الاستقـــلال وديعــة للأجــيــال
الذكرى الستون للاستقلال هي من الذكريات الوطنيّة التي تدعو التونسيين إلى النظر بعين ناقدة متبصّرة في سجلّ حقبة زمنيّة فاصلة بين يوم شهد تتويج كفاح خاضه شعب من أجل الحريّة والانعتاق، بقيادة نخبة نيّرة من الزعماء، وحاضر زاخر بالصعاب والتحديات، في سياق مسار ثوري لم يكتمل بعد وطموحات جامحة لم تتجسّم.
وغنيّ عن البيان أنّ المسيرة الوطنيّة، منذ ذلك اليوم وإلى الآن، تخلّلتها نجاحات وإخفاقات، وطبعتها انتصارات وانكسارات. ولعلّ من بين مكاسب الاستقلال بناء دولة صاغها الحبيب بورقيبة بجيشها وإدارتها ومؤسساتها وبدستور وضع أسس النظام الجمهوري وإصدار مجلّة قانونيّة رائدة حرّرت المرأة وتحقيق جلاء عن آخر معاقل الاستعمار في بنزرت، سرعان ما عقبه جلاء زراعي، فضلا عن نشر التعليم والخدمات الصحيّة على أوسع نطاق وبناء ركائز الاقتصاد من صناعة وسياحة وفلاحة وخدمات...
ومن تلك المكاسب تشكّلت الأرضية التي انبنت عليها سياسات الدولة في العقود اللاحقة، ممّا مكّن من بلوغ نسب نموّ محترمة وتحسين نوعيّة الحياة وإقامة بنية تحتيّة عصريّة.
غير أنّ عهدي بورقيبة وبن علي اقترنا بفشل في بناء الديمقراطية وضمان الحريات العامة وإقرار تنمية متوازنة بين الجهات وتوفير مواطن الشغل لأعداد متزايدة من الشباب.
وعندما دكّ زلزال 14 جانفي 2011 أركان النظام السابق، استطاعت الدولة أن تصمد أمام رياح الفوضى والانفلات الأمني وأن تضمن استمرارية المرافق العامّة، بفضل ما راكمه أعوانها وإطاراتها، على مرّ السنين، من رصيد وتجارب في تصريف الشأن العام ومواجهة الظروف الاستثنائية، مثبتين أنّ تونس لم تكن «خرابا منذ الاستقلال»، خلافا لما كان يدّعيه البعض.
والدولة، على الرغم ممّا أصابها من وهن إثر ذلك الزلزال، هي التي تقاسمت مع مجتمع مدني ناهض وأحزاب سياسيّة فاعلة الدور في نحت معالم تونس الجديدة، فكان أن تكرّست حريّة التعبير وسُنّ دستور ما بعد الثورة ونُظّمت انتخابات حرّة وشفافة في مناسبتين، ممّا جعل من التجربة التونسيّة في مجال الانتقال الديمقراطي استثناء في محيط إقليمي لا يخلو من الهزّات والتقلّبات.
غير أنّ هذه المكاسب، على أهميّتها، لا تحجب عن الأنظار ما تعيشه تونس اليوم من أوضاع اقتصاديّة وماليّة واجتماعيّة متأزّمة عجزت الحكومات المتعاقبة في السنوات الخمس الأخيرة عن مواجهتها، مع تصاعد موجات الاحتجاجات الشعبية، نتيجة البطء في معالجة معضلتي التنمية والبطالة، وتنامي الشعور بالإحباط لدى جموع التونسيين الذين أصبحوا يتوجّسون خيفة من المستقبل المجهول.
أخــطار جــمّة تحــدق بتونس، ستّين سنة بعد نيل استقلالها الذي سقط في سبيله شهداء أبرار وتاقت إليه أجيال متعاقبة من التونسيين، منهم من سعد بإدراكه ومنهم من قضى نحبه مكمودا ولم يشهده. فالإرهاب نزل من الجبال إلى المدن وضرب في مواقع عديدة وآخرها بنڤردان، وأضحت الدولة مهدّدة في كيانها، جراء التردّد في فرض سلطان القانون، أمام حالات الفوضى والتسيّب والإضرار بمصالح المجموعة وارتفاع سقف المطلبية دون اعتبار لإمكانيات البلاد وتراجع الحسّ الوطني وبروز النعرات الجهويّة والقبليّة، وقلّة الاعتماد على الذات، وضمور قيمة العمل، فضلا عن طغيان منطق الصراع والتناحر بدل منطق التسوية والوفاق إلى غير ذلك من المظاهر.
ولأنّ الشعوب العظيمة وحدها هي التي تقف أمام أحداث تاريخها موقف العظة والاعتبار لتستلهم منها سبل المستقبل بثقة واقتدار، فإنّ على التونسيين، مهما اختلفت مواقعهم ومشاربهم، أن يدركوا مدى أهميّة الثمن الذي يجب أن يدفعه كلّ فرد منهم لصون الاستقلال وسدّ المنافذ أمام كلّ من يحاول المسّ من مقوّمات سيادتهم واستهداف مناعة ترابهم وضرب استقلاليّة قرارهم.
الاستقلال أمانة مقدّسة ووديعة يتداولها التونسيون جيلا بعد جيل. إنّه جهاد لا ينتهي وبناء يومي لا يتوقف ودعوة مستمرّة إلى مساءلة النفس عمّا قُدّم للوطن. وللرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي قولة مأثورة في هذا المعنى:
«لا تسألوا عمّا يمكن أن تقدّٰمه لكم بلادكم، بل اسألوا عمّا يمكن أن تفعلوه من أجلها».
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق