"بنڤــــردان" وأسوار تـــونـــس العـــالـــيــة
هي أيام شامخة تلك التي عشناها في تونس بتوتّر عال وحمية نابضة مع أهالينا في بنڤردان المتصدية لعناصر الغدر والهمجية. لقد وقفت قواتنا المسلحة العسكرية والأمنية والاستخباراتية في جاهزية لتفشل خطة الاستيلاء على المدينة الصامدة. في هذه الوقفة تلاحمت القوات المسلحة الوطنية مع الشعب الأبيّ مكونين سدّا منيعا يثلج الصدور ويدحر العدى.
لقد أثبتت معركة بنڤردان العصيّة أن أسوار تونس عالية خلافا لما توهّم الأعداء المتربصون والمتميزون غيظا من نموذج تونس الواعد رغم مصاعب الانتقال وتحديات الزمن السياسي والحضاري الجديد.
بذلك وخلافا لما كان يتوقعه الإرهابيون، انهارت خطة التمدد في الجنوب التونسي لإنشاء جسم عدواني في الإقليم المغاربي - الإفريقي لتحقيق أكثر من هدف. لقد كانت هناك، من جهة، مهمة الإجهاز على الوضع الليبي الذي كان سيجد نفسه إضافة إلى انعدام حكومة موحدة بين فكّي كماشة تُطبق عليه من الجهة الشرقية المحاذية لمصر ومن الجهة الغربية المتاخمة لتونس. مؤدى ذلك فرض واقع سياسي وعسكري جديد لا يمكن أن يحسمه التدخل العسكري الدولي مهما كانت أهميته. من جهة ثانية، فإن خطة التمدد في المجال التونسي كانت تراهن على هشاشة الداخل السياسي والاجتماعي، من ناحية، وعلى توفر عدد هام من العناصر المقاتلة المتربصة داخل البلاد، فضلا عما يوجد خارجها في سورية والعراق وليبيا واليمن ومالي، كما أعلن عن ذلك مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
من هذه الناحية، تصبح بنڤردان، لو نجح الاستيلاء عليها، إعلانا عن انطفاء شعلة الرمز التونسي الذي فتح طريق الحرية والأمل للعالم العربي بأكمله سنة 2011، وهو ما مثّل للقوى المناهضة للتحرر في العالم تحديا كان عليها كسر شوكته.
السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف ينبغي أن نفهم هذه المعركة ومن أي زاوية يقع تشخيص أحداثها وأي تمشٍ نحتاجه لتقييم آثارها وتحديد مستلزماتها؟
لا مفر،في البدء، من القول إن معركة بنڤردان هي إيذان بحرب معلنة ولكنها مختلفة عما عاشته تونس من حروب وانتفاضات مسلحة سابقة في الفترة المعاصرة. لا صلة لهذه المعركة بمعارك نهاية الحرب العالمية الثانية التي دارت في تونس ولا معارك حرب التحرير الوطني ولا معركة بنزرت ولا ما عاشته قفصة في ثمانينات القرن الماضي.
نحن نواجه حالة حرب استباقية تُنقَل فيها المعاركُ إلى أرض الطرف الآخر، المعتبر عدوًّا،لإرباكه وإفساد خططه المحتملة والتصدي لما يُتوقع منه من تهديدات فعلية أومفترضة. ما تختص به الحرب الاستباقية أنها لا تعتمد العمليات العسكرية فحسب، بل هي تصدر عن فكر محافظ انطلق في المراحل المبكرة لما بعد مرحلة الحرب الباردة. تحقق ذلك عبر عدد من المُنظّرين من أمثال «صامويل هنتنجتون» ومقولته عن صراع الثقافات وأن الإسلام عدو حضاري للغرب، و«ناتان شارنسكي» مؤلف «قضية الديمقراطية» والمعتبر أن الإسلام حركة إرهابية لا تهدد إسرائيل فقط وإنما العالم الغربي بأكمله،و«ريتشارد هاس» السياسي الأمريكي المؤسس لطبيعة العصر الجديد القادم الذي سيتحوّل فيه نفوذ الولايات المتحدة إلى سيطرة نسبية بما يتطلب ظهور قوى داخلية في المنطقة العربية ينبغي التمكّن من الإسهام في تشكيل ملامحها الجديدة.
ما يعنينا من هذا العرض أننا أمام حرب معقدة ومركَّبة ومدمرة ومفروضة، وأنها يمكن أن تتخذ أشكالا مختلفة ومن أماكن متعددة وغير متوقعة كما يمكن أن تؤدي إلى تطاحن أهلي وصراعات طائفية أو إيديولوجية. هي حرب قد تفاجئ بمعارك خاطفة كما أنها تكون مستعملة للقتال بالوكالة وبزارعة للـ«فوضى الخلاقة» أداةً للردع ومواجهةًلأسوإ التهديدات المحتملة. هي بذلك أشبه بالجبل الجليدي:ما يظهر منه طافيا على سطح البحر ليس سوى جزء ضئيل جدا مقارنة بالقسم الغائص تحت الماء من كتل ثلجية وصخرية ضخمة ما يجعله قوة مدمرة في صمت ودون هوادة.
