"حالة الفراغ المغاربي" وتأثيراتها على مواجهة التحديات المستجدّة في المنطقة المغاربية

"حالة الفراغ المغاربي" وتأثيراتها على مواجهة التحديات المستجدّة في المنطقة المغاربية

اليوم الأحد 17 فيفري 2019، تحلّ الذكرى الثلاثون لتأسيس اتحاد المغرب العربي الذي يعاني، منذ عدّة سنوات، من حالة شلل تام أو ما يمكن وصفه بحالة موت سريري، وبهذه المناسبة، ينشر موقع "ليدرز العربية" نص المداخلة التي أسهم بها السفير السابق محمد إبراهيم الحصايري في أعمال الندوة التي احتضنها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية يوم الجمعة 08 فيفري 2019 حول "الرهانات الجغرا-استراتيجية الكبرى في جوار تونس".

وقد جاء في هذه المداخلة التي حملت عنوان: ("حالة الفراغ المغاربي" وتأثيراتها على مواجهة التحديات المستجدة في المنطقة المغاربية)، ما يلي:

إن هذه المداخلة تهتم بالبحث في تأثيرات "اللامغرب" أو "حالة الفراغ المغاربي" على مواجهة مجمل التحديات الناشئة عن المتغيّرات العميقة التي شهدتها منطقة المغرب العربي ودولُها، لا سيما خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وهي تحديات  متعددة ومتنوعة تتأرجح بين السياسي والأمني والتنموي والاقتصادي والثقافي الاجتماعي، وقد جاءت هذه التحديات لتنضاف إلى التحديات القديمة التي يتمثل أهمها وأبرزها في حالة الجفاء وأحيانا التوتّر، المزمنة التي تتسم بها العلاقات بين المغرب وبين الجزائر، بسبب استمرار خلافهما حول قضية الصحراء الغربية الذي تتفق التحاليل على أنه ما فتئ يعطل العمل المغاربي المشترك.

ويتمثل المتغيّر الأكبر الذي طرأ على المنطقة المغاربية في السنوات الأخيرة فيما سمّي بثورات الربيع العربي التي انطلقت شرارتها من تونس في نهاية سنة 2010 وبداية سنة 2011 وامتدت إلى العديد من الدول العربية.

وهذا المتغيّر الذي يمكن وصفه بالرئيسي والذي بدّل المشهد العربي بصورة عميقة، أدى على الصعيد الاقليمي إلى نشأة عدد كبير من المتغيّرات الفرعية الأخرى، التي يمكن أن نجملها فيما يلي:

1 -  الوضع المعقّد في ليبيا: حيث تتواصل حالة الاحتراب والاضطراب والفوضى التي ما يزال الليبيون يعيشونها منذ ثماني سنوات، وقد انعكست هذه الحالة على دول الجوار بأشكال مختلفة نتيجة لعدة عوامل من أهمها انكفاء الدولة، وفقدانها القدرة على بسط نفوذها على مجالها الترابي وعلى حدودها، وتسرّب وتمركز العديد من التنظيمات والجماعات الإرهابية في ارجائها، وازدهار أشكال مختلفة من الأنشطة غير المشروعة كالتهريب وتجارة الأسلحة والاتجار بالبشر والهجرة العشوائية وغيرها..

2 - تفاقم ظاهرة الإرهاب: إن نشأة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، واحتلاله لأجزاء هامة من الأراضي العراقية والسورية، أديا إلى تفشّي الإرهاب لا في المشرق العربي وحده وانما في المغرب العربي أيضا، خاصة وأن ليبيا تحولت في مرحلة ما الى نقطة تجمّع وإعداد للعناصر الراغبة في الالتحاق بالتنظيم، ثم في مرحلة ثانية، إلى مأوى لقسم من فلوله الفارّة بعد هزيمته في العراق وسوريا.

ومثلما استغل هذا التنظيم الوضع المضطرب في العراق وسوريا فانه استغل حالة الفوضى في ليبيا وهشاشة الأوضاع في عدد من دول الساحل والصحراء ليتمدد ويتمركز، حيثما أمكن، في المنطقة المغاربية ومحيطها.

ويشكل وجود تنظيمات إرهابية في ليبيا وفي بعض دول الساحل والصحراءمصدر قلق وانشغال كبيرين لدول المنطقة المغاربية خاصة وأن بعض العناصر الإرهابية التي سافرت منها بأعداد متفاوتة، الى بؤر التوتر، قد تعود إليها لتواصل أنشطتها الإرهابية فيها.

