أخبار - 2019.02.15

عبد الحفيظ الهرقام: في مواجهة الدكتاتورية الـــزاحــفـة

عبد الحفيظ الهرقام: في مواجهة الدكتاتورية الـــزاحــفـة

يبدو أنّ قدر التونسيين اليوم أن يعيشوا الصدمة تلو الأخرى. فبعد الأعمال الإرهابيّة التي تجدّ من حين إلى آخر وبعد أزمة التعليم التي أرّقتهم أشهرا طويلة وزرعت فيهم الخوف على مستقبل أبنائهم قبل أن تجد طريقها إلى الانفراج يفيقون هذه المرّة على هول فاجعة هزّت كيانهم وأثارت في نفوسهم مشاعر الغضب والاستنكار عندما اكتشفوا مدهوشين ما سمّيت زورا وبهتانا بـ «المدرسة القـرآنية» بالرڤاب، وكأنّهم أدركوا أنّه وراء حُجب أزمة سياسية واقتصادية  وماليّة خانقة تمرّ بها بلادهم يتخفّى داء دفين ينخر مجتمعهم ويتهدّد في الآن ذاته أمنه واستقراره ونمطه الحضاري. وعلى الرغم من علمهم بوجود مثل هذه المدارس المنتشرة في عديد جهات البلاد والتي تديرها وتموّلها في السرّ والعلن جمعيات «دعوية  وخيريّة» تتدثّر بعباءة تدريس العلوم الشرعية وتحفيظ القرآن الكــريم فإنّهم لم يكــونوا يتصــوّرون البتّة أن تبلــغ الانتهاكـات ضــدّ الأطفال هذا الحـدّ مــن القســـوة والفظاعة.

ولعلّ هذه الانتهاكات الجسيمة فاجأت أيضـــا الهياكل الحكومية وسبّبت لها حرجا بالغا لذلك انطلقت في حملة لغلق «المدارس» العشوائية وتحديد خارطتها وكشف الأطراف التي تقف وراءها، في حين كان عليها، قبل أن تحصل هذه الكارثة، أن تتسلّح بالحزم والشجاعة  في التصدّي لهذه الظاهرة وإعمال القانون ضدّ المخالفين وإحالة ملفّات الجمعــيات المشبوهة إلى القضاء، خاصّة وأنّ للعديد من هـــذه الجمعيــات أمــوالا طائلة يمكن معرفة مصــادرها وأوجــه صرفها.

وفِي الحقيقة تميط هذه الواقعة المفزعة اللثام  عن منظومة «تربوية دينية متشدّدة» لا تمتّ إلى قيم الإسلام السمحة بصلة، بل هي منظومة موازية لما هو قائم من كتاتيب وفضاءات تدريس مرخَّص لها، تتربّص بعقول الأطفال والناشئة لغرس بذور التطرّف والانغلاق الذهني لديهم ومقاومتها وتفكيكها لا يقلّان في تقديري شأنا عن محاربة الإرهاب ، إذ هي حاضنة الفكـــر الظلامي الداعشي وأداة لتفريخ إرهابيّي الغد.

ولا نجانب الصواب إذا قلنا إنّه علينا جميعا أن نتعامل مع هذه القضية بكامل الجديّة والتبصّر وأن لا نعتبرها مجرّد حادثة عابرة تُطوى صفحتها ويلفّها النسيان بعد أن شغلت الرأي العام لأيّام وأخذت حظّها من النقاش والتناول الإعلامي، بل يجب أن نستخلص منها العبر والدروس لتكون طوال الأشهر القادمة وحتّى موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية موضوع حوار مجتمعي يستجلي أقوم المسالك للتصدّي  لتمدّد الخطر الداعشي والإرهابي في النسيج الاجتماعي لبلادنا وتوطيد أركان الدولة المدنيّة وإشاعة قيم الجمهورية والحفاظ على مكاسب تونس الحداثية وحماية تجربتها الديمقراطية من مخاطر التراجع والانتكاس. وما من شكّ في أنّ من بين هذه المسالك إصلاح أوضاع المدرســــة العمومية حتّى تظلّ حاملة لثقــــافة المواطنة والتسـامح وقبول الآخــر والحــريصة دوما على تأصيـــل الفـــرد في كيانه الوطني وهويّته العربية والإسلامية مع تيسير انفتــاحه على الثقـــافات الأخـرى وذلك حتّى لا يتذرّع أحـد بضعـــف في التربيــة الدينية في المـرفق التعليمــي العــامّ ليبرّر وجود مثل هذه المــدارس الموازية.

وإزاء تشظّي المشهد الحزبي وعجز الكثير من مكوّناته عن تأطير المجتمع إذ لا وجود لها على الميدان على نحو لافت بحكم انعدام ثقة المواطن فيها وفي الطبقة السياسية عموما يبدو المجتمع المدني أكثر تأهّلا لتنشيط هذا الحوار وتوجيهه  نحو سؤال جوهري هو: كيف السبيل إلى صيانة النموذج المجتمعي الموسوم بقيم الانفتاح والاعتدال والتحـــرُّر المكرَّس منذ الاستقلال من مخـــاطر الدكتــاتورية الزاحفــة المتســتّرة بالدِّين؟

وللنخبة الفكرية دور محوري في هذا الحوار لما لها من وظيفة هامّة في إيقاظ الوعي الجمعي، وهو دور تتقاسمه مع المرأة التي أثبتت بنضالها وبالتزامها بقضايا المجتمع أنّها تقف دوما في الصفوف الأمامية من أجل الدفاع عن منجزات تونس الحداثية وعن حقوقها ومكاسبها. 
والغاية من هذا الحوار المجتمعي هو الإسهام في تشكيل رأي عام قبل الانتخابات القادمة يعي واجبه في الإدلاء بصوته والاختيار بين مشروعين مجتمعيين مختلفين: مشروع تقدّمي حداثي وآخر تقليدي متستّر بالدِّين؛ ويدرك أنّ تونس لن يكتب لها الاستقرار والنموّٰ الاقتصادي والرقي الاجتماعي إلاّ متى تمّ الفصل الفعلي بين الدين والسياسة وتخليص اللعبة الديمقراطية من كلّ الشوائب.

ذلك هو أهّم رهان يتعيّن كسبه في قادم الأيام كي لا تعيدنا الانتخابات المقبلة إلى المربّع الأوّل وحتّى نخرج من دائرة السنين العجاف التي تعيشها تونس منذ جانفي 2011.

عبد الحفيظ الهرقام

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.