ما يفضي إليه هذا التشخيص الأولي لدلالة معركة بنڤردان يدفع إلى تناول الزاوية التي نحتاجها في تشخيص أحداثها. في هذا المستوى لا جدوى من طرح الأسئلة المنطلقة من داخلنا المحلي أو العربي ومشاغله ابتداءً. لفهم ما ينبغي أن يكون في الداخل اعتمادُ العكس هو الأصوب. ذلك أنه لو ابتدأنا في فهم ما حدث عندنا في بنڤردان أو الشعانبي أو باردو أو سوسة أو ما يحدث في جوارنا القريب وفضائنا العربي، فإننا لن نصل إلى شبكة القراءة التركيبية الشاملة والمسدَّدة. في هذه الحالة لن نصل إلا إلى أجزاء متشظية من حقيقة الواقع ومداه أي إلى أننا نعيش صراعات دامية في أفق قاتم وهاوية لا قرار لها.
أما إن كان الشروع في تحديد الوضع الخاص انطلاقا من الأفق الدولي العام وما يعتمل فيه من حراك وتطور، فسنكون أقرب إلى الفهم الأدق لمجريات الأحداث وإلى مآلات الصراع عندنا وفي عموم البلاد العربية. لذلك فعلينا أن نسأل عما يحصل في المستوى الدولي وإلى أين تتجه العلاقات الدولية في خصوص الوضع العربي المتصارع عليه؟
لعل أفضل من يصور خصائص الوضع الدولي الحالي هو «هنري كيسنجر» وزير خارجية الولايات المتحدة ومستشار الأمن القومي الأسبق. ففي كتابه الجديد، «النظام العالمي»، الصادر سنة 2014، تبرز محددات دالّة لفهم خصوصية الوضع الدولي الذي عرف منذ فجر القرن الحادي والعشرين تداخلا للعلاقات الدولية في ظل تنامي الفوضى وانعدام الاستقرار. لفهم وجهة «النظام العالمي» تبرز المعطيات التالية:
- نحن نعيش عصر» تويتر« الذي تُعلي فيه وسائلُ الاتصال الاجتماعي اللحظي والشفافية المتزايدة من شأن الوقائع والمعلومات، لا التصورات ولا المعرفة والحكمة.
- هو عصر يوفر آلياتغير مسبوقة لحفظ المعلومات وإمكان تداولها دون أن يساعد على إدراك دلالتها ضمن قراءة للتاريخ وتمثُّلٍ للواقع ومنطقه وصيرورته.
- أخطرما في هذا الوضع الجديد تقلُّصُ قدرة الساسة وصانعي القرار في اتخاذ السياسات المتحدية للإجماع المتشكّل لحظيا على المجال الافتراضي الإلكتروني، مؤدى هذه المعطيات المميزة للعصر الحالي التي ينتهي إليها «هنري كيسنجر» أن هناك ضرورة موضوعية لـ«هندسة نظام عالمي آخر»: سيظهر نتيجة انهيار بعض الدول التي لم تعد قادرة على فرض هيبتها على أراضيها وظهور قوى جديدة في مكان سلطتها ومناطق سيادتها.
عند تمثل هذا التشخيص والعود منه إلى ما نعيشه عربيا وتونسيا نخلُص إلى أن التطورات الدولية والإقليمية تؤشّر إلى تسويات ضرورية سيكون أثرها حاسما على المناطق المتصارع فيها وعليها.
نهاية سنة 2015 تؤكد هذا المنحى خاصة بعد صدور قرار مجلس الأمن 2254، ثمّ بيانات فييّنا وميونيخ المتعلقة بالمعضلة السورية وضرورة الوصول إلى تفاهم على العمل المشترك لحلّها. يعضد هذا التوجه اتفاق الدول الكبرى في خصوص الملف النووي الإيراني ورفع العقوبات المفروضة على طهران رغم معاندة حكومة نتنياهو للخيار الرسمي للولايات المتحدة في رفض ضرب إيران وحلفائها في المنطقة.
في ظل خيار التسويات الذي أصبح مطلوبا، يتأكد في خصوص القضية الفلسطينية أن المصالح الأميركية تغدو المعيار لصنع القرار الأميركي وليس نتيجة حجم التأثير الصهيوني، دون أن يعني ذلك تغييرا في حجم الدعم المالي والعسكري الأميركي لدولة الكيان الصهيوني.
السؤال الأخير الناجم عن هذا التوصيف يتصل بما ينبغي لتونس تحقيقه بعد معركة بنڤردان؟
تتمحض الوجهة في ضرورة الرهان على «تحصين الأسوار» الداخلية بدل الرهان على «الخارج» الذي لن يلتفت إلا لمن عمل على ترسيخ جبهته الداخلية أمنيا وحقوقيا ومعرفيا وتنمويا وقيميا. ما يحول بيننا وبين مهاوي التشرذم الذي عرفه لبنان سبعينات القرن الماضي هو إسهام ٌ في تركيز هذا المشروع الوطني الجامع لإرادة المجتمع وقواه الصاعدةومستلزمات دولة القانون ومؤسساتها . ذلك هو طوق النجاة وتلك هي الأسوار العالية التي لا تُطاول؛ وهي الإشارة الرمزية التي تنضح بها بنڤردان (كردان)من معناها الأمزيغي:المخزن الذي تحصّن فيه القبائل قديماً غذاءها وممتلكانها الثمينة.
احمــيدة الـنـيـفــر
- اكتب تعليق
- تعليق