3 - تفاقم ظاهرة الهجرة غير الشرعية: حيث تحوّلت هذه الظاهرة إلى إشكالية مركّبة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، إذ أنها باتت تشكّل مصدر انشغال وحتى احتكاك بين الأطراف الثلاثة المعنية بها، أي دول المصدر (الدول الافريقية) ودول العبور (دول المغرب العربي وهي في ذات الوقت دول مصدر) ودول الاستقبال (الدول الأوروبية).

ونتيجة للتباينات القائمة في مقاربة كل من هذه الأطراف الثلاثة لهذه الإشكالية والى الطرق التي ترى أنها كفيلة بمعالجتها، فإنها ما فتئت تلقي بظلالها على العلاقات بين الدول المغاربية وبين الدول الاوروبية من ناحية، وبينها وبين الدول الافريقية من ناحية أخرى...

أما مع الدول الأوروبية فلأن هذه الدول تريد أن تحوّل دول المغرب العربي وشمال إفريقيا عموما إلى مراكز لتجميع وفرز المهاجرين الأفارقة.

وليس هذا فحسب فبعضها يدعو حتى إلى توطين بعض اللاجئين منهم في الدول المغاربية.

وأما الدول الافريقية فإنها تعيب على الدول المغاربية معاملتها للمهاجرين الأفارقة، وقد تجلى ذلك بكل وضوح في الضجة الدولية التي ثارت في أواخر سنة 2017 على إثر ما سمي بعودة الاستعباد في ليبيا.

4 - تفاقم ظاهرة التهريب: بالإضافة إلى الأضرار الفادحة التي تلحقها باقتصادات الدول المغاربية، فإن أخطارها عديدة بالنظر إلى التقاطع بينها وبين ظاهرة الإرهاب، حيث أن التنظيمات الإرهابية تستعين بعصابات التهريب من أجل الحصول على جانب من التمويلات وحتى الأسلحة التي تحتاجها في أنشطتها، كما انها بالتجائها إلى الرشوة، تتسبب في انتشار الفساد وفي افساد أجهزة الامن الحدودي مما يؤدي إلى إضعاف نفوذ الدول ويفرض عليها أعباء إضافية، لأنها تجد نفسها مضطرة لتعزيز جيوشها وأجهزتها الأمنية من حيث العدد والعتاد باعتمادات مالية ضخمة، عادة ما يتم تخصيصها على حساب الجانب الاجتماعي، والخدمات العمومية (التعليم والصحة ومكافحة البطالة والفقر).

وإلى ذلك فإنها قد تتسبب في تعطيل التعاون بين الدول لأنها تدفعها الى التعامل مع بعضها البعض بحذر...

5 - طغيان النزعة الانفرادية على سياسات الدول المغاربية: والمقصود بذلك أن كلا من الدول المغاربية اتجهت، في غياب اتحاد المغرب العربي، إلى تعزيز علاقاتها الثنائية مع دول جنوب الصحراء ومع المجموعات الجهوية الإفريقية بحثا عن متنفس اقتصادي وتجاري بديل.

ومن أخطر ما يخشى من هذه النزعة، في حالة استمرارها وتجذّرها، أن تضيّق من مساحة المشترك بين الدول المغاربية وشعوبها وأن تفضي إلى "قتل" الأفق المغاربي.

6 - صعود التيار الديني (أو ما يسمى بالإسلام السياسي)، وتأثيره السلبي المحتمل على سيرورة الانتقال الديمقراطي في الدول المغاربية: حيث يخشى العديد من المحللين والمفكرين السياسيين أن يؤدي هذا الصعود إلى تذبذب التوجّه نحو الخيار الديمقراطي، وربما فشله والنكوص عنه في الدول المغاربية والعربية على حد سواء.

7 - بروز إشكالية التنوع السكاني في دول المنطقة المغاربية: ومما لا شك فيه أن هذه الإشكالية قديمة غير أن برزت بشكل أكبر وأوضح مع ما سمي بثورات الربيع العربي التي سمحت بهامش أوسع للتعبير، وقد زاده اتساعا توافر وسائل الاتصال الحديثة، وخاصة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي التي باتت تلعب دورا خطيرا في تمرير الأخبار والأفكار وفي التحرك والتحريك.
ويرى الملاحظون أن هذه الإشكالية تمثل خطرا على الكيانات الوطنية من جهة، وعلى الأفق الوحدوي الممكن، بين الدول المغاربية من جهة أخرى، خاصة إذا لم يقع الاهتداء الى إدارة التنوع إدارة نافعة وحكيمة.

