احميده النيفر: »قُـــمْ للمعـلّـم«... بـاخــتـلاف السّياقـــات

احميده النيفر: »قُـــمْ للمعـلّـم«... بـاخــتـلاف السّياقـــات

1 - يذهب الظنّ بالبعض وهو يتابع ما عشناه هذه الأيام من توتّر متصاعد موصول بما يجري في المؤسّسة التربوية في تونس من اضطراب بلغ حدَّ القول بتوقّع سنة بيضاء أنّ الأمر ليس في حقيقته سوى صراع سياسي استَشْرَتْ حِدّته للتأثير على الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية والتشريعية. مثل هذا الظنّ له ما يسوّغه عند قراءة مسيرة المؤسّسة التربوية الحديثة والمعاصرة فضلا عن القديمة لكنّه يبقى رغم ذلك بحاجة إلى تنسيب هامّ عند اعتبار مسألة السياق ومكوّناته.

2 - إذا انطلقنا ممّا جرى في هذا الموسم التعليمي خاصة فإنّ التصعيد بين النقابة والحكومة له عوامل موضوعية موصولة بالمجال التعليمي المهني والاجتماعي. لكنّه لا يمكن أن يُغفل اعتبارات سياسية اجتماعية هامّة لا يخطئها المتابع نذكر منها عنصرين اثنين.

يتعلّق الأوّل بالمكانة المُكتسبة للاتحاد العام التونسي للشغل نتيجة حضوره الذي رجّح إنجاح ثورة 2011 وما انجرّ عن ذلك من مصداقية سياسية وازنة انضافت إلى تاريخ ممتدّ وعتيد جعلت من الاتحاد أحد أهمّ القوى المنظمة الفاعلة في المجال السياسي الاجتماعي الجديد. ذلك   ما سيتأكّد لاحقا مع تزعّم معارضة الترويكا سنة 2013 وفي الحوار الوطني الذي أعقبها وما تلاه من ملفّات عالقة كان من أهمّها الملفّ التربوي. على هذا فلا غرابة إن لم تعد المطلبية الاجتماعية هي المشغل الوحيد الذي سيميّز نشاط الاتحاد. ذلك ما دفع بالبعض إلى القول بأنّ الاتحاد صار أقرب إلى «حزب جديد» دون تأشيرة حزب سياسي في حين أضاف آخرون أن الاتحاد تجاوز النضال الاجتماعي ليصبح قوّة مجتمعية لها استتباعات سياسية ترعى بها مكوّنات مشروع بديل لتونس.

3 - مقابل هذا يبرز العنصر الثاني في المجال السياسي الاجتماعي المرتبط بالمسألة التربوية. يكشف هذا العنصر دخول تونس بعد الثورة في طور انتقالي لم تتهيّأ له بصورة حقيقية رغم أنّ قسما هامّا من شبابها ونخبها الوطنية وقوّاها الاجتماعية الصاعدة كانت تتطلّع إليه وتناضل من أجله. جانب من حصيلة السنوات التي تلت 2011 أفضت إلى تأرجح عموم التونسيين بين خيبة أمل في الطبقة السياسية وأحزابها وأدائها وبين اعتناء واضح بالرهانات السياسية وتعدّدها ومشروعيتها. ذلك بيّنته الانتخابات البلدية الأخيرة في مفارقة لافتة تتطلّب بحثا وتشريحا عميقين. لقد اتّسعت، من جهة، دائرة العزوف الانتخابي بعدم توجّه أغلبية من الناخبين المسجّلين إلى مراكز الاقتراع وبرزت، من جهة أخرى، القائمات المستقلّة بما تحمله من دلالات الإقبال على الانخراط في العمل السياسي المحلّي وفي مقتضياته المستقبلية.

جماع هذين العنصرين يؤشّر على مصاعب حقيقية تتربّص بالانتقال الديمقراطي في تونس نتيجة تراجع نتائج الأحزاب وضعف عرضها السياسي إلى جانب ما ينتظم المحيط الجيو-سياسي من اضطراب يهدّد المشروعية الديمقراطية بصورة جديّة.

