احميده النيفر: الــدِّيــن في حضوره المستقـبـلـي

 احميده النيفر: الــدِّيــن في حضوره المستقـبـلـي

1 - ظل «الشأن الديني» في تونس لعقود، مجالا محظورا لكونه عُدَّ من أخص مشمولات الدولة الحديثة التي لم تَسمح بأن يثار حوله نقاش أو تقع مقاربته بالنقد فضلا عن المراجعة. على هذا استقرّ واقع السياسة الرسمية التونسية منذ سنة 1956 بما جعل أساسَ تلك السياسة هو التلازمُ الشَرْطِيُّ بين سيادة الدولة واستقلالها وبين جملة مكوّنات من أوّلها الإسلام بما يجعل الدولة القيّمَ الوحيد على شؤونه المختلفة.

2 - شملت هذه السياسة كامل مجالات «الشأن الديني» ابتداء بخطة الإفتاء وطبيعة سيرها وحدود فاعليتها والمسؤول عنها وبالإشراف الإداري والتحصيل العلمي والمنهجي في جامعة الزيتونة وما يتولّد عن ذلك من مُخرَجات مرورا بالمجلس الإسلامي الأعلى ومهامه وما يمكن أن يَنظر فيه من مسائل وقضايا تعرضها عليه الحكومة لإبداء الرّأي وانتهاءً بوزارة الشؤون الدينية وما يتعلّق بخطاب المساجد وشؤونها تمويلا وتكوينا وإشرافا، خطباء ووعّاظا، مع ما يتعلّق بنشر القرآن الكريم وبتنظيم شؤون الحجّ والعمرة.

خصوصية هذا الوضع حدّدها، سياسيا، أحد وزراء الشؤون الدينية في العهد السابق في مجلس النــواب حين انتُقِــد أداء الوزارة نتيجــــة ما يعتري بعثات الحجيج من خلل قائلا: «كلّ شأن يمكن أن يُخَوْصَص في تونس إلاّ الشأن الديني». هكذا غَدتْ الدولة في تونس المتصرّفَ الأوحد في المجال التشريعي والاجتهادي والمدني بعد إلغاء القضاء الشرعي ومؤسّستي الأوقاف والتعليم الزيتوني وبعد أن تحوّل المفتي ورئيس جامعة الزيتونة والإئمة الخطبـــاء إلى مـــوظفين أو ممنـــوحين.

3 - أهمّ ما في هذا القرار السياسي دلالتُه الحضارية والثقافية فضلا عن السياسية. لقد صارت الدولة بمؤسّساتها ووظائفها، مصدر المعرفة الدينيّة والاعتبارات القيمية-السلوكية والسياسات التنظيمية بما أحال الحياة الدينية إلى مجرّد «إنتاج» على مقتضى السياسة وتوجّهاتها. بالمقابل صارت الدولة شُموليةً تواجه جملة تحديات ومفارقات دون مناعة حقيقية لأنّها لم تستطع أن تجسِّد القيم العميقة للمجتمع والتعبير عن حاجاته المستجدّة كما أنّها لم تأبه بمقتضيات المجال الإقليمي والدولي وما يستلزمه من تجدد في مستوى الفكر والوعي الديني وما ينتظمهما من حياة روحية.
هذا «الإنهاك» المتبادَل بين السياسي الشُمولي والديني المُستتبَع في تونس وإن صار رسميا ومُقنَّنًا مع الدولة الحديثة إلاّ أنّه بدأ مُبكِّرا قبل ذلك مع الدولة الحسينية وخاصّة مع خامس باياتها حمودة باشا (تـ 1814) ليتواصل متدرّجا مع نظام الحماية الفرنسية ثمّ متأكّدا مع دولة الاستقلال.

مع ثورة 17 - 14 انكشف الغِطاء. ظهر المشهد الديني صادما، مُتَشَظِياً ومتهافتا لافتقاده عوامل القدرة الذاتية لانعدام أيّ انتظام في مكوّناته نتيجة دَوْلَنَة الدين واعتبار الولاء السياسي المرجع الأساس في ذلك المشهد المتهالك. لقد انكشف الغطاء عن هوية دينية مُتَصَدِّعَة بدرجة موحشة أنتجت جملة من الانحرافات والاختراقات والمخاطر التي هدّدت جِديًّا الأمن الوطني والأُسَري وخاصّة الشبابي.

