الدكتور عبد القادر المهيري، صاحب الآيادي البيضاء على لغة الضاد ( كلمة الدكتور عبدالمجيد الشرفي )
ألقى الدكتور عبد المجيد الشرفي رئيس المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة" الكلمة التالية في تأبين الدكتور عبد القادر المهيري:
الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر
أيها الراحل العزيز
يا من ستبقى في رحاب الخلد رمزا يضاهي مجده مجد العظام
كنت وستبقى الصديق الوفي الذي ينتقي من معارفه من يكون جديرا بالتقدير خلقا وعلما
كنت وستبقى الزميل الذي يكن له الجميع الاحترام مهما تفرقت بهم السبل وتعددت الانتماءات
كنت وستبقى الأستاذ المتميز الذي تخرجت على يديه نخبة من علماء اللغة والنحو والبلاغة الذين رفعوا راية الوطن عالية في مجال اختصاصهم
كنت وستبقى الباحث الذي قتل عيون التراث النحوي درسا وتمحيصا، أاضاء قضاياها بأنوار المعرفة اللسانية الحديثة، فكنت بحق رائد الدرس النحوي الحي في الجامعة التونسية صحبة زميلك وصديقك في "التجديد" صالح القرمادي
كنت وستبقى الوطني الغيور الذي انخرط منذ شبابه في الحزب الدستوري الجديد وتحمل في صلبه ـ وقد صار الحزب الاشتراكي الدستوري ـ عالي المسؤوليات، فكنت فيه صوت الجامعة التونسية والمدافع عن قيمها الأصيلة، ثم اعتزلت ذلك الحزب عندما تحول إلى تجمع للانتهازيين والمتملقين
كنت وستبقى مساهما في الصفوف الأولى بكل تفان وتجرد في الارتقاء بالمنظومة التربوية الوطنية الحديثة في مختلف مراحلها، حتى أصبحت الذاكرة الحية والمرجع الأمين الثابت لكل من يروم معرفة نجاحات تلك المنظومة وإخفاقاتها
كنت وستبقى أول عميد منتخب في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس، وإن رام المسؤولون وقتها أن لا تحمل هذه الصفة، بل أن تكون "الأستاذ المدير" وحسب، بعد أن تحملت مسؤولية إدارة معهد بورقيبة للغات الحية مدة سنتين. وحين عينت رئيسا لجامعة تونس للآداب والفنون والعلوم الإنسانية تصديت بكل شجاعة وذكاء لمحاولة الإساءة إلى الجامعيين الذين كانت لهم مواقف مناهضة للاستبداد.
الله اكبر الله اكبر الله اكبر
أيها الفقيد العزيز
لم اكن أتوقع حين كنت تدفعني بمعية الخلص من أصحابك منذ أشهر معدودات إلى الترشح لرئاسة بيت الحكمة أن أقف اليوم مؤبنا لك، وقدعرفتك متقدا نشاطا وحيوية ومهتما بكل ما يتعلق بأخبار المجمع التونسي الذي آمنت برسالته وأنت الأكاديمي المشهود له في بلده وفي الشرق والغرب إلى جانب العلم ورسوخ القدم فيه برصانة المواقف وسداد الرأي.
لقد كنا نتابع صحتك وهي تضعف باستمرار، ولكننا كنا، حين نرى قواك تنهار من أسبوع إلى آخر في زيارتنا أيام الثلاثاء، نمني النفس بتغلبك على الداء الذي انهكك لما نعرفه فيك من شجاعة ولما احتفظت به إلى آخر حياتك من صفاء الذهن وسرعة البديهة.
نودعك اليوم، سي عبد القادر، وقلوبنا تقطر أسى، ونحن واثقون من أنّ أعمالك وآثارك ستدل عليك دلالة لا يمحوها الزمن وتعاقب الأيام. فلم تكن المكانة المرموقة التي احتللتها عن جدارة منة من أحد، بل كانت ثمرة اجتهادك ومثابرتك منذ أن كنت في كتاب الحاج خليفة ثم في المعهد الثانوي للذكور بصفاقس حيث اضطرتك ظروف الحرب العالمية الثانية إلى الانقطاع مؤقتاعن الدراسة. وما إن تحصلت على الباكالوريا بجزئيها حتى انتقلت إلى العاصمة لإعداد شهادة الدراسات التحضيرية من معهد الدراسات العليا، وكان اذ ذاك نواة للتعليم الجامعي العصري في ظل الاحتلال الفرنسي.
