الأستاذ أحمد بن صالح : نسيج وحده

الأستاذ أحمد بن صالح : نسيج وحده

«أحمد بن صالح وزمانه» للأستاذ سالم المنصوري هو كِتاب ضخم مادّيا، وذو أهمّية عظيمة أيضا، في محتواه، إذ هو يروي، بدقة الباحث وبمحبّة المناضل، مسيرةَ الأستاذ أحمد بن صالح، في مختلف فصولها الحافلة بأمجاد النّضال – لكن أيضا بصروف مِن الدهر، مثل ما عُرف عن مسيرة أبطال التاريخ اليوناني.

وإني شاكر، للأخ سالم المنصوري، هذا العمل القيّم الذي أنجزه، ليطّلع أحبّةُ بن صالح على ما قد يكُون غاب عنهم، ممّا حفّ بحياة هذا المُفكّر الفذّ، والفارس المِقْدام، الذي نذر حياتَه لخدمة الوطن، ولإعانة الغير.

كانت للأستاذ بن صالح مكانة مُتميّزة، بالنسبة إلى سائر الذين مِن جيله، قُبيل الاستقلال، ثمّ بعده، في الفترة الحاسمة التي وُضعت فيها أُسس الدولة الوطنيّة – وكانت له فيها مساهمة مرموقة.

فقد تميّز بجُملة من الخِصال – ولِنقُل، أيضا، إن شئتُم، وبجُملة من الصِّفات – لم تكن متجمّعةً، كلُّها، لدى واحد مِن أترابه وأنداده – ولا حتّى لدى واحد  من سائر الزعماء في عصره – باستثناء المجاهد الأكبر.

فقد كانت شخصيّة أحمد بن صالح، في عزّ شبابه، على درجة مُدهشة من الجاذبيّة: بملامح الوجه، وحركات الشَّعر، ونبرات الصوت، وما يُلقيه، عند أوّل اللقاء، من كلمات المُداعبة، بالملاطفة أحيانا، وأحيانًا كثيرة بالسخريّة – مهما كانت منزلة الذي يخاطبٌه. فأحمد بن صالح لم يكن، في أيّ لقاء، على حِيطة، ولا التزامٍ بالتقاليد، بل كان دوما مُتحرِّرا من كلّ القيود، ممّا جعل مُخاطِبَه في شبه الذهول، مفتونًا بهذه البراعة المتدّفقة ؛ لكن، أيضا، ممّا جعل الكثيرين منهم يَحقدون عليه. تلك هي أُولَى بوادر العلاقة التي قامت لنا، معه، أنا والأخ، المرحوم، محمود بالناصر، عند أوّل دخولنا للمدرسة الصادقيّة. ولم تنقطع أبدا.

ولمّا وَضَعت الحرب أوزارها، انتقلنا – ثلاثتُنا – إلى الدراسة في باريس؛ فكان بن صالح دوما هو «الفاتق الناطق»، عند البحث عن مسكن، وفي السعي لاختيار منهج دراسي.

فلمّا انتظمت الأمور، كان هو الذي رَبَط الصلةَ بجماعة من قُدماء الطلبة التونسيّين، سبقونا إلى باريس، قبل الحرب ؛ وهو الذي ذَهَب بنا أيضا إلى المطعم الخاصّ بطلبة شمال إفريقيا، في أقصى ما يُسمّى، تفكّهًا، «شارع بول ميش».

ثمّ إنّ أحمد بن صالح كان أوّل مَن انخرط في شعبة الحزب، هناك، بباريس ؛ مُقْدِما دوما على تحمّل المُهمّات، باهرا الجميع بما يتدفّق به من حيويّة : فكان من نصيبه أن كُلّف بالاتّصال بالمنصف باي، في منفاه، بمدينة PAU، لربط الصلة بينه وبين الحزب، في الأمور التي يُراد لها أن تبقى في طيّ الكتمان.

فكانت زياراته للملك المعزول – وعائلته– في مواعيد منتظمة، ينزل فيها ضيفًا، بمعيّة مَن صادف من شخصيّات تونسيّة، أتوا، هُم أيضا، للزيارة ؛ فيَسْحَرُهم بلسانه، ولامع ذكائه، وعالي جُرأته. وسيكون للكثير منهم، فيما بعد، دَوْرٌ بارز في إعلاء سمعته في المجتمع.

