أخبار - 2016.02.10

أزمة البطالة: رأي في مقاربة السيد منصور معلى

أزمة البطالة: رأي في مقاربة السيد منصور معلى

عرض مؤخرا السيد منصور معلى وزير المالية والتخطيط الأسبق مقاربة اجتماعية تهدف إلى تشغيل 600 الف شخص على مدى ثلاث سنوات.

اعتمد صاحب المقاربة على جملة من المعطيات تتمثل في أنّ عدد السكان التونسيين النشيطين يبلغ حاليا أربعة ملايين شخصا، وبما أنّ نسبة البطالة تساوي 15 % فقد استنتج صاحبها أنّ عدد العاطلين يساوي 600 الف شخص بالإمكان الوصول الى تشغيلهم على مدى ثلاث سنوات، بحيث تتولى المؤسسات الاقتصادية عبر مجهود وطني توفير شغل إلى ما يقارب 5 % في السنة من طاقتها الحالية حتى يكون مجموع المستوعبين خلال الثلاث سنوات المقبلة يساوي 15 % و هو ما يمثل مجموع العاطلين الحاليين. ويضيف السيد منصور معلى أنّ الاعباء الاجتماعية الإضافية للمؤسسات سيقع طرحها من الارباح، وبالتالي فإنّ هذا الطرح يعتبر مساهمة من الدولة لإنجاح هذه المقاربة.

لا خلاف في أنّ ما طرحه السيد منصور معلى ينم عن انشغاله العميق بالوضع الاجتماعي الصعب الذي تعيشه البلاد، ويشكل محاولة لتقديم اقتراحات عملية لمعالجة قضية البطالة في وقت ينعدم فيه أي برنامج ملموس من المسؤولين الحاليين.

لكن الاحصائيات التي وقع اعتمادها قد لا تنطبق مع الارقام التي تتوفّر لدى المعهد الوطني للاحصاء، التي تشير الى أنّ عدد السكان الناشيطين في البلاد التونسية قد بلغ سنة 2015 3.382,000 شخص يوزعون على النحو التالي:
831,000 شخص يعملون لحسابهم بصفة فردية
100,000 شخص يعملون كمساعدي عائلات
2.425,000 شخص يعملون كاجراء ومن بينهم 630 الف يعملون بقطاع الوظيفة العمومية

وإذا استثنيا من الاجراء الموظفين وشبه الموظفين الذين يشتغلون بالمؤسسات العمومية وعمال القطاع الفلاحي فإنّ عدد الاجراء اللذين يعملون بالقطاع الخاص المهيكل لا يتجاوز مليون عامل.

ويستشف مما سبق بيانه أنّ المؤسسات التي يمكن أن تكون معنية مبدئيا بمقاربة السيد منصور معلى تشغل حاليا مليون عامل لا أكثر  ولا أقل.

لكن يختلف حجم هذه المؤسسات من حيث طاقة  التشغيل فهنالك المؤسسات التي تشغل بين 6 عمال و 100 عامل والتي لا يتجاوز عددها 17 الف مؤسسة، في حين أنّ المؤسسات التي تشغل أكثر من 100 عامل لا يتجاوز عددها 1798 مؤسسة.

من خلال هذه الارقام يتضح أنّ المؤسسات التي تشغل أكثر من 20 عاملا يبلغ عدد عمالها 800 الف شخص وهي المؤسسات المهيكلة الخاصة والتي تكون معنية فعليا بالمقاربة والتي يمكن الاعتماد عليها لإنجاح هذه المبادرة.

أكيد أنّ الكثير من هذه المؤسسات تعيش أوضاعا مادية صعبة، و يا حبذا لو تتوصل إلى ضمان مواطن الشغل الحالية لديها، فهي مؤسسات في حالة متأزمة، خاصة تلك التي تنشط في قطاعات السياحة و الصناعات التقليدية و النقل وحتى النسيج، فلا يمكن مبدئيا إثقال كاهلها  بأعباء اجتماعية إضافية ولكن،حتى في صورة القبول بهذه المقاربة،فإنّ هذه المؤسسات، لا يمكنها أن توفر مواطن شغل جديدة الا لخمسة في المائة في السنة من طاقة تشغيلها الحالية حسب مقاربة السيد منصور معلى، أي 40 الف شخص في السنة، ممّا يجعل العدد الجملي خلال ثلاث سنوات 120 الف شخص في أحسن الاحوال.