4 - يضاف إلى هذا التشخيص الحراكُ الذي ميّز المجال التربوي، بعد صدور دستور 27 جانفي 2014، والذي عبّرت عنه جهود إصلاحية حَريّة بالدرس. ضمن هذه المساعي يبرز مشروعان متوازيان جديران بالاهتمام: الأوّل مثّل الوجهة الرسمية في فترة إشراف الوزير السابق للتربية، ناجي جلول، بينما نجم الثاني عن نشاط مدني جمع حوالي 250 جمعية تربوية وثقافية وحقوقية وتنموية اعتنت بإعادة بناء المنظومة التربوية.

تتبيّن من مضمون المشروع الأوّل بمخطّطه الاستراتيجي ومخرجاته عنايتُه بالأهداف الاستراتيجية العامّة والخاصّة مع حرص على مقتضيات التحسين المستمر. مع ذلك فالمشروع لا يكاد يهتمّ بما تتطلّبه المؤسّسة التربوية في السياق السياسي والحضاري الجديد من إصلاح واضح المعالم والغايات ومن قابلية التطبيق والتقييم والمتابعة. يُستخلص من هذا أنّ أهمّ  ما يميّز مدرسة 2020 التي جاء المخطط الاستراتيجي القطاعي التربوي 2016 - 2020 ليضع قواعد فضاءاتها وهيكلتها وأنشطتها ومستوى شهاداتها العلمية إنّما هو السعي للتناغم مع المعايير والتوجهات الدولية والاستجابة لاشتراطاتها.

بالمقابل فإن الائتلاف المدني لإصلاح المنظومة التربوية اتّخذ وجهة مغايرة بيّنها في وثيقة « الكتاب الأبيض لإعادة بناء المنظومة التربوية». اختلاف هذا المشروع عن السابق هو إيلاؤه السياق السياسي والحضاري مكانة بارزة تحتكم إليها مرجعيّة مشروع الائتلاف ورسالته وتحدّياته ورهاناته. هو لذلك يعتبر أن إصلاح المنظومة التربوية وإن أوجب الاستفادة من رصيد التجارب التربوية الناجحة والمتميّزة عالميا فهو لا يمكن أن يستورد النماذج التعليمية الجاهزة من الخارج المُفضية إلى تطويع متصنّع للمنظومة الوطنية وخرّيجيها. مؤدّى ذلك أنّ مجمل أيّ مشروع إصلاحي بأهدافه الاستراتيجية وبرامجه العملياتية والتنزيلية وما اتّصل بمختلف مجالاته البيداغوجية والمعرفية وموارده البشرية والمالية لا ينبغي أن ينفصل عن كونه رافعة للسيادة الوطنية وللإبداع الفكري والثقافي وفق السياق الجديد الذي أفرزته الثورة مع اعتبار مجمل التحوّلات الإقليمية.

5 - يتبيّن من هذين المشروعين أنّهما رغم حرصهما على الإصلاح وعلى تقرير قيمة «قم للمعلم» فإنّ أولوياتهما اختلفت بناء على ما ذهب إليه الأوّل من إصلاحات موضعية في حين اعتبر الثاني أنّ «قم للمعلم» تحتاج إلى إصلاحات كبرى قابلة للتنزيل في سياق جديد يلحّ الواقع الوطني في طلبها.

بهذا يصبح التساؤل الرئيسي المتصل بالنضال المطلبي للمؤسّسة التربوية العمومية الذي نعيشه في تونس 2019 هو: أيّ علاقة لهذا النضال النقابي بالسياسة الوطنية ومفاعيلها وبما يمكن أن تثمره من تعاقد اجتماعيّ ثقافيّ جديد؟ وهل يمكّن هذا من تنشئة جيل بمنظومة قيم فاعلة ووعي حضاري وسياسي قادر على استيعاب السياقات الوطنية والخارجية وما يواكبها من القوّى المالية الدولية وعلى تحمّل مسؤوليته حيالها؟

لهذا فإنّ ما يعتري المؤسّسة التربوية من تجاذب وخلاف حادّين لا يمكن أن يُفسَّر بالبعد الواحد المطلبي الاجتماعي أو الانتخابي الذي تغذّيه سنة 2019 بمتاعبها متوقّعة. ذلك أحد مستويات تفسير المشهد الذي نعيشه اليوم.

لكنّ خصوصية الفترة الانتقالية التي نعيشها في تونس بعد ثورة 17 - 14 إنما تتحدّد في بحث دؤوب للخروج عن التنميط الذي ساد مراحل انسداد الآفاق السياسية واستفحال ظاهرة الفساد والتسلط. هو بحث موصول بمستوى آخر من مستويات أزمة الملف التربوي وسياقاته لأنّ الحاجة فيه إلى فكر نقدي تطويري أكيدة بينما السعيُ إليه يظلّ متعثرّا في تونس وهو في أقطار عربية في أسوء حال. من هذا الإشكال يسهل الوقوع في فخّ التفسير بالبعد الواحد المتجاهل لعلاقة التعليم والتربية بمستويات نضالية نقابية وأخرى فكرية ومرجعية وثالثة سياسية انتخابية الجامع بينها المستوى العمراني الحضاري.

6 - اللافت للنظر في هذا التوجّه العمراني الخلدوني إقراره بمقولة «قم للمعلّم» لكن بتنزيلها منهجيا فيما يوليه للتربية من ارتباط بصورة عضوية بأساسيات نظم العمران وأنّها هي والتعليم يمثّلان أبرز وجوه التمدّن. معنى ذلك أنّ المؤسّسة التربوية كانت وستظلّ عامل مناعة وارتقاء لكلّ تجمّع متمدّن واعٍ بأهمية المؤسّسات المجتمعية والثقافية ومقدّر لطبيعة الفكر الذي تعتمده. بهذا الوعي العمراني وبما يستتبعه من تنظيمات وإجراءات تتولّد فاعليةُ الأفراد وحيويّة الجماعات التي تقدّر العلم وتبجّل سائر القائمين عليه. «قم للمعلّم» تتجاوز بذلك المعنى الأَوَّلي الشكلي بإظهار علامات الإجلال والتوقير من قبل التلميذ والطالب إزاء معلّمه وأستاذه. عند مراعاة المستوى العمراني للمؤسّسة التربوية يتّسع معنى الاحترام الواجب في المؤسّسة التعليمية بتمكين النخب من الإجابة السديدة عن التساؤلات العميقة التي لا تفتأ تُطرح عن عوامل التوقّف الإبداعي الذي يهدّد المجتمع في هويّته الفردية والجماعية.

7 - تتّضح الأهميّة المنهجية لهذا التوجّه التركيبي في تونس اليوم في تصدّيها بصورة لافتة لمصاعب كبرى فرضتها تحوّلات تاريخية نوعية، خاصّة في الحقل التربوي. ذلك أنّه يواجه من بين ما يواجه ظاهرة الفردانية الجديدة التي تفرض سؤالا إشكاليا يتعلّق بالحقل التربوي وهل هو قادر على التعامل مع أفراد طامحين أكثر لتدعيم استقلاليتهم وتطوير مسؤولياتهم وتأكيد اعتبارهم الذاتي؟ بتعبير آخر: هل نواصل مع مدرسة من أجل المجتمع أم نتّجه نحو مدرسة من أجل الأفراد؟  يضاف إلى هذا أنّ نفس هذا المجال التربوي يعيش زمن انقلاب المعارف والتقنيات إذ لم يعد المعلّم أو الأستاذ قادرا وحده على تقديم الافادة المرجوة التي يريدها المتعلّم.

هو مفترق طرق كبير أمام المؤسّسة التربوية ومن يعمل على إصلاحها فعلا كان نبّه ابن مسكويه (تـ 421هـ / 1030م) إلى بعض من تعقيداتها في كتابه «الحكمة الخالدة» حين قال: إن المعلِّمَ ليس أقلّ انتفاعا بالعلم من المُتَعلِّم.

د. احميده النيفر
جــامعــي وعضــو بيت الحكمة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.