الطلياني نصًّا و ظاهرة
"حرّرت روايةُ الطّلياني المشهد الثّقافي من أسْر الشّيء المُعتاد، فقد لفتت الأنظار إليها منذ صدورها وفنّد إقبال القُرّاء عليها مزاعم النّاشرين والكُتّاب عن المجتمع الذي لا يُقرأُ خارج الدّوافع المدرسيّة، وحصدت في نفس الفترة الزّمنية جائزة «الكومار الذّهبي» للرّواية التُّونسيّة وجائزة الإبداع الأدبيّ لمعرض الكتاب الدّوليّ قبل أن تفوز بجائزة «البوكر العالميّة للرّواية العربيّة»، فأصبحت أوّل روايةٍ تونسيّة تحظى بتتويج عالميّ من هذا النّوع. وبين كتابات مُتحمّسة وأخرى مُشكّكة تحوّلت روايةُ الطّلياني إلى ظاهرة ثقافيّة تمتزج فيها أصوات النّقد والإيديولوجيا في تجاذب مُتوتّر بين داخل النّص وخارجه، أصواتٌ تعالج من زوايا مختلفة السّؤال الذي لا يقع بالضرورة في مجال النّقد الأدبيّ حول وصفة النّجاح هذه، عمّ يجعل الأثرَ الأدبيَّ حدثا قائما بذاته وعلامةً فارقةً؟"
يذكر ظاهرةُ «الرّواية الحدث» بنماذج أخرى مشابهة في الفضاء الإبداعيّ العربيّ، فقد اجتذبت «الخبز الحافي» عند صدورها باللّغة العربيّة في بداية الثّمانينات ما لم تنلهُ روايةٌ أخرى من الاهتمام لدى جمهور القُرّاء والنقّاد على حدّ سواء، وكذلك حقّقت روايةُ «ذاكرة الجسد» في التّسعينات نجاحا كبيرا وتعدّدت طبعاتُها قبل أن تتحوّل إلى عمل تلفزيوني. وكما حدث مع محمّد شكري وأحلام مستغانمي كانت الطّلياني الرّواية الأولى في مسيرة كاتبها، و مع الرّوايات الأولى التي تُحقّق نجاحا غير مُتوقَّع تتحرّك ردودُ الفعل بالإيقاع نفسه و تتكرّر الأسئلة ذاتها: ما علاقة السّارد بالشّخصيّة و هل الرّواية سيرةٌ ذاتيّة؟ كيف كُتبت الرّواية و لماذا؟ يجيب شكري المبخوت عن هذه الأسئلة بأن الطّلياني كُتبت في فترة قصيرة دفعةً واحدةً، و يتمثّل بقول «يحيى حقّي» عن إحدى رواياته «خرجتْ كالطّلقة»، أمّا عن اقتحامه عالم الرّواية و هو الجامعيّ المهتمُّ بعلوم اللّغة و النّقد الأدبي، فقد حدث ذلك كما يقول في غمرة سياق فيه كثيرٌ من الآمال و المخاوف مُتحدّثا عن الفترة الانتقاليّة التي عاشتها البلاد إثر انتخابات 23 أكتوبر 2011 .
هكذا يضعنا شكري المبخوت بنفسه على أوّل الطّريق لفهم الظّاهرة وتفكيك أبعادها الأدبيّة والسّوسيولوجية، وهي أبعادٌ تحيلُ على ذات السّارد من جهة وانتظارات القُرّاء من جهة ثانية. ويتردّد صدى ذلك في حيثيّات جائزة البوكر حيث لم تُغفل اللّجنة أنّ هذه الرّواية هي الأولى في تجربة كاتبها بقولها: «بداية شكري المبخوت كصاحب رواية أولى مدهشة كبداية روايته ذاتها» بما يعزّز التّداخل بين الكاتب ونصّه، بين متن الرّواية وحاشيتها.
التاريخ قاعدة للمتخيّل الروائي
و يتجسّد هذا التّداخل في خطّة سرديّة تقوم على التّفاعل بين الذّات و واقعها، يؤكّد ذلك الكاتبُ بقوله: «ثمّة تفاعل بين السّياق الاجتماعي و السّياسيّ و الثّقافيّ وبين الجانب الفرديّ الحياتيّ الحميميّ، فالرّواية هي اتصال و انفصال و تفاعل بين هذين الجانبين» و قد اعتبرت حيثيّات التّتويج هذا التّفاعل «تناولا بارعا لارتباك العالم الصغير للأفراد و العالم الكبير للبلاد».