هذا العدد هامّ  للغاية لكنه بعيد عن الارقام الطموحة التي ذكرها السيد منصور معلى، ومع ذلك فإنه من الضروري تعميق النظر في مبادرته لدفع عملية التشغيل، لأنّ السوق التونسية لا توفر حاليا إلا 25 الف موطن شغل جديد في السنة، وهو عدد لا يكفي حتى لمجابهة الطلبات الإضافية، إذ تفيد الاحصائيات أنّ عدد الشبان اللذين يلتحقون سنويا بسوق الشغل لا يقل عن 65 الف شخصا، مما يزيد في تعميق الأزمة، فلا يمكن الاقتصار في الحديث على مدى ثلاث سنوات على 600 الف عاطل بل سيضاف اليهم في السنوات الثلاث المقبلة 200 الف عاطل جديد، فمقاربة السيد منصور معلى تبدو بالتالي على غاية من الأهمية ويتعين أخذها بعين الاعتبار مع تصحيح معطياتها ونسبها حتى تكون منسجمة أكثر مع المعطيات الديمغرافية للبلاد التي ما انفكت تتغير من سنة إلى أخرى.

كيف يمكن إنجاح هذه المقاربة ولو بصفة جزئية؟

لقد اقترح صاحبها أن تتحمل المؤسسات الاقتصادية اجور الملتحقين الجدد بهذه المؤسسات مع طرح تكاليف اجورهم من قاعدة الارباح.

هذا الاجراء قد لا يكون كافيا لإقناع المؤسسات باعتماد هذه المقاربة، ولكن الدولة عليها أن تساهم في تحمل جزء من تكاليف هذه العملية وذلك بتحمل الاعباء الاجتماعية التي هي في حدود 16 % من حجم الاجور الخام التي ستصرف لهم.

وإذا ما احتسبنا معدل الاجر الخام لهؤلاء الملتحقين بالعمل في حدود 8 الاف دينار في السنة للشخص ، ممّا يوفر أجرا شهريا للفرد بحوالي 600 دينار شهريا ، فان حجم الاجور الجملية يكون تقريبا مليار دينار بالنسبة إلى 15 % من الاشخاص الملتحقين بالعمل، فتكون بذلك مساهمة الدولة في التكاليف الاجتماعية حوالي 160 مليون دينار.

ويمكن اعتبار هذه الكلفة مساهمة من الدولة في تكوين هؤلاء الشبان وهي أفيد بكثير من مواصلة سياسة الترفيع في الاجورالتي لا تخدم مصلحة البلاد ولا العاطلين عن العمل.
لكن مطالبة صندوق الدولة بتحمل الاعباء الاجتماعية لهؤلاء الشبان الذين سيلتحقون بالعمل عن طريق هذه المقاربة يفرض توخي الرقابة الناجعة لأنّ بعض المؤسسات ستلجأ الى اعتماد هذه الآلية حتى بالنسبة إلى الانتدابات الجديدة التي هي في حاجة إليها وهو ما قد يضر بإنجاحها.

النقد الثاني الذي يمكن أن يوجّه لهذه المقاربة يتمثل في أنّ أغلب المؤسسات المتوسطة والكبرى التي تشغل 800 الف شخصا، توجد بأقاليم  تونس وصفاقس والساحل في حين أنّ قضية التشغيل تطرح بأكثر حدة خارج هذه المناطق فما هو الحل إذن لدفع آلية التشغيل داخل البلاد؟

لا شكّ أنّه يجب ألّا نصرف النظر عن مقاربة السيد منصور معلى، بل من المفروض إثراؤها وإيجاد الحوافز المالية لإنجاحها ولكن يتعين التفكير في المناطق الداخلية.

ولا يمكن أن تنحج أية مقاربة في دفع نسق التشغيل بالداخل إلا من خلال مجهود مشترك بين الدولة ومنظمة الاعراف، و لا يمكن أن نطلب من هذه المنظمة أن تقوم بدور حاسم إلا بعد تمرير قانون المصالحة، فأغلب رجال الاعمال منكمشون على أنفسهم لوجود قضايا منشورة ضد عدد هام منهم، فإذا توفقت الحكومة إلى تمرير قانون المصالحة فان رجال الاعمال سيقبلون ، بدفع من منظمة الاعراف، إلى بعث مشاريع جديدة مع توجيههم  إلى المناطق الداخلية،خاصة وأنّ العديد منها أصبحت مؤهلة لاستقبال هذه المشاريع، نظرا إلى توفّر الطاقة العاملة بها وللتحسن النسبي للمحيط الاجتماعي فيها،كما هو الشأن بالنسبة إلى  طبرقة وسبيطلة وسيدي بوزيد وغيرهما من المناطق.

ويمكن أن يتأتى المجهود الاضافي في خلق مشاريع جديدة بعد المصالحة من المؤسسات التي تشغل حاليا أكثر من 200 عامل، وباستطاعة هذه المؤسسات أن توسع انشطتها ببعث مشاريع جديدة في الداخل خاصة في القطاعات المربحة ونعنى بذلك الصناعات الغذائية وقطع غيار السيارات وقطاع التكنولوجيا الحديثة ، مثلما قام به بعض رجال الاعمال بكل شجاعة وبدأت مبادراتهم تأتي أكلها.

إنّ المؤسسات التي تشغل حاليا أكثر من 200 عامل يبلغ عددها 600 مؤسسة وهي مؤسسات مقيمة وأخرى غير مقيمة.

ويبلغ عدد المؤسسات غير المقيمة حوالي 140 مؤسسة ويعني ذلك أنه يديرها أجانب يقيمون بتونس .
فمن الضروري تحسين ظروف العيش في بعض المناطق الداخلية على المدى القصير وذلك بخلق فضاءات ترفيهية، ومطاعم لائقة وأندية رياضية ومدارس خاصة حتى يقبل الأجنبي على الاستقرار في هذه المناطق أسوة بما فعله الاجنبي في القرن الماضي عندما انتصب بالجريصة والمتلوي والرديف وتيبار وغيرها من المناطق التي كان يستطاب فيها العيش.

الى جانب قانون المصالحة الذي أصبح تمريره أكثر من ضروري، يجب أن نأخذ في الاعتبار أنّ نصف المؤسسات المقيمة بالبلاد التونسية،وعددها 460 مؤسسة وهي تشغل أكثر من 200 عامل، ينشط في إطار شركات ذات مسؤولية محدودة، وهو ما يجعل هياكل الرقابة داخلها ضعيفة للغاية وهي شركات عائلية ولا يمكن إدراجها بالبورصة، بل إنها شركات تسير بطريقة بدائية حيث تختلط الذمة المالية للشركة مع الذمة المالية لصاحبها، وبالتالي فإنها شركات غير قابلة للتطور، بسبب النزيف الذي ينخرها وضعف مردودها الجبائي.

ويملك هذه المؤسسات الاقتصادية عدد محدود من الاشخاص والمجمعات، ويكون من المستحسن إجراء تنقيح قانوني لمجلة الشركات التجارية يفرض على المؤسسة التي تشغل أكثر من 50 شخصا أن تكون بالضرورة في شكل شركة خفية الاسم، حتى يكون لها مجلس إدارة ومراقب حسابات ويكون تسييرها بطريقة أكثر نجاعة تخدم صالح المجموعة الوطنية، فتصبح أكثر قابلية للنمو والتطور .

