محمّد حسين فنطر: مــن قضـايـا اللغة فـي تــونس
تحتاج الثقافة في تونس ومنها قضايا اللغات والتراث الى عناية متميّزة. فالاهتمام بها أكيد متأكّد، مع ضرورة التركيز على قيمة اللغات في بلد يرنو الى الصعود والانعتاق يخلخل العقبات الظاهرة والخفيّة المفروضة عليه من الداخل والخارج، دون نسيان الأصفاد التي بها يغلّون يديه ورجليه لتعطيله عن العمل والتقدّم، فللغة دور خطير في بناء الفكر والهوّية.
إن مســــألة اللغـــات تمسّ كامــل البلاد العربّيــة غير أنّ الدكتاتوريات والجمهوريات المزيّفــة تـــُؤثر سيــاسة النعامة والتمويه. فخوفا من كّل فكـــر مجدّد، تراها تعمل على إقامـــة أعظــم العوائق في وجه كلّ ثورة ثقافية لغوية مع التنويه بموروث تدّعي الانتماء إليه دون معرفته. فالعديد من المدافعين عن كنوز العروبة يختزلون معرفتهم لها في أسماء وعناوين كتب لا تثير فضولهم ولم تمسّها أيديهم، بل قد يزكّون عطايا الاستشراق أحيانا ولا يتحرّجون من شجبها عند الاقتضاء. ففي هذا الميدان وغيره، مواقف العرب تجاه الاستشراق لا تخلو من اللبس فقد يستفيدون من أعمال المستشرقين ولا يتحاشون قذفهم بشتّى الشتائم؛ فمتى يتوخّون سلوكا أكثر موضوعية ونزاهة؟
ولمّا تنفس صبح الديمقراطيات وانبثق الأمل كنبتة تحمل زهرة حُبلى بالوعود لابدّ من التصدّي لأسباب الإجهاض المدبّرة في الداخل والخارج و لا بدّ من مشروع ثقافيّ ثوريّ مثير. على أنّ مثل هذه المشاريع الثقافيّة الكبرى لا تحملها ولا تفوز بها الاّ ديمقراطيات حقيقيّة تنظّم حوارا حوله على أساس العقل والايمان واحترام الآخر مع فتح باب الاسهام للجميع بعيدا عن الغرور والتشنج وعن مختلف أشكال الإقصاء والمحرّمات. ثمّ إنّ الملونة اللغويّة في تونس كانت ومازالت متعدّدة الأطياف، فلقد تفتّح أسلافنا على جميع لغات أيّامهم فتخاطبوا باللغة اللوبيّة التي خلّفت في ربوع المغرب الكبير ما ينيف عن مائة لسان ولهجة أمازيغيّة. ولمّا أقبل الفينيقيون وتأسّست قرطاج في نهاية القرن التاسع قبل ميلاد المسيح، انتشرت لغة جديدة وأينعت لأنّها تضمن أسباب الخصوبة والنجاعة. إنّها لغة قرطاج المجيدة التي ورّثت ربوع المغرب الكبير وأقطارا أوروبية في المتوسّط نصوصا ثريّة تعدّ بالآلاف وقد حاول بعضهم تقزيم عطائها لصالح نظريات لا تخلو من خبث وسوء نية، مع العلم أنهاّ لغة سقت أرضنا بمياه الشعوب السّاميّة وادّمتها بطمي حضارة الشرق الخصيب.
ولمّا دبّرت روما اغتيال قرطاج وأجهزت عليها في منتصف القرن الثاني قبل ميلاد المسيح، انتشرت اللغة اللاّتينيّة في أفريقة وتقلص باع اللغة البونيّة لأسباب شتّى يطول شرحها. فعلى غرار شعوب الامبراطوريّة الرومانيّة جميعها، أقبل أسلافنا على لغة الشاعر الروماني ورجليوس Virgileوهو من كبار الشعراء الذين كان لهم حضور في أفريقة حتّى أنّ صورته رسمت على لوحة من الفسيفساء رائعة، كشف الغطاء عنها في مدينة سوسة الرومانية وأخذوها الى متحف باردو حيث يأتيها الناس ملايين من مختلف بلدان العالم ليتمتّعوا برؤيتها ويتغذّوا، فتراهم جماعات وفرادى شاخصين خاشعين بين يدي شاعر تغنّى بملحمة حبّ خيالي جمع بين الأميرة عليسه، مؤسّسة قرطاج، والأمير الطروادي أنيوس، مؤسّس روما، فجاءت الملحمة نشيد حبّ ووئام وسلم ترتّله شعوب شمال المتوسّط وجنوبه ترتيلا.