ولم يكن إبوك ثريا حتى ينفق على دراستك الجامعية ولا كانت المنح متاحة آنذاك لتشجيع النجباء من أمثالك فاشتغلت قيما بمعهد كارنو، ولم تتردد، وأنت المحتاج إلى تلك الخطة، في مواجهة لوسيان بي (Lucien Paye)مدير التعليم العمومي المعروف بعنجهيته. والتحقت بعد ذلك بباريس لتعد في الصربون إجازة في اللغة والآداب العربية فشهادة الدراسات العليا المؤهلة للترشح لمناظرة التبريز، ببحث عن "محكم" ابن سيدة. ومارست التعليم أستاذا مجازا في معهد خزندار، وحين نجحت في مناظرة التبريز المعروفة بصبغتها الانتقائية، سنة 1959 وأنت في الخامسة والعشرين من عمرك، عينت في معهد نهج الباشا. وإذ كان دخول الجامعة للتدريس بها يقتضي في ذلك الظرف المرور بمدرسة ترشيح الأساتذة المساعدين فقد عينت بها سنة 1962 ومارست بالتوازي مع التدريس مهمة الإرشاد البيداغوجي، إلى أن دعيت سنة 1964 إلى الالتحاق بكلية الآداب مساعدا فأستاذا مساعدا، حتى كنت من أوائل الذين ناقشوا دكتورا الدولة في جامعة باريس سنة 1970 بأطروحة رئيسية عن "نظريات ابن جني النحوية" وأطروحة تكميلية تمثلت في تحقيق كتاب النمر والثعلب لسهل ابن هارون، فارتقيت عن جدارة إلى رتبة أستاذ محاضر فإلى رتبة أستاذ التعليم العالي.
الله اكبر الله اكبر الله اكبر
أيها الفقيد العزيز
لن أوفيك حقك في هذا التأبين وأنت الرجل المتعدد المواهب، الذي تقلد سامي المناصب دون أن يسعى إليها، فلم يغره بهرجها بل تحملها بروح المسؤولية العالية، وإن جلبت له بعض الضغائن ممن لا يؤمنون مثله بالقيم والمبادئ النبيلة.
لن أوفيك حقك ونحن نودعك الوداع الأخير لأنك الرجل الذي ترك بصماته في عقول ونفوس الأجيال المتتالية من التلامذة الذين تعلموا النحو والصرف في الكتب التي شاركت مشاركة فعالة في تأليفها، ومن الطلبة الذين تابعوا دروسك بشغف في مادة اشتهرت بجفافها، ومن قراء كتبك المرجعية وفصولك العديدة في حوليات الجامعة التونسية التي كنت من مؤسسيها والغيورين على مستوى ما ينشر فيها، وفي غير الحوليات من الكتب والمجلات باللغتين العربية والفرنسية.
لن أوفيك حقك في هذا الوداع وانت الرجل الطيب العشرة المتواضع تواضع العلماء، الذي احتفظ إلى النهاية بالروح الكشفية وبحب الاطلاع، يشهد على ذلك، من بين ما يشهد، سلوكك وأنت تشارك في الملتقيات والرحلات التي تنظمها ودادية قدماء دار المعلمين العليا ولا تغيب عنها إلا لأسباب قاهرة.
لن أوفيك حقك وأنت المدعو إلى الجامعات الشرقية والغربية تلقي الدروس وتحاضر وتناقش الأطروحات، أنت صاحب الآيادي البيضاء على لغة الضاد حين عربت صحبة تلميذك وزميلك وصديقك حمادي صمود المرجعين الأساسيين: "المعجم الموسوعي الجديد في علوم اللغة"، و"معجم تحليل الخطاب"، أنت المتحصل على أرفع الاوسمة والجوائز الوطنية والأجنبية، أنت الذي أهدى له زملاؤه وأصدقاؤه وتلاميذه عديد الكتب والفصول اعترافا بفضله.
سي عبد القادر
إننا إذ نودعك بحسرة الاوفياء ولوعة المصابين نعزي في فقدانك أرملتك الكريمة وبناتك الفضليات اللاتي ربيتهن فأحسنت التربية حتى ارتقين إلى أعلى الدرجات، ونعزي في فقدانك أخويك وأصهارك وكل عائلتك وأصدقائك وزملائك وتلامذتك، وكامل الأسرة التربوية والجامعية والأكاديمية.
تغمدك الله برحمته الواسعة
إنا لله وإنا اليه راجعون
- اكتب تعليق
- تعليق