبين من الزعيم بورقيبة ما عاينه أثناء لقاء جمع وفد شيوخ الزيتونة بالرئيس الأسبق. بعد مغادرة الزيتونيين كان الاجتماع بوفد ثان نقابي مذهلا للمرافق فلم يتمالك عن التساؤل: لم تظهر أي اهتمام بالوفد الزيتوني وحين أقبل النقابيون كانت عنايتك بهم واضحة، لماذا؟
أجاب الزعيم بورقيبة: أنا لا أراهن على الجواد الخاسر.
لهذا الفرس «ضئيل الحظ» قصةُ في تونس لا تضاهيها أية قصة في أي قطر عربي آخر. فرادة هذه القصة لاشتمالها على معالم أساسية متصلة عضويا بما اشتغلت عليه حركة النهضة منذ ما يناهز نصف قرن: خطاب الهوية. لقد اختارت النهضة منذ البداية أن تستحضر الذاكرة الجماعية بتمثّلات متعددة رافضة مقولة الانقطاع التاريخي وموت الذات. هو نفس التوجه الذي رفضته نخب وطنية، زيتونية وغير زيتونية، حين شجبت التسليم بالهزيمة الحضارية أمام الآخر الغازي. ما حصل فعلا أن طبيعة النخب التي قادت معركة التحرير الوطني في تونس كانت منقسمة ثقافيا ومذهبيا بين شِقٌّ يرى أن الإسلام الثقافي -الحضاري هو ركيزة الهوية الوطنية يقابله شِقٌّ آخر مرجعيته النموذج الحداثي الغربي. صميم الاختلاف لم يكن دينيا بل كان قائما على التمفصل بين الهوية والدين من جهة وبين الدولة ونظام الحكم من جهة ثانية. ما انخرطت فيه سياسة النخبة التحديثية بقيادة الرئيس بورقيبة في إدارة شؤون الحكم تركّز على دولنة الهوية والدين وإلحاقهما بمؤسسات دولة الاستقلال.
أهمية هذا التدقيق اليوم يفيدنا في تقييم الجهود التي تبذلها حركة النهضة وهي تخوض أعمال مؤتمرها العاشر إزاء ما انتهت إليه سياسات النمط التحديثي الذي رفضت الانخراط فيه سابقا. عن هذا التدقيق تبرز مسألتان: أولاهما أن حقيقة الخلاف بين شِقي النخب الوطنية لا يتصل في جوهره بمسألة الإيمان والكفر بل بطبيعة النظام السياسي ونسقه الثقافي والفكري والاجتماعي. ثانيتهما أن دولنة الهوية والدين واستتباعهما لم يكن مشروعا «بورقيبيا» خالصا بل انطلق مع الدولة الحسينية وبصورة مؤكدة في القرن التاسع عشر.
في العصر الوسيط، عرفت تونس تركيبا للعلاقة بين الديني والسياسي كان المجتمع بمقتضاه مُمَأسَسًا ومُنَتظَمًا بصورة شبه كلية بمؤسسة حقيقية ذات رموز ورؤى ونظام تراتبي ينتظمه فكر ديني خاص.
تغيّر هذا الوضع تدريجيا في المرحلة الحديثة لينتهي بالمؤسسة الدينية إلى خمود فاعليتها التي كانت تجعلها الممرَّ الآمن للاستقرار أو للثورة بتراجع أثرُها المعرفي والاجتماعي نتيجة عناصر ثلاثة كبرى:
أ- مع الحسينيين شهدت البلاد «انتصارا» نهائيا لمصلحة «أبناء تونس»، كما يسميهم ابن أبي الضياف، بتدخل العناصر المحلية مباشرة في إدارة الشأن العام غيّرت من توجه إدارة الدولة مُشكِّلا «انزياحات» لعناصر الشرعية التي يقوم عليها المُلكُ نتيجة بروز عوامل هيكلية أتاحت تجددا للنخب وحراكا لمكونات المجتمع.
ب- تحوّلت المرجعية الدينية من الخصوصية الأهلية ذات الاستقلالية التنظيمية والمالية والفكرية إلى النظام الرسمي المرتبط بإرادة الأمير الذي سوّق نفسه حاميا للدين والعلم، منوّعا بذلك في أسس شرعيته فارضا انتظاما هرميا للمؤسسة الدينية له أولوية سياسية أفقدته الحد الأدنى من التضامن بين أعضاء المؤسسة.
