هنيئا لقرّاء العربية
ازدانت مملكة الصحافة في تونس بمولود جديد طالما انتظرناه كي يملأ فراغا نوعيّا، تزيد من وطأته طفرة الجرائد والنشريات التي تكاثرت كالفقاعات غداة ثورة 14 جانفي 2011، دون أن ترقى في غالب الأحيان إلى المستوى المأمول من الجودة والجدية شكلا ومضمونا. ولمّا أهلّ علينا هذا المولود الجديد المتمثل في مجلة "ليدرز العربية" استبشرنا به خيرا واستبشر به عشّاق الكلمة الهادفة والصحافة الجادة.
ومما يؤيّد أحقيّة هذا الاستبشار ما حفل به العدد الأول لهذه المجلّة من مواضيع تسترعي الاهتمام ومن كتابات قيّمة جديرة بالتنويه، ومنها تلك العبارات الرشيقة الواردة في ركن "استهلال" والتي أرى فيها اختصارا بليغا للخط التحريري الذي اعتمدته هذه المجلة الوليدة، حين عبّرت عن طموح القائمين عليها في أن تكون "رافدا للمعرفة يسهم بقسطه في توسيع أفق القارئ الفكري وفي تثبيت أسس الثقافة في بلادنا التي طالما عانت الإقصاء والتهميش ... ليصبح هذا القطاع بحق وسيلة إنماء اجتماعي واقتصادي وحضاري ووسيلة تنوير وتحديث للمجتمع". وعلاوة على هذا الهدف النبيل يشير الركن نفسه إلى هدف آخر لا يقلّ نبلا وهو "تكريس التعددية السياسية والفكرية بما يُساعد على إعلاء قيم الوسطية والاعتدال وقبول الآخر في اختلافه وتنوّعه".
لم نستبشر بهذا المولود الجديد من باب الغيرة على لغة الضاد فحسب، أو من إحساسنا بأنها كانت غائبة في عُقر دارها طوال الحقبة الزمنية التي كانت تصدر فيها مجلة "ليدرز" باللغة الفرنسية فقط، دون أن يعني ذلك بالتأكيد اختيارا لتغييبها أو هضم جانبها... ولم نستبشر بالمولود الجديد فقط من منطلق القناعة بأن الساحة الفكرية التونسية تزخر بذوي العقول النيّرة والأقلام الرشيقة القادرين باللسان العربي على الإسهام بقسط وافر في إثراء الإنتاج الفكري إلى جانب إخوانهم من ذوي اللسان الفرنسي أو من يجدون راحتهم وضالتهم في التعبير بلغة "موليير"...
استبشارنا نابع في الواقع من هذه الاعتبارات كلها، ولعل الاعتبار الذي يأتي في المقام الأول أننا في شوق شديد إلى صحافة الإنارة بعد أن مللنا صحافة الإثارة التي ملأت الساحة الإعلامية المكتوبة، كمظهر من مظاهر الانفلات الإعلامي واللغوي الذي كثيرا ما طال أعراض الناس، وساهم في نشر الكراهية والتباغض إلى حد التناحر الكلامي الذي يمهّد السبيل للتناحر الدموي.
لقد مللنا صحافة المشاجرات والقدح في الذمم والتناطح بالاتهامات المتبادلة، مللنا صحافة اللهث وراء السبق الإعلامي المزعوم ولو باختلاق الأخبار أو بتزييف الحقائق أو بتهويل الوقائع والأحداث، مللنا صحافة الإثارة بأنواعها وأشكالها، تماما مثلما مللنا منابر الحوار على أمواج الإذاعات والقنوات التلفزيونية التي كثيرا ما تحوّلت إلى حَلْبات للصراع العقيم والتنابذ المقيت، بدل أن تكون فضاء لتلاقح الأفكار وللإثراء المتبادل، باعتبار أنه ليس من حق أيّ كان الادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة، وأن قانون النسبية يسري على الأفكار والمواقف تماما مثلما يسري على نواميس الكون.
إن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، وأمّا الزبد فيذهب جُفاء، وقد تظلّ سوق الصحافة المبتذلة رائجة لوقت يقصر أو يطول بفضل المال المشبوه أو المتاجرة بالغرائز والأحاسيس، وحتى إن بقيت مجلة "ليدرز" في صيغتيها العربية والفرنسية وحدها أو رفقة عدد قليل من زميلاتها كوسائل ملتزمة قولا وفعلا بإنارة العقول ونشر الوعي وترسيخ روح التعايش والتسامح، فذلك مبعث فخر لها وللقائمين عليها، وفي ذلك أيضا ما يجلب لها تقدير القارئ العادي الذي ينبغي الاعتراف له بأنه راشد يستحق التعامل معه بما له على الصحافة من حقوق وفي مقدمتها الحق في الشفافية والنزاهة الفكرية والكلمة الصادقة التي غايتها الأسمى خدمة الصالح العام قبل السعي إلى الكسب المادي وإن كان مشروعا.
- اكتب تعليق
- تعليق