تحليل خاص من رشيد خشانة : تفجيرات باريس ومُنزلق الدولة الأمنية
تحليل خاص من رشيد خشانة - تدل الإجراءات التي اتخذها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في اعقاب التفجيرات الإرهابية الأخيرة، على أن الدولة الفرنسية تتدحرج نحو سلسلة من الإجراءات الصارمة التي تنتقص بشكل جوهري من فسحة الحريات الفردية والعامة. والأخطر من ذلك أن هذه الإجراءات ستُشفع قريبا بتعديلات دستورية تمس من طبيعة الدستور الديمقراطي وتُراجع مكاسب كان الجميع يعتقدون أن لا رجعة عنها. لقد كان مفهوما أن يعتبر هولاند أن فرنسا باتت في "حرب مفتوحة مع الارهاب"، فيفرض حالة الطوارئ بالنظر إلى أن التفجيرات الأخيرة هي أسوأ هجمات تعرضت لها فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية. ولذلك من الطبيعي أن يشعر الفرنسيون وفي مقدمتهم قيادتهم السياسية أن الاعتداءات مست كبرياءهم. وفعلا أحدثت التفجيرات هزة قوية في الدولة والمجتمع على السواء، خاصة أنها أكبر عملية إرهابية في أوروبا بعد الاعتداءات على شبكة القطارات الاسبانية في 2004، كما أنها المرة الأولى التي يتم فيها استخدام أحزمة ناسفة في أوروبا.
ثلاثة عوامل متوازية
أتت سلسلة من التفجيرات الجديدة في أعقاب عملية دموية طالت مكاتب صحيفة "شارلي هبدو" في 7 جانفي 2015 وأدت إلى مقتل 12 شخصًا كان قد تبناها تنظيم "القاعدة"، أما هذه الهجمات الجديدة فتبناها "تنظيم الدولة الاسلامية" في بيان أصدره بالعربية والفرنسية والانكليزية، وهي المرة الأولى التي يتبنى فيها عملية في فرنسا، فما هي أسباب هذا الاستهداف؟
ارتبط توقيت التفجيرات بثلاثة عناصر هي التالية:
أولا هي أتت بعد أسابيع من إطلاق فرنسا سلسلة غارات جوية على مواقع "داعش" في كل من سوريا والعراق، اعتبارا من 28 سبتمبر الماضي، بالإضافة لإرسال حاملة الطائرات "شارل ديغول" في أوائل شهر نوفمبر 2015 للمشاركة في العمليات العسكرية ضد التنظيم، مما جعل الأخير يُعد لهذا الرد على الأرجح منذ تلك الفترة.
ونُلاحظ أن "داعش" سرعان ما رد الفعل على الدول التي باشرت شن الغارات الجوية على مواقعه بتفجير طائرة الركاب الروسية فوق سيناء في 31 أكتوبر 2015، وقبلها بعشرين يوما، أي في 10 أكتوبر ضرب في أنقرة، ثم وجه ضربة من نوع آخر إلى فرنسا في الشهر التالي. وهذا دليل على تحول نوعي في قدرات التنظيم التخطيطية والعسكرية، إذ أصبح قادرا على إدارة مجموعات مختلفة تتسم بالحرفية والاستعداد للموت في بلدان متباعدة، بل في قارات مختلفة من سيناء إلى تركيا إلى لبنان وصولا إلى باريس.
ثانيا تم توقيت التفجيرات قبل ثلاثة أسابيع من عقد المؤتمر الدولي حول المناخ 21 COP الذي يُعد الفرنسيون لاستضافته منذ مدة طويلة، والذي دُعي لحضوره 117 رئيس دولة وتستمر أعماله أسبوعين. ومن الواضح أن هدف "داعش" هو إرباك المُنظمين وإثبات أن الأمن غير مستتب من أجل دفعهم إلى تأجيل المؤتمر.
ثالثا قد يكون التنظيم أرسل عددا من عناصره إلى أوروبا ضمن موجات اللاجئين الذين وصلوا من سوريا عبر اليونان وتركيا، إذ كشف رئيس جهاز المخابرات الألماني أن "دخول آلاف اللاجئين إلى ألمانيا يستغله المتطرفون لتجنيد عناصر منهم". كما أشار إلى "وجود إرهابيين قدموا مع اللاجئين" (صوت ألمانيا). ويمكن القول إن استراتيجيا التنظيم في هذا المضمار "رمت لإغراق أوروبا بمئات الآلاف من المهاجرين المسلمين الذين سيُنشأ من بينهم جيش المستقبل".