بعض الأرقام الدالّة المتداولة بخصوص انخراط شباب تونسي في صفوف التطرّف العنيف المُتَلَبِّس بما حسبوه إسلاما كانت صيحة فزع لم تتجاهلها جهود مؤسّسات وطنية ومراكز بحث تونسية وجمعيات من المجتمع المدني للاعتناء بها، رصدا وتحليلا واستنتاجا. هدف جُلِّ هذه الجهود الرسمية والبحثية والمدنية كان الوصول إلى تشخيص تدقيقي يوصل إلى مقترحات وتوصيات وأنشطة تختلف في مداخلها لكنّها تعمل في منتهاها على رتق ما انكشف من اهتراءٍ وتَشَقُقٍ في الهوية المتصدّعة.

4 - من أهمّ هذه المساعي نذكر، أوّلا، ما قام به المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية فيما أنجزه من دراسة أشرف عليها باحثون تونسيون متعدّدو الاختصاصات العلمية عن»السلفية الجهادية في تونس». صدرت حصيلة أعمال المعهد سنة 2014 في تقرير شخّص بصورة تركيبية بين البعدين المعرفي - النظري والميداني – الاستقرائي الوضعَ التونسي بما يتيح بناء رؤية استشرافية لخصوص قضية «الجهاديين» وعموم الشأن الديني. هذا الجهد المتميز دلّ على تحوّل سياسي في كيفية تولّي شأن المناوئين، باسم الدين، للسلطة الحاكمة في تونس وذلك باعتراف علمي وموضوعي بأنّنا أمام «ظاهرة- مشكلة» تستعصي على القمع. إنّه إقرار نوعي بأنها ظاهرة لها مجالاتها الاجتماعية والنفسية والثقافية المنتجة لها والفاعلة في تكوُّنِها وأنّها لذلك تقتضي من أهمّ ما تقتضيه فهمَ إطارها الفكري- الاجتماعي- النفسي الذي يمدُّها بطاقتها الأيديولوجية المُستقطبة.

5 - بعد هذا الجهد اللافت أصدر منتدى العلوم الاجتماعية سنة 2015 بدعم من المعهد العربي لحقوق الإنسان والمرصد الوطني للشباب «تقرير الحالة الدينية وحريّة الضمير». اختار الفريق العلمي القائم على التقرير مسألة حريّة الضمير الواردة في دستور الجمهورية الثانية الصادر في جانفي 2014 لكونها بادرة غير مسبوقة في الوطن العربي بما أكّدتْه من حرية الضمير التي تقع حسب التقرير « في منتصف المسافة بين حرية التفكير وحرية الدين» .  ما ميّز هذا التقرير اهتمامه الجديد بالشأن الديني، علميا وميدانيا، من جهة وما أولاه من عناية في رصد ما يتّصل بتمكين الفرد في تونس من الأدوات الفكرية «التي تسمح له أن يُعمِل ضميرَه وأن ينتقي ويمارس بحريّة وتميّز ... دون أن يكون عُرضــة لأيّ حســـاب أو عقاب أو إقصاء».

ما يزيد من ثراء معطيات هذا التقرير وأهمية نتائجه هي نزعته الإيجابية التي انتهت به إلى القول بأن «الفرص المتاحة لتطوير الأوضاع والذهنيات لا يقلّ عددها عن المخاطر المحدقة». مؤدّى ذلك ضرورةُ الرهان على تجاوز الحلول المعتمدة على «الثقافتين الحقوقية والدينية» في صيغتهما المغلقة القاطعة مع التجديد والتنوير.