لكنّ وفاة والده اضطرّت سي أحمد إلى الانقطاع عن الدراسة، والرجوع ِ إلى تونس، للقيام بمسؤوليات العائلة.

وفي ذلك ما فيه من تضحية، تُنبئ بما كان عليه، منذ شبابه، من العناية بالغير، واتّخاذ السُبُل للقيام بالواجب.

ثمّ لمّا التأم شملُ ثلاثتِنا، بالرجــوع إلى أرض الوطـــن، فكـــان بن صالح صاحبَ المبادرة التي عَرَّفت به جمهورَ المناضلين: فقد نظّم ندوة بعنوان : «إخوان الأطلس» وقصد أن تكون على وزن إخوان الصفاء – دَعَا  فيها إلى التعاون بين سائر المُثقّفين، في شمال إفريقيا، من أجل بناء المغرب الكبير، حُرّا مُستقلاّ. وشارك فيها، مَعَنا، صديق جزائري، كان مُقيما بتونس، وهو الأستاذ عبدالله شريط – له تحيّاتنا، إن وصلت إليه هذه الكلمات.  ثمّ إنّ الأستاذ أحمد بن صالح انضمّ إلى النِضال النِّقابي – إضافة إلى انتمائه الحزبي – فظهرت منه لوامعُ من القول، وجلائلُ من الفكر، جعلت فرحات حشّاد يُقرّبه.

واتّفق أن حضر اجتماعا برئاسته؛ فتحدّث بعكس ما جاء في خطاب الزعيم. لكن ذلك لم يمنع حشّاد من اختياره، لتمثيل الاتّحاد لدى المنظّمة الدُوليّة للنِّقابات الحُرّة، المعروفة بــ CISL، ومقرّها بمدينة بروكسال؛ فلمع اسمـــه، في الاجتماعات التي تعقدها المنظّمة ؛ وتَسنّى له أن يَربط علاقات المودّة مع العديد من الشخصيات الأوروبّية؛ وبعضهم سيَكُون في مناصرته، أيّامَ الشدّة.

وكان لأحمد بن صالح تأثير في توجّه هذه المنظّمة إلى دعم القضايا العربيّة، مغربا ومَشرقا. ولمّا استُشهد حشّاد، آلت خــــلافتُه إلى بن صالح، بإلحاح من القاعدة النِّقابيّة، فأظهر شجاعة في المواقف، وباعا في الأعمال، وألَقًا فكريّا – أكسبه كلّ ذلك، مع محبّة الشغّالين، احترام المثقّفين – على شاكلة الزعيم حشّاد.

والذي لا يَعرفه الكثيرون أنّ بن صالح لم يَقبل المسؤوليّة الأولى في الاتّحاد، إلاّ بعد استشارة الحبيب عاشور، وأحمد التليلي ، ذهَب بنفسه إلى مقابلة كلّ منهما، في مقرّ إقامته الجبريّة، لِتلقّي الجواب مباشرة. ولا بدّ أن نذكّر بأنّ بن صالح كان مفتونا بشخصيّة مَن كان لا يذكره إلاّ بـ»سي فرحات». وهو الذي أذاع، في الأوساط النِّقابيّة، الكثير من مقالات حشّاد، المنشورة في جريدة الاتّحاد، ومنها بالأخصّ، المقال المُعَنْون:

«أُحِبّك يا شَعب»

وممّا يُحسب من أفضاله، وهو في قيادة المنظّمة الشغّيلة، أنّ مؤتمر الحزب، المُنعقد في صفاقس، إنّما بتأثير من الإتّحاد، مال إلى منح الثقة لبورڨيبة، ضدّ خصمه، صالح بن يوسف.

ومن أعمال أحمد بن صالح، التي تُذكر له، وهو على رأس أمانة الاتّحاد، نشر «العريضة الاقتصاديّة» : ساهم في إعدادها ثلّة من النِّقابيّين، بإعانة تقنية من خبراء في الاقتصاد؛ واحتوت على بيان مناهج وطنيّة للنهوض الاقتصادي بالبلاد.