يُضاف إلى هذه العوامل الثلاثة التنافس بين "داعش" و"القاعدة" الذي أشار إليه الباحث ماك كانتس باعتباره أحد العوامل المُشجعة على هذه "الغزوة" الباريسية. ويعتقد ماك كانتس مدير مشروع أمريكا والعالم الإعلامي في معهد بروكينغز أن فقدان مزيد من الأراضي في سوريا والعراق ربما حمل "داعش" على تنفيذ ضربات في الخارج مثل سيناء وبيروت وباريس لإقناع الدول الأجنبية بأنها ستدفع ثمنا باهظا.
لماذا هذه الأهداف؟
لم تستهدف التفجيرات مؤسسات أو معابد يهودية أو رموزا سياسية أو دينية أخرى، خلافا لكثير من الهجمات التي عرفتها فرنسا في العقود الماضية. غير أن صحيفة "Times of Israel" الاسرائيلية أبرزت أن صاحب مسرح "باتاكلان" يهودي، وقالت إنه كان "عُرضة لتهديدات من جماعات مناهضة للصهيونية" لم تُسمها، لتؤكد بعد ذلك أنه باع المسرح في سبتمبر الماضي.
أما عن هوية المنفذين فتدل الخيوط التي كشف النقاب عنها رئيس المُحققين الفرنسيين على أن "داعش" استقطب شبابا من ذوي السوابق الضالعين في قضايا إجرامية، والذين لم يُعرفوا بانتمائهم للخلايا المتشددة المسجلة لدى أجهزة الأمن. ويوجد حاليا في فرنسا 1500 متشدد تحت رقابة الأجهزة الأمنية بحسب رئيس المرصد الدولي للإرهاب رولان جاكار. ويُقدر جاكار عدد المتعاطفين مع "داعش" في مواقع التواصل الاجتماعي بفرنسا بما بين 4000 و5000 شخص، فيما أكد وجود 1500 رشاش كلاشنكوف في فرنسا قال إنها هُربت من البلقان عبر إيطاليا.
غير أن السؤال الأكثر إلحاحا هُنا هو: من المُستفيد من تسديد هذه الضربة المؤلمة لفرنسا؟ ولماذا استُهدفت؟
من الواضح أن الروس هم أول المستفيدين من ضرب إصرار باريس على تنحية الأسد، فغالبية المواقف الدولية باتت مُذعنة لوجهة نظر موسكو التي تعمل على حشد الجهود لمحاربة "داعش"، في مقابل السكوت على نظام الأسد. أما فرنسا فهي الدولة الكبرى الوحيدة التي أصرت في الجولتين السابقتين من محادثات فيينا على التمسك برحيل الأسد كشرط لأية تسوية سياسية للأزمة في سوريا. كما أنها الدولة الوحيدة التي تُقارع روسيا في شرق المتوسط بإرسالها حاملة الطائرات "شارل ديغول" إلى المنطقة، في الوقت الذي امتنع فيه الحلف الأطلسي عن تقديم الدعم لتركيا في غاراتها على مواقع "داعش"، بالرغم من كونها عضوا رئيسيا في الحلف.
والمستفيد الثاني هي إيران لأنها تأمل أن تحصد منها عُدُولا فرنسيا عن اشتراط رحيل حليفها الأسد لحل الأزمة السورية. أما المستفيد الثالث فهو النظام السوري الذي يعتبر فرنسا الخصم الدولي الرئيسي المُطالب برأس النظام. فالأسد لم يكتف بعدم التنديد وإنما قال إن التفجيرات هي "نتيجة للسياسة الخارجية الفرنسية الخاطئة". واستطرادا تطرحُ هوية المستفيدين من التفجيرات أسئلة مُلحة، من جديد، حول من يقف وراء "داعش"، إذ أن من يحصد ثمار هجماته هو في غالب الأحيان نظام الأسد وحُماته الروس والإيرانيون؟ كما أن هناك احتمالا أن يكون طرف آخر (أو أطراف أخرى) قد نفذ التفجيرات باسم "داعش"، لا سيما أن المنفذين ليسوا من العناصر المعروفة بانتمائها للتنظيم، مما يستدعي التساؤل عما إذا كانت التفجيرات ترمي لمعاقبة فرنسا على مواقفها المتوازنة من القضية الفلسطينية، وخاصة اعتراف البرلمان الفرنسي بدولة فلسطين، ودور باريس في منح فلسطين العضوية الكاملة في منظمة اليونسكو، واستعدادها لتقديم مشروع للأمم المتحدة يُمهل اسرائيل سنة ونصف السنة للإنسحاب من الضفة الغربية في إطار حل الدولتين؟
ويبرز هنا مُجددا ملف اللاجئين الذي سيُعاد النظر في أركانه حتما من دون انتظار نتائج التحقيقات القضائية الجارية في فرنسا، إذ باتت سياسة الاستيعاب التي انتهجتها بعض الدول الأوروبية وخاصة ألمانيا، جزءا من الماضي. والأرجح أن أعضاء الاتحاد الأوروبي سيُحاولون إقفال بابي الهجرة واللجوء، ولن يكتفوا بذلك بل سيُراجعون بدقة لوائح اللاجئين الذين توزعوا على بلدان الاتحاد. وستقود السياسة الجديدة في مجالي اللجوء والهجرة إلى مراجعة اتفاق شينغن، بما يُعيد تكريس سيادة الدولة في الفضاء الأوروبي ويُغلب التشريعات الداخلية على الاتفاقات الأوروبية، وصولا ربما إلى إعادة إقرار الحدود الداخلية.
