العولمة: قراءة غير شيطانية
1- ما تلتقي عليه جلُّ الكتابات العربيّة عند تناولها للعولمة هو التصدّي لها بتصنيفها ضمن الخانة التشهيريّة الكبرى للتغريب والغزو الفكري والهيمنة والنهب الاقتصادي. هذا ما تبرزه تعاريف هذه الظاهرة والتي لا ترى فيها إلاّ أحد وجوه ثلاثة:
- اختزال للعالَم في قرية تناهض فيها السوقُ الدولةَ ويستحوذ فيها المالُ على السياسة.
- تجسيد الليبرالية الجديدة المغتصبة للثقافات المُعتدية على رموزها في امتداد للرأسمالية الشاملة للعالم ودعما لعنفهاالمسلَّح.
- تطبيق نظرية النظام العالمي المستلهَمة من الماركسية في استهدافها للفروق الثقافية بدلاً من تمثل التمايزات الخاصّة التقليدية.
تلتقي هذه التحديدات على اختلافها على إدانة الظاهرة بصورة قطعية باعتبار أن وراءها استراتيجية اجتياحٍ تتخفّى وراء واجهة مُشرقة للتقنيّة ووسائطها المعلوماتيّة الهائلة والميسّرة وحركتها الحرّة للأموال والتجارة. ما تتفق عليه التعاريف السابقة هو تركيزها على أمرين: أنّ العولمة ذات بُعد اقتصادي محضٍ يقع فيه الاعتماد على آليات السوق وقانون العرض والطلب وأنّها تعبّر عن ظاهرة استحواذية قائمة على ضرب من «المؤامرة» الكونية. تلك هي عموم القراءات السائدة عربيا وهي على وجاهة بعض ما تورده قراءاتٌ متوجّسة، دفاعية ومُثَـبِّـطة.
2- هي قراءات يمكن وصفها بالــ«شيطانيّة» لكونها لا تجانب الحقيقة في كل ما تبرزه، لكنّ أخطر ما فيها هي وثوقيتها القائمة على الذهنية الحتمية المقزّمة للإرادة الإنسانية والمُعرضة عن الفعل الاستخلافي للآدمي المتميّز بالعقل والحريّة في الاختيار.
هي منـاهضـة للسعــي الحثيـث الذي ركّزه الخــطاب القــرآني في خصوص تربيته للجنس البشري حيث يُدين الخاصيّة الشيطانيّة عبر شحذ وعي بنائيٍّ قادرٍ على مواجهة نزعات الضعف والتخاذل في الفرد وحفز إرادته الرافضة للحتميات.
إنّها مقابلة للتصوّرات التي لا بدّ من استحضارها ونحن بصدد معالجة تقويمية لظاهرة العولمة. ما تعنيه مقابلة الآدمي لإبليس عند المعالجة الثقافية للعولمة هي المواجهة بين نزعة واعية ومُتوثِّبة وأخرى انغلاقية لا ترى في الظاهرة إلاّ شرّا مستطيرا.
إنها مقابلة بين المشروع واللاّمشروع أو بين المقولة الإلهية التي ما يئست من الآدمي، فقالت : «إنّي أعلم ما لا تعلمون» وبين الذهنية الإبليسية التي اختزلت موقفها في إدانة قطعية قائلة: «أنا خيرٌ منه». هي لوحة تأسيسية بوجهيها: أفقٌ مفتوح يقوم على كاهـل كائن له من القدرات المتعددة المتيحة له من الخطأ والصواب عبر حرية ممنوحة تفضي إلى أكثر من خيار؛ إزاءها تقف القرينة المعكوسة لدرك الجبرية الثبوتية المُنكرة لحرية الآدمي وعمله وما يعنيه القبول بالاحتمالات المختلفة. الآدمي ـ في هذه اللوحة ـ هو الإمكان والتعدد، بينما الشيطان هو الحتمية المؤكَّدة.
3- هذا التقعيد الثقافي يمكن اختزاله في تساؤل: لماذا ينبغي مؤاخذة القراءات المُثَّبِطة للعولمة؟ وما الذي تستبطنه من الأحابيل الشيطانيّة التي تزيّن بكثير من الدقّة، بل الصدق أحيانا، تعاملا انهزاميا تدميريّا للمستقبل؟
للإجابة هناك تصحيحان: أوّلهما أننا في سبيل فهمٍ أكثر دقّة للعولمة لا بدّ من التذكير أنّنا لسنا أمام ظاهرة اقتصادية- سياسية محض، بل إنّنا إزاء دورةٍ حضارية جديدة بتطورات تقنية ومعرفية كثيفة ذات دلالات اجتماعية شاملة شديدة التأثير في الفضاء الثقافي والنسيج القيَمي والسلوك الفردي والجمعي.