8 - الانزلاقات المحتملة في مسارات انتقال السلطة في الدول المغاربية: ستشهد سنة 2019 انتخابات رئاسية في كل من الجزائر (افريل 2019) وموريتانيا (جويلية 2019) وتونس (نوفمبر 2019)، وتنطوي الانتخابات الرئاسية الجزائرية بالذات على رهانات كبيرة، بالنظر إلى أنها يُفتَرَض أن تؤدي إلى انتقال السلطة في هذه الدولة المؤثرة في المنطقة برمّتها.

9 - مخاطر التنافس الدولي على دول المنطقة: إن هذا التنافس قديجعل من المنطقة وقودا لأزمات إقليمية جديدة، ويرجع ذلك إلى أن القوى الدولية تريد التموقع فيها وفي محيطها، وقد يصل بها الامر إلى حد التدخل العسكري في بعض دولها وبالتحديد في ليبيا ان لم تتمكن الأطراف المتصارعة فيها من إيجاد أرضية مشتركة للتفاهم والتوافق على وضع حد للاحتراب فيما بينها.
وإلى ذلك، يرى الملاحظون أن هذه المتغيّرات الإقليمية التي عرفتها المنطقة المغاربية، تزامنت وتداخلت مع جملة من المتغيّرات العالمية التي يتمثل أهمها فيما يلي:
1 - عودة المجتمع الدولي إلى التعددية القطبية: حيث شهدت السنوات الماضية نهاية استفراد الولايات المتحدة بإدارة شؤون العالم، وذلك نتيجة لعودة روسيا كقوة فاعلة على الساحة الدولية، وبروز عدد متزايد من الدول الصاعدة على غرار الصين والهند ودول "البريكس" التي بدأت تتموقع وتعزّز مواقعها على حلبة المنافسة مع القوى الدولية التقليدية...

2 - بداية تشكل علاقات دولية جديدة على أسس مغايرة لما كانت عليه: ويظهر ذلك بوجه خاص في تنصّل الولايات المتحدة الامريكية من عدد متزايد من مواقفها السابقة ومن التزاماتها الدولية، مما قد يفضي إلى تقويض أسس التعاون متعدد الأطراف وهو ما يمكن أن يشكل تهديدا إضافيا لدول العالم الصغيرة على غرار دول المنطقتين المغاربية والعربية.

3 - احتدام التنافس على المنطقة العربية والقارة الإفريقية: وليس من المستبعد أن يتسبب هذا الاحتدام في تفجير بعض النزاعات في المنطقة المغاربية ومحيطها لا سيما أن ما وقع وقد يقع مستقبلا في المشرق والخليج العربيين، دعّم مواقع دعاة العودة إلى الأولوية العسكرية الأمنية في أجندة حلف شمال الأطلسي.

وغني عن البيان أن جملة هذه التحديات المستجدة تتطلب معالجة جديدة ... معالجة لا ينبغي أن تكون روتينية وعاطفية ومسكّنة للاوجاع، كما جرت العادة، وإنما معالجة مبتكرة وعقلانية وقابلة للديمومة، وقادرة على توظيف المؤهلات التي تزخر بها دول المنطقة التوظيف الأمثل حتى تعود بالنفع عليها جميعا، وحتى تنعكس إيجابا على علاقاتها مع مختلف شركائها في القارة السمراء، وفي الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، وفي مختلف أنحاء العالم.

ويلخّص الجدول التالي أهم هذه المؤهلات، كما يبين في المقابل أهم سمات الوضع الراهن في المنطقة نتيجة "حالة الفراغ المغاربي":

المؤهلات الوضع الراهن

100 مليون نسمة.
مساحة 5.8 كلم مربع (المرتبة السابعة بعد كندا وروسيا

وأستراليا والصين وامريكا والبرازيل).
400 ألف كلم مربع من الأراضي الزراعية (المرتبة الرابعة بعد

أمريكا والصين والهند).
60 مليار برميل احتياطي النفط المؤكد (المرتبة التاسعة عالميا).
6 تريليون متر مكعب احتياطي الغاز (المرتبة الثامنة عالميا).
حدود وثروات بحرية هائلة.
مؤهلات وسوق سياحية كبيرة.
جاذبية استثمارية قوية.

هشاشة اقتصادية واجتماعية.
فقر وتخلف.
أنظمة تعليمية واجتماعية مفلسة.
بطالة بنسبة 17 بالمائة في البلدان المغاربية مجتمعة.
هجرة متواترة.
ارتهان للمؤسسات المالية الدولية.
هامشية دولية.
عجز فادح امام العولمة.
ترتيب مخجل في سلالم التنمية ومؤشراتها.
خسارة تقدر بـ10 مليار دولار سنويا للامغرب.
فقدان 200 ألف موطن شغل سنويا.