واستطرادا يجوز التساؤل عن مصير الاتحاد الأوروبي نفسه بعد الخروج من دوامة الصدمة التي أحدثتها تفجيرات باريس؟ في المقابل تطرح التفجيرات على الصعيد العسكري سؤالا كبيرا عن مدى تأثيرها في احتمال مراجعة موقف الحلف الأطلسي من الحملة الدولية على "داعش"، بعدما خذل الحلف تركيا على هذا الصعيد، إذ يحق لفرنسا كعضو في الحلف أن تدعو لتطبيق البند الخامس من الميثاق، والذي يعتبر الاعتداء على عضو في الحلف اعتداء على باقي الأعضاء.
تبقى الإشارة إلى الموقف الإسرائيلي الذي استثمر هجمات باريس، كالعادة، للتقرب أكثر من فرنسا، في مقابل تعميق صورة القتلة التي ما انفك الإعلام الصهيوني يُروجها عن العرب والمسلمين لدى الرأي العام الفرنسي والأوروبي عموما، بالتذكير بأن الاسرائيليين هم أيضا ضحية "لإرهاب السكاكين" وللهجمات الانتحارية. وكتب قدعون ليفي في صحيفة "هآرتس أن "هناك رابطا بين سكين الطفل الفلسطيني في الخليل وقنبلة الانتحاري في باريس". وأبرز الإعلام الفرنسي التظاهرات التي حدثت في الدولة العبرية، والتي حضرها الرئيس الاسرائيلي الأسبق شيمون بيريز وألقى فيها "كلمة تضامن" مع ضحايا التفجيرات، وقد حرص على إلقائها باللغة الفرنسية.
الحريات مُهددة
وبالعودة إلى التداعيات الداخلية الفرنسية يُطرح السؤال عن احتمال تغيير الموقف الرسمي من الأزمة السورية، فاللقاءات التي عقدها الرئيس هولاند مع زعماء الأحزاب السياسية أظهرت ميلا قويا لدى النخب، بدءا من حركة الجمهوريين اليمينية إلى الحزب الشيوعي في أقصى اليسار، نحو العدول عن المطالبة برحيل الأسد وتركيز كل الجهود على محاربة "داعش". وبرز الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، الذي كان مهندس التدخل العسكري الأطلسي للإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا سنة 2011، بموقف ضاغط على الرئاسة الفرنسية "من أجل إعادة توجيه السياسة الخارجية" بما يجعل الحرب على الارهاب تقتصر على قتال "داعش". وتأكد من التصريحات التي يُدلى بها الزعماء الفرنسيون أن هناك اتفاقا سيقصم ظهر الموقف الذي تبناه حتى الآن كل من هولاند ووزير الخارجية فابيوس من نظام الأسد. والأرجح أن احتمال ارتكاب "داعش" عمليات أخرى في فرنسا، مثلما لوح بذلك التنظيم في وسائل إعلامه، سيدفع هولاند للإذعان لمطالب المعارضة، وبالتالي إسكات صوت الدولة الكبرى الوحيدة المُطالبة برحيل رأس النظام في سوريا.