من ثمّة يبدو أنّ حجر الزّاوية في ظاهرة «الطّلياني» هو تقيُّدها بالتّاريخ السّياسي التّونسي و تناولُها فترةً مُحدّدةً تمتدُّ من نهاية الثّمانينات إلى بداية التّسعينات فيما سُمّي «سيرة اليسار» بمختلف مُكوّناته. تلك الفترة التي شهدت نهاية حكم بورقيبة وتولّي بن علي السّلطة لم تظهر من قبلُ في الرّواية التّونسية بوضوح الاّ في «حارة السُّفهاء» لعلي مصباح الذي نحا منحى الواقعيّة السّحريّة في تناوله هذا الحدث و عالجه بكيفيّة امتزجت فيها العجائبيّةُ بالكوميديا السّوداء. أما المبخوت فقد جعل من التّاريخ قاعدة للمُتخيَّل الرّوائيّ كما يحدث عادة في الرّواية التّاريخيّة، غير أن قِصر المسافة بين زمن الحَكْي وزمن الكتابة يُرجّح السّمة الواقعيّة، يتجلّى ذلك من خلال قرائن مثّلت إحالاتٍ مرجعيّةً تتراوح وظيفتها من مجرّد الوصف (قدوم بوك علي إلى العاصمة يوم النّصر في جوان 1955) إلى تشكيل ملامح الشّخصيّات الأساسيّة وتجذيرها في بيئتها الفكريّة (مؤتمر اتحاد الطلبة في قربة 1972 و أحداث الخميس الأسود 1978 و ثورة الخبز 1984 ...الخ)، بل ويُلحّ الكاتب في نسبة أبطاله إلى الزّمن التّونسيّ عندما يشير إلى صدور الملحق الأدبيّ يوم الخميس الثالث من سبتمبر سنة 1987 ومناقشة زينة بحثَها الجامعيَّ يوم الأربعاء 16 سبتمبر بقاعة صالح القرمادي دون أن يكون لتحديد التّاريخ من قيمةٍ غير التّمهيد للحدث المفصليّ (7 نوفمبر 1987) الذي سيقع بعد شهرين فقط من تلك الأحداث.
كما تَجسَّد تقييدُ المخيال في وضع الأحداث داخل أمكنة حقيقيّة معلومة منها كلّية الحقوق وكلّية 9 أفريل وباب بنات ومكتبة شارل ديغول وحانة الشّيلنغ والرّوتندة الخ. سيدفع هذا التّطابق بين الفضاء الرّوائيّ و العالم الخارجيّ إلى الإيحاء بأننا إزاء رواية تسجيليّة تُوثّق، فتختلف مستويات تقبّلها حدّ التناقض، كأن يتعلّق بها أكثرَ مُجايِلو المبخوت إذ تُولّد لديهم الإحساس بأنها تتحدّث عنهم وأنهم قد التقوا في يوم ما عبد النّاصر الطّلياني أو زينة في مكان ما و لم ينتبهوا إليهما، بينما تبدو لبعض القرّاء «منزوعة الخيال»، ويُفسّر الكاتب المصريّ أحمد ابراهيم الشريف ذلك بقوله: «الطّليانى رواية لا تثير حزنا أو فرحا، تمرّ الأحداث و تتالى دون أن تورّطك معها بالحبّ و لا بالكراهيّة دون أن تجعلك جزءا من الحكاية، دون أي أثر عاطفيّ».
شخصيّات من لحم ودم
هذا الموقفُ مناقض تماما لما ذهب إليه الكاتب التونسيّ ناجي الخشناوي في قوله: «نكتشف أن الأسماء تنفلت من كونها علامات لغويّة عابرة في سياق سرديّ، لتحيلنا على شخصيّات من لحم و دم عاشت فترة الثّمانينات و التّسعينات و تأقلمت مع متغيّاتها كلّ على طريقته، بين الانصهار و قبول الاحتواء أو البقاء على الرّبوة و الهامش» و هو الموقف ذاته الذي نجده في حيثيّات جائزة البوكر حينما اعتبرت اللّجنة شخصيّة زينة «إنجازاً فنياً فريداً تمتزج فيها الثقة و الارتباك و الشراسة والشّغف و التّماسك و الانهيار... شخصيّة لا نمطيّة لأنها مكتوبة أثناء عمليّة الكتابة لا قبلها»،
هذا الموقف يُحيل على واحدة من أهمّ خصائص الرّواية أعني الخلق الفني، ومن دلائل إعجازه أن ينفخَ الكاتبُ من روحه في الشّخصيّة المُتخيّلة فتبدو للقارئ نابضة بالحياة.
وكلُّ الرّوايات العظيمة تركت في خيال القارئ نماذج انسانيةً مُميّزة. لكنَّ المبخوت جعل من بعض الشّخصيّات صورا مطابقة لأشخاص حقيقيّين بل وأحال إلى بعض هؤلاء بجزء من الاسم، فلم يتوقف ارتباطه الوثيق بالتّاريخ عند الزّمان و المكان بل تعدّى ذلك إلى الشّخصيّات الفاعلة في تطوّر وعي عبد النّاصر الطّلياني و مساره و من أهمّها شخصيّةُ رئيس التّحرير، مما سيخلق لدى بعض القُرّاء فضولا لمعرفة هؤلاء الأشخاص في الواقع سيّما و أنّ المبخوت قد عاش تجربة الكتابة الصّحفيّة والملحق الأدبيّ في دار لابراس كما فعل بطله عبد النّاصر الطّلياني الذي ينكر أن يكون صورةً منه دون أن ينفي تماما أن يكون ناطقا باسمه في بعض الصُّور.
رواية ٲم سيرة ذاتيّة ؟
- اكتب تعليق
- تعليق