وفي ضوء المفارقة التي يبيّنها هذا الجدول بين الممكن والمَعِيش، فإن على الدول المغاربية أن تدرك أن "حالة الفراغ المغاربي" باهظة الكلفة، وأن عليها أن نسارع بتجاوزها حتى تستطيع الخروج من وضعها الراهن.
وفي عجالة، يمكن تلخيص المطلوب اليوم في النقاط السبع التالية:

1 - إن المؤهلات الهائلة التي تتوفر عليها منطقة المغرب العربي يمكن وينبغي، بفضل إرادة سياسية جماعية صادقة، أن تتحول إلى رافعات تقدم وازدهار، ونمو وأمن واستقرار، لكافة شعوبها.

2 - إن التعاطي الجماعي المنسّق مع التحديات الماثلة، أمر ضروري ولا يمكن رفع هذه التحديات بدونه.
وينطبق ذلك أولا وقبل كل شيء على أسلوب معالجة الأزمة الليبية اذ نلاحظ ان الدول المغاربية بدلا من ان تعمل جماعيا وفي تناغم كامل على مساعدة ليبيا الدولة العضو في اتحاد المغرب العربي على الخروج من أزمتها، أخذت في منافسة بعضها البعض، فلم تفض تحركاتها إلى النتيجة المرجوة.

كما ينطبق ذلك على مكافحة الإرهاب في المنطقة، فلكي تكون هذه المكافحة ناجعة سيكون من الضروري أن تعمل الدول المغاربية على إحكام التنسيق والتعاون الأمني فيما بينها حتى تستطيع ان تحاصر العناصر الارهابية وأن تقضي عليها، وهو ما يصعب تحقيقه في ظل استمرار العلاقات بين المغرب والجزائر على حالتها الراهنة.

وعلى نفس الغرار، فإن دول المنطقة بحاجة إلى مراجعة أسلوب معالجتها لمشكلة الهجرة غير الشرعية، والى اعتماد مقاربة مغاربية منسّقة للتعاطي جماعيا مع الضغوط الأوروبية من ناحية، ومع الدول الافريقية وخاصة المجاورة منها من ناحية أخرى، علما بأن هذه المشكلة مرشحة لمزيد من التفاقم، بسبب التزايد السكاني في دول الجوار وفي افريقيا عامة...

3 - في الوقت الذي يسعى فيه الاتحاد الأوروبي الى التعجيل بإبرام اتفاقيات التبادل الحر الشامل والمعمق مع الدول المغاربية، سيكون من المفيد لها جميعا تنسيق مواقفها وتوحيد مطالبها،وإن أمكن اجراء مفاوضات جماعية مع الطرف الأوروبي، والاعتبار بما جرى من قبل حيث أنها ذهبت فرادى لتوقيع اتفاقيات الشراكة في تسعينات القرن الماضي، وقد كانت هذه الاتفاقيات في مجملها فاشلة.

4 - من المهم أن تدفع الدول المغاربية باتجاه مراجعة الأسس التي قامت عليها العلاقات المغاربية الاوروبية، وتشخيص المشاكل القائمة والتفكير جماعيا في السياسات التي ينبغي الاتفاق عليها وانتهاجها منأجل حلها.
5 - من المهم أيضا التفكير في توسيع مجموعة الخمسة زائد خمسة التي تجمع بين الدول المغاربية ودول جنوب أوروبا لتشمل دول الساحل والصحراء الخمس ولتصبح المجموعة "مجموعة خمسة زائد خمسة زائد خمسة".

وفي حالة تعذر ذلك يمكن للدول المغاربية ان تبادر بربط الصلة بمجموعة دول الساحل والصحراء قصد تكوين "مجموعة خمسة زائد خمسة مغاربية إفريقية".

6 - من الضروري العمل على مناقشة كافة المواضيع التي تهم المنطقة المغاربية وعدم الاقتصار على مسألتي الأمن والهجرة غير الشرعية، كما يريد الجانب الأوروبي.

7 - لا بد من البحث عن كيان مغاربي جديد يكون بإطار قانوني جديد وآليات عمل جديدة ووفق توجّه جديد، يمكّن من الارتقاء بالعمل المغاربي المشترك الى تكتل اقتصادي براغماتي، قائم على شراكة متوازنة، وعميمه النفع...

وخلاصة القول في الختام هي أن المغرب العربي فضاء قادر على أن يكون ذا دور فعال واستراتيجي، بفضل موقعه وثرواته الطبيعية والبشرية الكبيرة، وعليه أن يجسّم هذه القدرة على الميدان وفي أسرع وقت ممكن.

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.