أخبار - 2016.03.13

لطيفة لخضر: لنَقِي ديمقراطيتنا شرَّ الإرهاب وشر أنفسنا

لطيفة لخضر: لنَقِي ديمقراطيتنا شرَّ الإرهاب وشر أنفسنا

لم تنفك داعش منذ وقت غير قصير ترنو إلى اليوم الذي ستداهم فيه مدينة  بنقردان لاحتلالها ولإقامة إمارة فيها. وقامت فعلا بالمحاولة واضعة تهديداتها موضع التنفيذ. ومِنِيَتْ داعش في كل ذلك بفشل ذريع، وسيكون الفشل نصيبها كلما أعادت الكَرّة وجدَّدت محاولاتها السخيفة . فالدولة التونسية تبقى في كل الأحوال قاعدة البلد الصلبة رغم كل المحاولات الرامية إلى هزِّ استقرارها واختراقها وزعزعتها وانحلالها. الدولة التونسية ستظل دوْمًا تلك الدولة البورقيبية قوية البنيان، الدولة التي أقيمت على أساس حداثي عصري ثابت، الدولة التي تستمد من تاريخها الوطني كل أسباب العنفوان والمناعة.

لا حاجة لنا لكثير من التبيان والتفسير لإدراك هذه الأمور جميعا. هي قناعة جماعية يحس بها كل تونسي وكل تونسية ويشعر بها في أعماقه ويدركها عن سجية وفطرة. قالت خولة الطالبة، بكلية الآداب بمنوبة، في كل هذا وبكل بداهة وفي هَبَّةٍ وطنية تلقائية،  كلاما مدوِّيا توجَّهت به إلى العالم بأسره : الدولة العصرية، الوطن الواحد الأحد، الراية الوطنية، كل هذا جميعا هو أعز ما نُجِلُّ وما يحرَّم النيل منه على الإطلاق وما ينغرس في أعمق أعماقنا كأقدس ما نُقَدِّس، وما يشگِّل جوهر شخصيتنا وكياننا جميعا. أما ما هو غير هذا- ونعني به هذا الدِّين والتغطِّي به، واستعماله كوقُود هـُويَّة شُعبوية من طرف حركات سياسية لا يتورع بعضها في الركون إلى نوع من التّطَرُّف الإجرامي الذي يؤدي إلى القتل- فسيتبخر لا محالة، وشيئا فشيئا ستذروه الرياح، بحيث يعقبه إسلام سمْحٌ رحيم بالعباد، إسلام مسالم، كله نقاء وصفاوة، في تناغم مع قوانين التقدم، تماما كالإسلام الذي رفعت رايته دولة الاستقلال الوطنية  وتشبث به آباؤنا وأجدادنا على مَرِّ الحقب، قبل أن تطلع علينا تلك الظاهرة "الإخوانية" التي أضفى مُجَرَّدُ ظهورها في سياق تاريخي معلوم، نوعا من الشرعية على الإسلام  السياسي بشتى تعبيراته ومن ضمنها هذا التيار الداعشي الخطير الذي يِلَوِّح بنذر الحرب والدمار. 

يبدو أن كل مكونات النسيج السياسي والجمعياتي والنقابي تدرك تماما الحاجة الماسة إلى بناء جبهة مشتركة أو قل إلى حزام أمْنٍ سياسي درءا للأخطار الإرهابية التي تحدق بوطننا وبديمقراطيتنا الناشئة. ولكي نكون واقعيين  وبصرف النظر عن البيانات والبلاغات والخطب، ينبغي أن نتساءل : ماذا يعني بالضبط أن ينصرف سعينا في المقام الأول إلى صَوْنِ الوطن من بعض الأخطار التي تتهدده كأن يُمْنَى منحاه الديمقراطي بالفشل، وأن تتعرض الدولة إلى التفكك، وهو ما يَدخُلُ في مشاريع أعدائنا في الداخل وفي الخارج وفي حساباتهم، وهل أعددنا العدة لذلك؟ 

هذه الأولوية تقتضي منا في نظري أن ندرك تماما - في ضوء كل ما حصل ويحصل - أنه في ظل سياق الانتقال الديمقراطي الهش بطبعه، تدعو الحاجة إلى تبني موقف على قدر كبير من الحساسية السياسية، في كنف التضامن فيما بيننا جميعا، وتجنب كل اندفاع غير محسوب العواقب، فليس بوسع أية قوة أو منظمة أو مؤسسة أن تزعم بأنها تمتلك وحدها مفاتيح وضع معقَّد في مثل وضعنا، وَضْع مرتجّ وآخذ في التشكُّل من جديد في نفس الآن، وضع غير مرتَّبٍ لكنه في حال من إعادة التنظيم،  وضع يختفي فيه الأفق الثوري مرة ويبرز للعيان مرّة أخرى، وضع يطفح بالأمل حينا وتتخلله الشكوك حينا آخر ... وضع قاس مُبْهَم تمزقه النزاعات ويبعث على قلق عميق، وضع يلُفُّهُ منطق جيوسياسي غربي لا يبعث على الاطمئنان، وضع غارق في حسابات "تكتيكية" تمليها المصالح الاقتصادية إلى حد بعيد، وضع أبعد ما يكون عن الأساسيات الحداثية والكونية التي بنى هذا الغرب عليها مجده  التاريخي. 