ج- غدا الإحساسُ بالمسؤولية وبالـ «تكليف الشرعي» دافعا للعلماء أن يختاروا بين الانسحاب من دائرة الفعل الاجتماعي والعلمي وبين الانخراط في مشروع السلطة الحاكمة لما استقر لديهم من أن وظيفتهم سلطوية تساير مهام المؤسسة السياسية.
أهم من نظّر لوجهة التطابق بين تطلعات الديني والسياسي كان الشيخ محمد بيرم الأول المتوفى سنة 1799 م صاحب «رسالة في السياسة الشرعية». أكّد الشيخ في رسالته وجهةَ المجاراة بالتوسعة على الحكام في السياسات باعتبار أن ذلك من ضرورة التطور الذي تقتضيه أحكامهم وأنّه لا يخالفً الشرع. مبدأ «الاستصلاح» هذا مع ما الحاجة إلى مواكبة العصر ظل مُعتَمَدًا بصورة آلية بعد ذلك لدى عموم المصلحين في تونس على اعتبار أنه استئنافٌ للاجتهاد مما همّش الخطاب الديني وأوهى وَعيَه.
غاية استحضار العناصر التي أنهت عصر المشروعية الدينية مرجعًا للدولة وأسست لدولنة الدين هو أن انخراط النهضة في المجال السياسي لا يمكن أن يُغنيها عن المقاربة التاريخية- الاجتماعية- الثقافية المشخِّصة لهويتها ومسار تشكلّها من البدايات وما اعترى ذلك المسار من أحداث واختيارات مفصلية وعلاقتها بسياقاتها.قبيل انعقاد المؤتمر العاشر لحزب النهضة الذي أُريدَ له أن يكون تقييميا ومضمونيا بامتياز، من الضروري الإجابة عن جملة من الأسئلة المرتبطة بالسِجلين الرئيسيين اللذين يتنزّل فيهما المؤتمر. هناك من جهة سجلّ التاريخ واستتباعاته من مثل: لماذا صار المجال الديني «جوادا خاسرا» في تونس؟ وكيف نفسر ضمور الوعي الديني وعجزه عن إدارة التمدن قديما وحديثا؟ كيف تنامت ظاهرة الغلوّ التي يسميها الباحث الاجتماعي والإنساني الفرنسي «روجي باستيد» المقدس المتوحش (Le sacré sauvage) ضمن تيارات سلفية رافضة وعنيفة؟ ما معنى عدم تخصيص المؤتمر لائحة مهتمة بالشأن الديني والاقتصار على عناصر منه ضمن اللائحة السياسية؟ بهذا التوجه ماذا تعني «إسلامية النهضة» وما هي الإضافات التي تميزها في مجتمعَ التعدد المتطلع إلى الإضافات التجديدية؟
مقابل هذا يبرز السجلّ المتصل بتمثل مقاصد الثورة ضمن مضايق السياسة الثلاثة: الدولة والحزب والتموقع الاجتماعي. من هذا السجل يُطرَح سؤال طبيعة الدولة التي تعمل النهضة على تبنيها بعيدا عن غَواية الهيمنة على المجتمع ودولنة الدين والثقافة؟ بعده يُطرح سؤال التنظيم ومدى الاقتدار على التحرر من تبعات الملاحقة والاضطهاد نفسيا وفكريا وهيكليا وعلائقيا.
يبقى السؤال الخاص بإمكانية إسهام النهضة في تركيز تعاقد اجتماعي عادل يكون بديلا عن سياسات العنف وعلاقات التدابر السائد بين مكونات الساحة الوطنية.
هذه أسئلة التحوّل الشاق والضروري التي يطرحها مجتمع طامح للتحرر والعدالة ضمن السياق المعولم. ما تقتضيه سيرورة هذا التحوّل يجعل النهضة في لحظة فارقة لها أن تُسهم بها جدِّيًا في إنهاء صراع المرجعيات المرير الذي احتضن الاستبداد. يتعيّن نجاح المؤتمر العاشر في أن يصبح مؤتمر التأسيس الثاني بمواجهة تحديين رئيسيين في هذه اللحظة الاستثنائية: بناء حزب معاصر مفارق للتحشيد مراهن على الكفاءات والبدائل واعتماد مقاربة للشأن الديني تثمن تعدد التعبيرات واختلاف أدوات التحليل وتنوّع المخرجات بما يُرسي مرجعيةً مستقلة ومؤسسةَ علم وتعليم ومصدر رأي وتجديد.
احمــيده الـنـيـفــر
- اكتب تعليق
- تعليق