لكن توجّهت إليه الظنون، من الحُسّاد ومِن الحاقدين عليه لأسباب مختلفة؛ فأقنعوا الزعيم بورڨيبة بأنّ بن صالح يُريد دفْع البلاد إلى انتهاج الشيوعيّة: فسعى إلى عزله من الأمانة العامّة، وهو في مهمّة خارج البلاد. لكن الرئيس بورڨيبة بقِـــي دومـــا متذكّرا ما تميّز به هذا الرجُل من مقدرة، وعُمق النظر. فبعد مدّة، سعى إلى إرجاع العلاقة معه، وعرض عليه وزارة الصحّة. فاعتبر أحمد بن صالح تهيئة الخدمات الصحّية، للطبقة الشغّيلة، في طليعة ما ينبغي أن تقوم به الوزارة، فقبِل. وفي تلك الأثناء، كان لبورڨيبة مساجلات مع عبدالناصر. فقد دعـا الرئيـس المصري إلى إقامة الوحدة العربيّة؛ وفهِم بورڨيبة أنّها وحدة اندماجيّة، فرفضها.

وأعلن عبدالناصر انتهاج الاشتراكيّة – وكان على علاقة حميمة بالكثير من الدُول الشيوعيّة. وتعدّدت خُطبه، لبيان أفضال الاشتراكيّة، في النهوض بالشُعوب المتخلّفة. فأراد بورڨيبة أن يُنافسه، في هذا الميدان: بأن نهج إلى اشتراكيّة تونسيّة، غير التي كان يُنادي بها عبدالناصر. وتذكّر ما كان دعت إليه عريضة الاتّحاد العام التونسي للشغل. فعرض على بن صالح العمل على تحقيق ما كان يبتغيه.

وكان بن صالح، مدّة إقامته لدى المنظّمة الدُوليّة للنِّقابات الحُرّة، ببروكسال، واصل التفكير في أهمّ أركان العريضة الاقتصاديّة، التي كان قدّمها، وهو على رأس الاتّحاد – وخاصّة فيما يُسرّع النهوض الاجتماعي والاقتصادي، دُون انزلاق فيما وقعَت فيه الشيوعيّة من شطط. وأفضت به تأمّلاته إلى الميل إلى طرائق من التعاضد. فعرض على الرئيس بورڨيبة انتهاج التعاضد، وسيلةً لنشر النموّ والرفاه، دُون تقليد لِنماذج أجنبيّة، فقبِل.

وأظهر بن صالح، في القيام بالمهمّة، ما هو معروف عنه من التزام الحماس في القِيام بالمهمّات؛ فأراد أن يجعل من البلاد جَنَّةَ عدْلٍ.

وأخذ يجوب أوساع البلاد، ويُلقي الخُطب، يشرح فيها أهداف الخطّة التعاضديّة. فذاع صِيتُه، وصار الرجُل القويّ في الحُكم. فحَقد عليه مَن لهُم مطامع؛ وظنوا به الظنون. وخاطبوا الرئيس فيما سمّوه «مطامح بن صالح إلى الخلافة» – خاصّة وأنّ الرئيس ألمّت به إذّاك أعراض صحّية.

فأخذ بورڨيبة يُتابع خُطب وزيره، ويتأوّل ما فيها، على ضوء ما يأتيه من جهات، تتّهِمُ بن صالح بما كان يقول عنه حٌسّادُه. فإذا الرئيس يُمعن في شكوكه، وتتفاقم لديه الظنون، حتى أدخل «وزيره المفضّل» في نفق، أفضى به إلى ما لا تُحمد عقباه. وكانت تلك آخر المحن التي أُصيب بها بن صالح. لكنّه أصرّ على إخلاصه للمجاهد الأكبر، ولم يتفــوّه، في حقّــه، بأيّ شيء ممّا كان على بعض الألسن.

وتلك من خصال الرجُل : البقاء وفيّا، في السرّاء وفي الضرّاء.

لكن، ممّا يُؤسَفُ له، أنّ رجال الاتّحاد، اليوم – وهُــم جميعــا على مستويات عالية من اليقظة – لا يَعرفون شيئا عن أحد كِبار زعماء منظّمتهم؛ وذلك لتغييب اسم بن صالح من لوائح الاتّحاد، منذ أواخر العهد البورڨيبي – رغم أنّه كان، في قيادته للاتّحاد، يَجمع بين سعة الشعبيّة، واتّقاد الفكر، وقوّة الجأش، إلى جانب الخبرة والمقدرة – أُسوةً بالزعيم، الخالد الذِّكر، فرحــات حشّاد.

الشاذلي القليبي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.