وتجدد الاعتداءات والتفجيرات غير مُستبعد في ظل وجود 1800 عضو فرنسي في تنظيم "داعش" بسوريا، فيما يُقدر الباحث حسن أبو هنية عددهم بألفي عنصر. كما أن وجود خزان من العناصر المتشددة في أحد الأحياء الفقيرة من العاصمة البلجيكية بروكسيل، والذي جاء منه بعض المنفذين، سيُسهل تأمين المدد اللوجستي لأية عمليات مقبلة. وتُعتبر بلجيكا "من الدول الأكثر تأثرا في أوروبا بمغادرة جهاديين للقتال في سوريا". ومن المؤشرات التي تعزز احتمال تجدد الاعتداءات في فرنسا لحملها على وقف غاراتها الجوية على مواقع التنظيم قوة البنية الاعلامية والعملياتية الفرنكفونية لدى "داعش"، والمُوجهة اساسا لاستقطاب الشباب من فرنسا وبلجيكا والبلدان المغاربية والافريقية. وإذا أضفنا إلى ذلك أن التنظيم أعلن أنه أرسل ألفين من أعضائه ضمن مئات الآلاف من طالبي اللجوء الذين وصلوا إلى أوروبا، نُدرك أن التهديدات التي ما فتئ يُوجهها إلى فرنسا وسواها من البلدان الغربية ليست مزحة أو تهديدات كلامية. وهذا ما تتوقعه السلطات الفرنسية إذ صرح قائد الأركان الفرنسي بأن "السؤال ليس هل ستكون هناك هجمات جديدة أم لا، وإنما متى؟". ومن هنا فإن الحرب ستستمر فترة غير معروفة لكنها لن تكون قصيرة.
والثابت حتى الآن أن صلاحيات أوسع مُنحت للجيش الفرنسي الذي تم تكليفه بحراسة المباني الرسمية سيكلف أيضا بالمزيد من المهمات في الحياة الداخلية الفرنسية في الفترة المقبلة، وسيكون له دور لم يسبق أن قام به منذ حرب التحرير الجزائرية (1954-1962). وبقدر ما عكست الهجمات الأخيرة إخفاقا أمنيا على صعيد التوقع والاستعداد لها، ستترتب عليها تداعيات تخص معاودة هيكلة أجهزة الاستخبارات، لاسيما أن الرئيس الفرنسي نفسه كان في منطقة الخطر لدى وجوده في "ملعب فرنسا" قبل إخراجه منه.
المسلمون أول الضحايا
ويمكن الجزم بأن المسلمين الفرنسيين الذين يشكلون نحو 10 في المئة من سكان البلد (65 مليون ساكن) وهم أكبر جالية مسلمة في اوروبا الغربية، هم أولى ضحايا التفجيرات الأخيرة، إذ أن الإجراءات الأمنية المُتخذة ستنتقص من حرياتهم وحقوقهم كمواطنين فرنسيين. إنهم كبش الفداء في الحملات المتبادلة بين اليمين واليسار، والتي سترتفع وتيرتها مع اقتراب ميقات الانتخابات المحلية والبلدية المقررة للعام المقبل والانتخابات الرئاسية في 2017. ويُؤشر الجدل الدائر حاليا حول الملف الأمني على أنهم سيكونون في عين التدابير الردعية والعقابية التي تُطالب الأوساط العنصرية باعتمادها. وقد طالبت زعيمة حزب "الجبهة القومية" مارين لوبن بحظر "المنظمات الأصولية الاسلامية وطرد المتشددين الاسلاميين من فرنسا وترحيل الأجانب الذين يكرهون بلادنا وغلق المساجد التي يؤمها متطرفون وإقفال الحدود".
ومن الواضح أن الحكومة الفرنسية تأخذ في الاعتبار الشحنة العاطفية التي يتعاطى الجمهور الفرنسي من خلالها مع التفجيرات باعتبارها شكلت اعتداء على سيادته ومجتمعه وثقافته، وهو ما يُفسر محاولة الثأر من خلال توجيه سلسلة ضربات جوية إلى مواقع "داعش" وانتهاج سياسة أكثر صرامة إزاء المهاجرين واللاجئين في المستقبل. لكن السؤال هو إلى أي مدى ستمتنع الرئاسة الفرنسية، الواقعة تحت ضغط شديد من الرأي العام والمعارضة، عن تنفيذ أعمال تبدو ثأرا للكبرياء الفرنسية الجريحة، أسوة بما فعله الرئيس الأمريكي الأسبق جورج والكر بوش من غزو للعراق وأفغانستان في أعقاب اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر في أمريكا؟
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق