رشيد خشانة - نوفمبر 1991: بن علي يُحكم قبضته على رقبة المعارضة
مرّت تونس في مسارها نحو إرساء التعددية بمحطات غير قليلة، منها انفراجة «التفتح» في مطلع الثمانينات، ومنها أيضا القوسان المُمتدان من نوفمبر 1987 إلى انتخابات 2 أفريل 1989 السابقة لأوانها. غير أنّ محطات أخرى، إيجابيّة كانت أم سلبية، مازالت غير معروفة، بالرغم من دورها الحاسم في دفع المسار، أو تعطيله والعودة به إلى الخلف. ومن تلك المحطات مبادرة الندوة الوطنية للديمقراطية التي هيأت المعارضة لعقدها في مثل هذا الشهر من سنة 1991 والتي تحولت إلى عملية لي ذراع، سرعان ما انتهت بإحكام زين العابدين بن علي قبضتهُ على رقبة المعارضة. فبعد استهداف حركة «النهضة» على إثر الانتخابات السابقة لأوانها، تشكل المشهد المُعارض من خمسة أحزاب هي التجمع الاشتراكي التقدمي (أصبح لاحقا الديمقراطي التقدمي) والحزب الشيوعي (حركة التجديد بعد 1993) وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين وحزب الوحدة الشعبية والاتحاد الديمقراطي الوحدوي.
وفي غمرة الغضب من نتائج الانتخابات التي أعطت فيها السلطة جميع المقاعد للحزب الحاكم، تدارست المعارضة المبادرات السياسية المُمكنة، وانتهت قياداتها إلى الاتفاق على عقد ندوة وطنية تطرح فيها مشروعها لبناء الديمقراطية في البلاد. وما زاد من التشجيع على تلك المبادرة المناخ الاقليمي والدولي المُتسم بانعقاد أكثر من ندوة للديمقراطية في القارة الأفريقية آنذاك، وقدَحَ كثيرٌ منها شرارةَ ثوراتٍ ديمقراطيةٍ أنهت أنظمة مُستبدة وأحلت محلها ديمقراطيات يافعة. وأتت تلك الموجة في سياق انهيار الأنظمة الشمولية في شرق أوروبا ووسطها عطفا على سقوط جدار برلين (9 نوفمبر 1989) وانهيار الاتحاد السوفياتي. ولم يكن التونسيون، شعبا ونُخبا، بمنأى عن جاذبية تلك التحولات المتسارعة من حولهم.
عمليا، اتفقت المعارضة على عقد ندوتها في قاعة بورصة الشغل بحضور خمسين إطارا من كل حزب، إضافة إلى خمسين من ممثلي الجمعيات والنقابات والمستقلين، على أن تُتلى في الندوة كلمات الأحزاب، ثم تُقدم لائحة تتضمن مطالب المعارضة. ولإعداد اللائحة سمَّت الأحزاب لجنة صياغة من خمسة أعضاء هم مصطفى بن جعفر وبوجمعة الرميلي ومنصف الشابي ومحمد بوشيحة وكاتب هذه السطور. أما الرهان فكان مُنصبّا على رفع سقف المطالب الديمقراطية، بما فيها إطلاق الحريات وفي المُقدمة منها حرية الإعلام، والفصل بين الحزب الحاكم ومؤسسات الدولة، وغيرها من الأهداف والشعارات التي كانت كفيلة بجعل بن علي يستشيط غضبا ويتوعد المعارضين بالويل والثبور، مُعتبرا عقد الندوة تحديا لسلطته. وسارع إلى تكليف عبد الرحمان التليلي بإبلاغ الأمناء العامين للأحزاب أن الندوة محظورة، فيما أطلق مدير «لابراس» النار على المعارضة في افتتاحية هجومية لتذكيرها بأن تونس ليست من جمهوريات إفريقيا السوداء.
كانت لجنة الصياغة قد فرغت من إعداد مشروع اللائحة الختامية ووزعته على المكاتب السياسية للمصادقة عليه. غير أن الأمناء العامين تداعوا إلى اجتماع على عجل في مكتب محمد بلحاج عمر بنهج إيران، لتسلم الرسالة الشفوية التي نقلها التليلي. وحضر الاجتماع محمد مواعدة ومحمد حرمل ونجيب الشابي وبلحاج عمر والتليلي وكاتب هذه السطور. وبعدما أبلغت الرسالة إلى الحاضرين دار حديث مُختصر جدا، فاقترح مواعدة تحويل الندوة إلى اجتماع للمكاتب السياسية ورأى حرمل أن نُؤجلها وبلحاج عمر أن نُلغيها، فيما تمسك ممثلا الإشتراكي التقدمي بعقدها حتى لو مُنعت. وانفض الاجتماع بقرار ضمني كانت له تداعيات بعيدة المدى...
بعد أيام معدودة أقيم الاحتفال التقليدي بذكرى 7 نوفمبر في القصر الرئاسي، فخصص بن علي قسما مهما من خطابه السنوي للتهجم على مبادرة المعارضة. ولم يكفِهِ ذلك فدعا الأمناء العامين للأحزاب الخمسة بعد نهاية الحفل، وكان في غاية الغضب من المبادرة ومن مشروع اللائحة السياسية قائلا إن من كتبها أتى بكلماتها... من العراق!
أسدل الستار على هذا الفصل من العلاقة بين المعارضة والسلطة، لكنه شكل مُنعطفا هامابعد أربع سنوات فقط من تسلم بن علي مقاليد الرئاسة، إذ نُحتت معه بنية نظام سياسي جديد مُختلف عن نظام بورقيبة. فالمبادرة التي قامت بها المعارضة لم تكن تهدف إلى لي الذراع أو المُنازلة، وإنما لتحديد مساحة السلطة من جهة ومساحة النقد والمعارضة من جهة ثانية، مع احترام كل طرفٍ ملعبَ الطرف المقابل. أما الذي حدث فكان إرساءً لنمطٍ جديدٍمن التعددية قائمٍ على المعارضة الكارتونية، بما أدى إلى تزييف الحياة السياسية وانسداد طرق التواصل والتفاعل بين الدولة والمجتمع. وأفضى ذلك الانسداد لاحقا إلى نتيجته الحتمية مع تفجر ثورة شعبية، بعد اليأس من أي تغيير من داخل المنظومة الحاكمة. وفي 17 ديسمبر 2010، أفضى ذلك الانسداد،الذي استمر وتفاقم على مدى عقدين،إلى نتيجته الحتمية مع تفجر ثورة شعبية ضد النظام، بعد اليأس من أي تغيير من داخل المنظومة الحاكمة.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق