منجي الزيدي: المـــنـافقــــون

منجي الزيدي: المـــنـافقــــون

يعيش المجتمع التونسيّ تحت صدمة البناية المشبوهة في مدينة «الرڤاب» حيث تمّ احتجاز أطفال صغار، بإرادة ذويهم، ومن ثمّ تعرضّهم للتّعنيف والاغتصاب الجسديّ والفكريّ بدعوى التّفرغ لحفظ القرآن الكريم. ومرّة أخرى يتبيّن بما لا يدع مجالا للشّك أنّ من أكبر المصائب التي قد تحلّ بمجتمع من المجتمعات هو التّستّر بالدّين لخدمة أغراض وأهداف دنيئة وقذرة. ذلك أنّ توظيف المقدّس لتحقيق مآرب الدّنيا المدنّسة هو المعنى الأصليّ والإجراميّ للنّفاق. ولقد توعّد الله تعالى المنافقين بعذاب أليم. و قال عزّ وجلّ: «إنّ المنافقين يخادعون الله» (النّساء 142) و قال أيضا «والله يشهد إنّ المنافقين لكاذبون» (المنافقون1).

النفاق في لســان العرب إظهار غيـر مــــا في البــــاطن. والكلمــة مستعـــــارة من سلــوك اليــربـــوع إذ «النّــــافِقــــاء هـي إحدى جحور اليربـــوع يكتمها ويظهـر غيرها...» والمنافق كاليربوع «يدخل من النّافقاء ليخرج من القاصعاء»...وقــالت العرب «للمنــافق ســــرّ دونه نفق»...ومنهـــا استمدّ المعنــــى الدّيني للنّفاق وهو إظهار الإيمان وإضمار الكفـــر، وكذلك معنــى التخفّي بالدّين للغـــدر والخــــديعة، وجــاء في كتاب مجمـــع الأمثال للميداني «أَكثِـــر من التّـــسبيح يغترّوا» ويقصد به نافق بإظهار الورع حتّى يثق بك النّاس فتخدمهم. وجاء في الأمثال العربية أيضا «فم يُسبِّح و يد تُذبِّح»...
والنّفاق موضوع حاضر في الأدب والفنّ منذ القديم. و لقد مرّت يوم 5 فيفري الماضي 350 سنة على السّماح (لموليار) بعـــرض مسرحيــة «تارتوف» Tartuffe مجدّدا بعد منعها من قبل الملك لويس الرّابع عشر لأكثر من خمسة أعوام إرضاءً للكنيسة التي استشاطت غضبا من شخصية بطــل المسرحية السّاخرة. ذلك أنّ «تارتوف» رجــل دين يتظاهر بالورع والتّقوى وهو في الواقع محتال يسعى إلى إشباع شهواته الدنيويّة الوضيعة... ومن ذلك الوقت صار «تارتوف» رمزا للنّفاق اخترق العصور إلى يوم النّاس هذا. حتى أنّه ليُخيَّل إلينا هذه الأيام أنّه يعيش بين ظهرانينا يقاسمنا حياتنا ويطل علينا من وسائل اتصالنا ويؤثّر في معاملاتنا وأوجه نشاطنا وعلاقاتنا ...

وكان جبران خليل جبـــران في كتـــاب «الأجنحة المتكسّرة» قد جسّد المنافق في «رجل يتألّف في شخصه الطّمع بالرّياء والخبث بالدّهاء، وهذا الرجل هو مطران تسير قبائحه بظلّ الإنجيل فتظهر للنّاس كالفضائل». واستعار أحمد شوقي من عالم الحيــوان شخصــية الثّعلب ليصف بها المنافق حيــن يبرز للنّاس في شعـــار الواعظين، محذرا أنّه مخطئ مـــن ظنّ يوما أنّ للثّعلب دينا.

والمنافق في الفرنسية Hypocrite وأصل الكلمة إغريقي ويعني الممثّل المسرحيّ، وبالتّالي فإنّ شخصا يحمل قناعا ويقدّم نفسه على غير حقيقتها. وهو مخادع وصاحب أكثر من وجه، ونحن في لغتنا العامية نسمّيه «أبو وجهين»، يُبدي شيئا ويخفي عكسه، يلعب على الحبال ويلبس لكلّ حالّ لبوسها، و يميل مع النّعماء أين تميل.  إنّها شخصية مُركّبة وعجيبة، تمتلك قدرة خارقة على التّملّق «تتمسكن حتّى تتمكّن»، تتسرّب كالأفعى تطرح جلدا وتكتسي آخر، تتخفّى في الظلام، تتلوّن بلون التّربة التي تندسّ داخلها وعندما تحين الفرصة تسدّد ضربتها السّـــامة دون أن يــــرفّ لها جفـــن. لذلك كان للنّفاق مرادفات عديدة أبرزها الاحتيال والخديعة والغدر...إنّه خـــلاصة مُركّزة لأسوأ ما في الذّات البشرية الشّريـــرة...
وإذا كان النّفاق سلوكا اجتماعيا مَرَضِيًا يعكس اهتـــزازا نفســيّا وانفصاما في الشخصية فإنّه يجـــد في السّيـاسة سوقا نافقة. فالسّياسة تقــــوم على المصالح وحســابات الرّبح والخسارة، والعبرة فيها بالنتائج الملموسة، وبالتالي فهي قليلا ما تكترث بالقيم والأخلاق...فكلّما اقتضت المصلحة الخاصّة يتحوّل صديق الأمس فجأة إلى عدوٍّ لدود وينقلـــب محترفو التّملّق والتّزلّــف بين عشية وضحاها إلى قادة وزعماء، هذا إذا لم يَدَّعُوا أنّهم من جنس الملائكة...

ومـــــن أبــــــرز مـــظاهــر النّـفــاق السّيـــاسي السّلـــوك الشّعبـــوي الــذي يستثمر في معاناة البسطاء والضّعفاء والمحرومين، ولا يتجاوز حدود الخُطَب والشّعارات ولا يجد له تجسيما في الواقع. ومن هذه الزاوية الشّعب لا يعدو كونه أصلا تجاريا لدى من يتاجـــرون بآلامــه وأحلامه. وقد صحّ أن الشّعبويين يقولون ما لايفعلون.

ومن مظاهـــر النّفــــاق السّياسي تغيير المواقف والتّخلي عن المبادئ كلّما اقتضت المصلحة «السيــاســــوية» ذلك. والتّنكر للمبادئ والنّكث بالعهود إذا تعلّق الأمر بتحقيق مصالح ضيّقة. فكم من سياسيّ تراه يُغيّر خطابه من النّقيض إلى النّقيض قبل أن يرتدّ إليه طرفه، ويلتمس الأعذار لما كان بالأمس يُدينه ويُشهّر به، وكم من سياسيّ ينقلب على عقبيه عند الشّدائد، ويمسح ماضيه بجرّة قلم.

الدّرجـــة الصّفر مـــن النّفـــاق تفاعل اجتماعيّ يهــدف إلى تسهيـــل الاندماج وتيسيـر العـــــلاقات والمعاملات، ولكنّه يتحوّل إلى شرّ مستطير إذا ما طال الدّين والسّياسة...                                                                                           

منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.