والى جانب المؤسسات الكبرى، نعتقد أنّه حان الوقت لمزيد العناية بالمؤسسات المتوسطة، فقد سنت الدولة قبل قيام الثورة تشريعات وحوافز جبائية  تمكن البنوك من إعفاءات جبائية هامة على الارباح التي ترصدها لتكوين شركات استثمار  ذات رأس مال  تنمية سيكار، وذلك لتشجيع الاستثمار في المناطق الداخلية، لكن البنوك تخلت عن دورها وتحصلت على الاعفاءات الجبائية ولم توظفها في بعث مشاريع، بل استعملت هذه الاموال في قروض لا علاقة لها بالتنمية  في داخل البلاد ،لذلك أضحى من الضروري جبر هذه البنوك على إرجاع الامتيازات التي تحصلت عليها بعد أن تبين أنها لم تستثمر أصول سيكار في الغايات التي بعثت من أجلها شركات الاستثمار.

وعلاوة على ذلك نتساءل لماذا لا يقع التفكير في إحداث صناديق تمويلات مخاطرة تخصص لإسناد قروض للشباب الذي يقدمون على بعث مشاريع بالداخل دون ضمانات عينية، شريطة أن يكون للشاب الذي ينتفع بهذه القروض تجربة مهنية بمؤسسات عمومية أو خاصة فيقدم على إنجاز مشروع خاص به ويترك فرصة التشغيل لغيره،مستفيدا بصورة عملية من تجربة مهنية أثرت تكوينه وتضمن إدماجه بنجاح في النسيج الاقتصادي؟

ينبغي أن تتصّدر معالجة الشأن الاقتصادي وتصور حلول لامتصاص البطالة حوارات رجال السياسة والاقتصاد، وفي هذ المجال لا يمكن إلا ان ننوه بمبادرة السيد منصور معلى التي فتحت الابواب لتعميق الرؤى حول الطرق المجدية لمعالجة الوضعية الاقتصادية التي أصبحت كارثية بكل المقاييس.

وأقصد بما أبديته من رأي  في خصوص هذه المقاربة تثمينها واثراءها حتى تكون أكثر قابلية للتطبيق، مع الاعتراف مسبقا بان تقييمها بالنسبة لي يعتبر مجازفة ،وذلك نظرا إلى ما التي يحظى به السيد منصور معلى من صيت كبير وتجربة رائدة في المجال الاقتصادي.

أقو ل  في الختام إنّ الاستثمار في تونس ،وإن كان اليوم يبلغ حجمه 19 % من الناتج الوطني الخام، قد  تراجع عما كان عليه قبل الثورة عندما كان يتجاوز 30 % من الناتج الخام ولكن عندما نتأمل اليوم في وجهة الاستثمار فاننا نلاحظ أنّ 8 % منه يذهب إلى قطاع السكن و 4%  إلى بناء الطرقات الجسور،في حين ظلّت نسبة الاستثمار في بعث المشاريع في حدود 7 % ممّا  يجعل عدد مواطن الشغل الجديدة التي تبعث حاليا كل سنة لا يتجاوز 25 الف موطن شغل.

إنّه رقم مفزع وخطير لانّه ينم عن تردّ خطير للوضع الاقتصادي في البلاد التي باتت تسير دون أية خطة ، وهو ما يجعل البطالة تتفاقم يوما بعد يوم ،إذا ما لم يبادر رجال الاقتصاد ورجال الاعمال بالقيام بمبادرات جديدة لإنقاذ الوضع على غرار ما قام به السيد منصور معلى.

والبنوك نفسها مدعوة إلى أن  تنخرط في هذا المجهود، فقد ظلت لسنوات عديدة لا تبحث إلا على الربح بشتى الوسائل وأضحى من واجبها أن تساهم بأكثر جدية في إعداد مقاربة شاملة لمقاومة البطالة، فقد ولّى العهد الذي كانت فيه المؤسسات البنكية الخاصة تستفيد ولا تفيد. عليها اليوم أن تساهم  بصفة أكثر نجاعة في تطوير النسيج المؤسساتي حتى يقع خلق مواطن شغل جديدة وخاصة في داخل البلاد.

الاستاذ عادل كعنيش

إقرء المزيد
منصور معلى: القضـــاء على البطالــــة ليـــس مــن المستحيـــــل

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.