ولمّا فتح العرب افريقيّة في نهاية القرن السابع بعد الميلاد، نشروا فيها لغة القرآن وشعر المعلّقات، فتمكّنت من غزو محيطها الجديد مستفيدة من علاقتها بالدين ومن علاقتها بالدولة ومن قدرتها على توفير ظروف الابداع. ولئن ثقلت موازينها في افريقيّة، فذلك لأنّها وجدت فيها تربة أخصبتها لغة قرطاج المجيدة وهي احدى أخوات لغة العرب ذات أصول ساميّة حتّى أنّهما لغتان تنتميان إلى أسرة واحدة وتنهلان من رصيد ثقافيّ حضاريّ موحّد تجده في كتابات تعود إلى الألف الثالث قبل ميلاد المسيح.
ومع ذلك فلكلتيهما خصوصيات نحويّة وصرفيّة تفصل الواحدة عن الأخرى.
وأيّا كان الأمر، فلا أحد يستطيع اليوم التشكيك في صدارة اللغة العربيّة في تونس ولا في كونها عنصرا فاعلا يساهم في بناء الهويّة الوطنيّة، فلا بدّ من العناية بها واثرائها بالنهل من حياض ارثنا المغاربيّ وتثمير اللغات الساميّة الأخرى التي أنجبتها أرض العروبة الممتدّة من دجلة والفرات الى الجزيرة وبلدان الخليج ومنها الى المحيط عبر المتوسّط. هذا، والشعوب العربيّة لمّا تستفد بعد من هذه الكنوز اللغوية، بل آفة الجهل والنسيان جعلتها لا تدرك قيمتها فتركتها للآخر يبتزّها ويستأثر بها ومنها يستفيد.
فلا يجدر بتونس ان تبقى عديمة الاكتراث بلغة اللوبيين وغيرها من اللغات التي تبنّاها أسلافنا عبر العصور واستخدموها وأثروها ومن أسلافنا ماجونMagon وحنّون و تيرنسيوسTérence وأبوليّوس Apulée وترتوليانوسTertullien وغيرهم كثيرون معروفون في دنيا الآخرين الّذين يحقّقون مصنّفاتهم ويعرّفون بها، فترتوليانوس مثلا هو صاحب أوّل رسالة مفتوحة تناولت حرّية الضمير والمعتقد وقد جاء فيها ما يلي:
«إنه حقّ إنساني وحقّ طبيعي أن يعبد كل امرئ من يشاء فدين شخص لا يضير غيره ولا يفيده وليس لدين أن يسيطر على دين».
فكيف لا نفتخــر بأرض غذّت من سبق ذكرهم ومن تفيّؤوا في فيء العروبة والاسلام؟ فلن نكون نحن ما لم نتعرّف عليهم جميعا ونكسب لغاتهم. فهــل يليق بنــا التخلّي عن كنــوز علميــة وأدبيّــة ورثنـاها عن هؤلاء الذين أبدعوا وكانوا من أجلّ بناة الثقافة المتوسّطيّة؟ وهل نرضى أن يتولّاها الآخر بالعناية والاستغلال معتّما هويّة أصحابها؟ فواجبنا تجاه كياننا يفرض علينا تكوين نخب قادرة على القيام بمستحقّات موروثنا اللغويّ وهو أسّ الثقافة والهويّة. فهذه مهمّة خطيرة توكل الى الجامعات والمعاهد ومراكز البحث وبيت الحكمة التي مازالت دون ما أسّست من أجله ولن يتحقّق المشروع الاّ بمعرفة لغاتنا القديمة والمسك بناصية اللغات الحديثة، فهذه وتلك مادّة وأدوات عمل لا غنى عنها.