العولمة على هذا حدثٌ يغيّر النظام التواصلي للحياة الإنسانية بصورة نوعية عبر إنشاء عالَم افتراضي قائم على منظومات معلوماتية وشبكات رقميّـة تمكّن من تفعيل العالَم الماديّ المباشر المحيط بنا وكذلك عالَم فكرنا وتصوّراتنا.
هو، ثقافيا، انقلاب عولمي في حقيقته، فيه دعوةٌ للمجتمعات والمؤسّسات والأفراد إلى مباشرة قضاياهم عبر حضور مكثّف لبُعدٍ كونيٍّ تعدّدي بصورة غير مسبوقة. إنّه انفتاح للــــ«أنا» المحلّي والضيّق على الــ«نحن» الجديد العابر للثقافات والخصوصيات التقليدية.
4- في كلمة، العولمة تعني تَثْنِيَةَ عالَمِنا بظهور عالَم جديد محيط بالعالَم الإنساني والطبيعي المعهود وفاعل فيهما بما يؤدي إلى تغيير جوهري للواقع ووسائل التأثير فيه. هذه التثنية تتحدّى الإنسان والمجتمعات بإنشاء علاقة مختلفة مع العالَم والتوصّل إلى نظرة جديدة إلى الذات والآخر.
ثاني التصحيحين هو أن العولمة عندما نتمثّلها ثقافيا، لا تكون مشروعا جاهزا و«أنموذجاـ مثالا» للتعميم عالمياً بالقهر والتعسّف بل تصير سياقا حضاريا منفتحا لكنّه متقاطع مع إيديولوجيا ليبرالية في أوج انتصارها بعد نهاية الحرب الباردة.
من هذا التشابك مع إيديولوجيا ذات نظام اقتصاديّ رأسماليّ متوسّع ومؤسّسات تجاريّة وماليّة متجاوزة لكلّ الروابط والمنظومات الوطنيّة بدا أن مآلات العولمة محسومة وأنه لا خيار لنا إلاّ برفضها. بينما الإشكال في تناسي التداخل بين مستويي الظاهرة: مستواها التاريخي الحضاري المعرفي وجانبها الإيديولوجي الاقتصادي السياسي وما يعنيه من مواكبة صيرورتين مختلفتين لكنهما للظرف الدولي الحالي تبدوان متلازمتين تلازما عضويا وكأنّ هذه هي تلك.
5- ما لا ينبغي الذهول عنه في ما يُرى تلازما بين النزوع الاستهلاكي وأزمة القيم وتعميقا للفوارق الاجتماعية وبين الإيديولوجية الليبرالية ونظامها الاقتصادي هو الإصرار المُذهل على تجاهل البعد الثقافي المُنكر لمقدرة الإنسان على الحرية والتغيير. من هنا تتسرب مقولة الحتمية الإبليسية لتنسب إلى العولمة تمظهرا مدمّرا للطبيعة والمجتمعات وفكرا وثقافة تنميطيين بما يجعلها قَدَرا محتوما لا حلّ إلا بمناهضتها.
كيف ندرك في عالمنا العربي أن «الإمكان الإنساني» الذي يعني الانفتاح والحريّة يدفع إلى التوجه إلى العولمة في مستواها الحضاري العالمي بانخراط واعٍ فيها. ذلك يقتضى إرادةً سياسية واختيارات اجتماعية متحررة وعادلة بما يستلزم نخبا جديدة تراهن على التنوّع الثقافي من أجل فاعلية واستقلال موصولين بالهويّة حين تغدو ابنةً لعصرها.
صميم التحدّي الثقافي الذي نواجهه اليوم عربيا في خصوص العولمة هو وعيٌ مؤسَّس على أنّ الحتمية طبعٌ شيطانيٌّ همُّه سؤال: ماذا سيحصُل لي؟ وأن الحريّة صبغةٌ إلهية سؤالُها ماذا ينبغي أن أفعل ؟
ا.د.احميده النيفر
- اكتب تعليق
- تعليق