هذا السياق يقتضي من الجميع التحلي باليقظة السياسية الكاملة، ويتطلب منا كذلك وبوجه أخص أن نقطع تماما مع موقف الريبة والتشكيك حيال كل جهد تبذله السلطة التنفيذية ومؤسسات الدولة... ومن بين الأمثلة الأكثر كاريكاتورية وغرابة لذلك ما جاء على لسان أحد النواب في رحاب مجلس نواب الشعب في نفس اليوم الذي جدت فيه أحداث بنقردان حينما تحدث عن " تقصير" مزعوم من مؤسستنا العسكرية والحال أن قواتنا المسلحة كانت بصدد إنجاز ملحمة وطنية حقيقية. فلا بد إذن من القطع مع هذه الثقافة السياسية التي أكل عليها الدهر وشرب، والتي ورثناها من عهود الاستبداد، دأبها أن تضرب مصداقية الدولة ومصداقية أجهزتها المختلفة، دونما تقيد بقواعد الديمقراطية، وان تحُدَّ من حرية التعبير التي دفعنا من أجلها ثمنا غاليا فتنزل بها إلى مستوى الانتقاد الصبياني والمزايدات غير المسؤولة والمواقف السياسية السلبية في المطلق، فلا سبيل لها غير سبيل الطعن والاحتجاج والمطلبية المتحيزة  والمغالاة في القول والتعجل "الثوري" الزائف.. وكل هذا لا يساعد بطبيعة الحال لا على إنارة السبيل ولا على انتهاج منهج بعينه ولا على رسم أفق للبلد يمكن أن يُعْتَدَّ  به. 

الأولوية التي نحن بصددها تعني بالنسبة إلى المعارضة الديمقراطية أن تبادر إلى تجديد معايير التحليل والتقدير وتحيينها إثراءا للديمقراطية باعتبارها أحد المكاسب المهمة على صعيد الحقوق السياسية والمواطنية وتقاسم المسؤوليات وواجبا لا بد أن يؤدَّى على مستوى العمل والاقتراح والبناء المتضامن... أما أن نبحث هكذا وبشكل تعسفي أحيانا عن توجيه الانتقاد لمجرد الانتقاد بدافع الهوس بالفوز بمواقع النفوذ في إطار التداول على الحكم - وهو أمر مشروع - فذلك ما قد يفضي إلى تفشي حال من الإحباط واليأس وما يُوَلِّدُ شعورا بخيبة الأمل بين عموم الناس ربما يحملهم على النأي بالنفس عن العمل السياسي  والتخلي عن الخيار الديمقراطي، وقد يلقي كلُّ ذلك بظلاله على مستقبلنا الديمقراطي، شأنه في ذلك شأن المناورات التي يقوم بها الإرهابيون.

على هذاالكيان الجامع الذي يحسب أنه في مرتبة تجعله في غير خشية من أن يُدان ومن أن يُراقَب، ونعني به أعضاء مجلس نوّاب الشعب، عليه أن يبادر إلى التخلص من صورة النائب المنفلت تماما، والذي ليس له ما يواجه به الجهاز التنفيذي غير كلام متوتر، مجاوِزٍ للحد، متأهِّب دوما للانتقام، ذي طبع عدائي، من سماته الغالبة أنه مشحون بنوع من السلطوية المقيتة التي تُذَكِّر بما كان سائدا في القرون الخوالي والتي تنزل على من يحس أنه يمتلك ذرة من نفوذ نزول العلة المزمنة، فيمضي عن غير وعي في الغالب في تغذية نزعات برلمانية شعبوية مناهضة داخل المجلس وفي التشكيك في بعض المفاهيم ذات الصِّلة بالإرادة العامة، وهو ما لا يساعد على استكمال البناء الديمقراطي، وما من شأنه أن يذكي جذوة بعض النعرات الاستبدادية .

صحيح أن الديمقراطية التي نحن بصدد بنائها تشكو من هَنَّة كبرى في علاقة بتحالف حكومي برز للوجود كنتاج لعلاقات بين بعض القوى السياسية ولأمر انتخابي واقع لا سبيل إلى إنكاره، لكنه تحالف ولَّد لدى طيف واسع من الرأي العام أزمة ثقة ثقيلة... هنالك النهضة بمذهبيتها "الإخوانية" وبكل ما راكمته طوال فترة مسكها بالحكم من أخطاء سياسية خطيرة، والامتناع عن محاسبة النفس بكل شجاعة وعن القطع المذهبي وعن الركون  إلى جملة من المراجعات النظرية والإعلان عن استقلالها السياسي... تتحمل النهضة القسط الأوفر من المسؤولية فيما يخيم على البلد من الأجواء المشبعة بالشكوك التي تلقي بظلالها الثقيلة على الحياة الديمقراطية وتصد الكثيرين عن الإيمان بجدوى النهج التوافقي. فلا سبيل إلى منح أيَّة مصداقية لهذا الخطاب النهضوي حول "انخراط" مزعوم في النظام الديمقراطي، و"اندماج" صُلْب الشخصية التونسية وتبني القضية التونسية ... أجل، لا سبيل إلى ذلك ما لم تقل لنا النهضة بشكل واضح لا غبار عليه أنها قد قطعت فعلا الحبل السُّرِّيَّ الذي يشدها إلى حاضنة إسلام سياسي لا يعترف بالأوطان، جذوره ضاربة في القدم.

لقد نجحنا فيما لم ينجح فيه أي بلد عربي آخر فأخذنا بناصية الديمقراطية ومضينا في ذلك أشواطا... لكن الإرهاب بقبحه أراد أن يشوه هذا النموذج الجميل الذي ارتضيناه، هذا النموذج الذي تتربصه كذلك بعض الأدران والترسبات العالقة ببعض الأذهان، فيفسد ذلك كله علينا سعادتنا... لقد آن الأوان لكي نُقَوِّي إيماننا بالوطن وتضامننا مع حاضره ومع مصيره وهو ما يتطلب منا مراجعة النفس وتغيير الكثير من المواقف.

لطيفة لخضر

ترجمة يوسف قدية

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.