6 - بنفس هذه النزعة الإيجابية انطلقت أعمال مجموعة ثالثة من الخبراء والباحثين والمدربين ضمن نشاط «مركز دراسة الإسلام والديمقراطية» بالتعاون مع وزارة الشؤون الدينية وبدعم خاصّ من الحكومة الكَنَدية من أجل مواجهة التطرّف العنيف والإرهاب. تكمُن أهمية هذا المشروع في معالجته هذه الظاهرة المعقّدة من خلال خطّة عمل تفكّك مرتكزات الخطاب المتشدد والعنيف بتطوير ونشر خطاب بديل أساسه علميٌّ ومعاصر ومقنع. ما اختصّ به مشروع «اليد في اليد» الذي امتدّ زمنيا بين سنتي 2017 و2018 هو الحرص على تجسيد عنوانه المركِّز على القيمة العملية التضامنية المباشرة فيما اشتمل عليه نشاطه في خمس ولايات 2عانت بتعبيرات مختلفة من ويلات التطرّف العنيف. لذلك تنوّعت الأطراف المساهمة في أنشطته  بتركيز جهودها معا لتحقيق أعلى نسبة من التفاعل والاستفادة في الأعمال التدريبية والحملات التوعوية والأنشطة التحسيسية.

من ثمّ تركّزت أعمال المشروع وورشاته في الولايات المستهدفة على الأئمة والوعّاظ والشخصيات الدينية المحلية وروّاد المساجد والأساتذة المدرِّسين والشباب المعرَّض للاستدراج والاستقطاب إلى جانب أُسَر المُغرَّر بهم في الخارج وعائلات ضحايا الاعتداءات الإرهابية بمعيـــة الممثلين المحليين للدولة مــن وزارة الشؤون الدينية.

7 - جماع جهود هذه النماذج الثلاثة التي حرصتْ على التعاون بين المؤسّسات الرسمية للدولة وفعاليات المجتمع المدني توصَّلت إلى أهمية ما يحتاجه الشأن الديني من رصد وإنصات وتحليل وتأهيل وتكوين للإسهام الفعلي في الخروج به من حالة التشظي واللاوعي الجمعي وما يَنجَرُّ عنهما من الاختراق المُهدّد للأمن والسيادة.

لقد اتضح بجلاء بعد أن رفعت الثورة الحَجْر عن الشأن الديني أن دولنة الدين وتوظيفه لا يُصلحان التديّن إنّما يَسْتَلاَّن منه الروح ولا ينفعان الدولة بل يوهنان شرعيتها وأنّ الحاجة متأكّدة لمقاربة مغايرة وسياسات جديدة تكتشف وتُفعِّلُ المشتركَ بين السياسي والديني باعتبارهما مستويين من مستويات المعرفة والعمل.

هو تحدٍّ يتطلّب بناء وعي ينتظم المشهد الديني من تكامل جملة من العناصر المتمثّلة في فكر إسلامي مستنير وحِسٍّ رحمانيٍّ منفتح يعزّز من أداء الفاعلين الدينين المحليين يَدْعَمُهُ تكوين وتوعية بقضايا المواطنة والتواصل وتدريب على حلّ النزاعات ويرسِّخُه حسن الإنصات للمشاركين وتفهُّمٌ موضوعي لمشاغلهم وآرائهم مع جودة إدارة الحوار معهم.

جوهرُ هذا التوجّه انتهى إليه قبل سنوات الأنتروبولوجي الشهير «كليفورد غيرتز»(Clifford Geertz) حين ركّز جماع أبحاثه العلمية والميدانية للأوضاع التي درّسها  في أندونيسيا والمغرب وفي الهند ونيجيريا والجزائر مناديا بضرورة القيام بمراجعات نوعية في مجال العلوم الاجتماعية.

تتعلّق أهمّ هذه المراجعات التصحيحية بمقولة إن الالتزام الديني صار إلى انتكاس في المجتمعات المعاصرة باجتياح « فرسان الحداثة الأربعة: العلمانية والعقلانية والقومية والعولمة». دراسات الأنتروبولوجي للواقع الاجتماعي المعيش في مجتمعات «العالم الثالث» أفضت إلى أنّ «الدين موضوعٌ مستقبليٌّ».

احميده النيفر

جــامعــي وعضــو بيت الحكمة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.