فلا غرو إذن أن تكون اللغة العربيّة شاغلنا الشاغل فهي حاضرنا وهي مستقبلنا. فكيف لا نعتزّ بلغة أصولها ومفرداتها في نصوص مسماريّة يتجاوز تاريخها خمسة آلاف سنة؟ فإذا مررت اليوم بشارع الحبيب بورقيبة في تونس العاصمة تبيّن لك أنّ في لسان المارّة كلمات وأجراس توجد في شريعة حمّورابي التي سطرت في بابل بالحرف المسماري على نصب يتباهى به متحف اللوفر بباريس والعرب عنه وعن تراثهم ساهون. فمتى تنهض المجامع العربيّة من سباتها حتّى تستعيد إرثها اللغويّ القديم وتستفيد منه لإنجاز معجم تاريخيّ تأثيلي للسان العرب؟ فهذا عمل يستوجب الإرادة السياسية والإيمان وجهدا جبّارا لكسب اللغات التي أنجبتها أرض العروبة وتلك التي تأثّرت بها دون إقصاء اللهجات الشعبيّة، فإرثنا في هذا الحقل لا مثيل له في المعمورة كمّا وكيفا وتاريخا. فهي لغات ساميّة عديدة مجيدة ومنها الأكّاديّة والبالية والحميرية السبئية والآرامية والكنعانيّة والعبرية إلى جانب لغات حاميّة كالمصرية القديمة واللوبيّة بفروعها الأمازيغيّة.
فعلى الرغم من الرياح العاتية والأمواج العارمة، تمكّنت تونس من تحقيق مكاسب في عديد الميادين ولاسيما في التربيّة والثقافة والتراث. فمــا أن تنفّــس فجر الاستقلال حتّى أحدث المعهد القومي للآثار والفنون وهو من ثمار الاستقلال الأولى وقد كان رئيسه المؤسّس العلاّمة حسن حسني عبد الوهّاب. فبذلك عبّرت تونس المستقلّة عن إرادتها لاسترداد تراثها كاملا مهما كانت ملابساته الزمنيّة واللغويّة والدينيّة والسياسيّة ومهما كانت التقاليد وطرق العيش والكسب. وأيّا كان الأمر وبالرغم من بعض الانحرافات ومظاهر التراجع ومع اعتبار الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة والامكانات المسخّرة، يحقّ لتونس أن تفخر بمنجزاتها في مختلف ميادين التربيّة والبحث العلمي و معرفة التراث والمحافظة عليه والتعريف به وإحيــــاء المواقع والمعالم وتسليط الأضواء على الكنوز المتحفيّة وفكّ أقفال النقائش القديمة من لوبية وبونية ولاتينية، ومن الغريب أنك مازلت ترى من يشير الى تراثنا القديم بالاستناد إلى مراجع أجنبيّة أيّا كانت لغتها وأيّا كان دينها، جاهلا أو متجاهلا مكاسبنا الوطنيّة ومرجعياتنا في هذا الميدان. فمن رصيد تونس أطر جديرة بالتنويه والتشجيع. فهي قادرة على التعريف بالذين كانــــوا يتخاطبــــون بلغة عصرهــــم فلا بـــدّ مـــن مســـاعــــدتهم والإحاطة بهم حتّى تنمو الخبرة لديهم وتزكو مهاراتهم، فالشرّ كلّ الشرّ في غمط ما حقّقته بلادنا. وعلى خبرائنا أن يجتهدوا ويكونوا توّاقين إلى الأفضل وألا يتردّدوا في تقديم أعمالهم والخـــروج بها مــن برج الاختصاص الى الجمهــــور العـــريض لتســاهم في حماية المكاسب ومواصلة بناء حداثة تضمن الرخاء وكرامة الانسان.
محمّد حسين فنطر
- اكتب تعليق
- تعليق