أخبار - 2019.01.15

مهرجان أيّام قرطاج المسرحيّة في أوج دراما التّشظّي

مهرجان أيّام قرطاج المسرحيّة في أوج دراما التّشظّي

سبقت الدّورة العشرون لأيّام قرطاج المسرحيّة حالة من التّشوّف والفضول اعتملت لدى المهتمّين بالفنّ الرّابع كما لدى المتابعين لهذه التّظاهرة وفيهم من عايشها منذ انطلاقها، سنة 1983، حيث انطلقت في جوّ ثقافي عامّ اتّسم بالضّغط على أصوات الفكر الحرّ وعلى كلّ من تسوّل له نفسه بـ«خرق» النّظم الثّقافيّة الوضعيّة. سنوات الجمر التي قطّعت فيها أوصال المسارح الجهويّة بعد تهميشها وتقزيم أدوارها التي وعدت بها زمن الاشتراكيّة وخيار اللاّمركزيّة الثّقافيّة.

ما تبقّى من أنفاس تلك الفرق تلقّفها المنصف السّويسي ليؤثّث بها مؤسّسة المسرح الوطني التّونسي الذي منه نبعت أيّام قرطاج المسرحيّة.

ولدت في بيئة مـــريبة وعلى أنقاض غضـــب نقابي واحتجاج لأهل المســـرح وقــع طمسه والتّغاضي عنه من جهة وتجاوزه صلب القطاع من جهة أخرى.منذ ذلك الحين، ترعرعت الأيّام وحقّقت دوراتها العشرون، تارة دورة كل ّ سنة وطورا، أي بعد جانفي 2011، دورة في كــلّ سنة، على شاكلة بقيّة مهرجانات أيّام قرطاج السّينمائيّة والموسيقيّة وغيرها. الدّورة العشرون كانت إذن محلّ تشوّق لقيمتها الاعتباريّة الماسحة لخمس وثلاثين سنة منذ تأسيسها، إضافة إلى أنّها دورة تتمكّن لأوّل مرّة في تاريخ التّظاهرة، من فضاء يليق بمقامها ويسمح باستيعاب المدّ الهائل من الجماهير المسرحيّة ومحبّي الفنّ الرّابع الذين لم تكن الفضـــاءات المســـرحيّة المتــوفّرة تفـــي بالحـــاجة لاستيعابهم واستقبالهم.

فها هي مدينة الثّقافة المفتتحة حديثا، في مارس 2018، تشرع أبوابها الأوبراليّة لاستقبال العائلة المسرحيّة التي ارتفع عددها على مرّ السّنوات وضيوف المهرجان من إفريقيا والعالم وتستقبلهم في أبهى الحلل والتّجهيزات التّقنيّة المتخصّصة، في الافتتاح وفي الاختتام. وعلى امتداد الأيّام، برمجت في قاعاتها الأخرى المختصرة عروض في البرنامج الموازي. هل أنّ حفلي الافتتاح والاختتام كانا في مستوى القيمة الاعتباريّة للدّورة العشرين؟ في الافتتاح، بدا الحفل باهتا وثقيلا، أرهقته الخطب المطوّلة والاستعراض الإحصائي لعروض الأيّام ولفعاليّتها. وهو ما كان قدّم في النّدوة الصّحفيّة التي انتظمت قبل الدّورة.

وخصّص عرض الافتتاح لتظاهرة الاحتفاء بالمسرح الفلسطيني من خلال عرض مسرحيّ تسجيليّ ينحو منحى البكائيّة السّاذجة والتي لا تتمثّل فكرة سليمة عن تطوّر التّعبيرة المسرحيّة في فلسطين ولا ترتقي إلى مستوى عرض في تظاهرة عريقة تعتبر منارة عربيّة وإفريقيّة للفنّ الرّابع. وأتبع العرض المسرحي الفلسطيني بأمسية شعريّة فلسطينيّة لم يفِ المقام بقيمتها، فمريد البرغوثي وابنه شاعران فلسطينيّان كانا يستحقّان حضورا كثيفا ولم يكن لائقا أن تقع برمجتهما في آخر فقرة لحفل افتتاح اعتاد مرتادوه أن يحضروا تقديم الفنّانين المكرّمين ولجان تحكيـــم المسابقات الرّسميّة والموازية ثمّ ينصرفون إلى السّهر والمسامرة لتبقــى قـــاعــة الافتتاح شبه فارغة إلاّ من بعض المدعوّين. ولا يختلف الأمر كثيرا بالنّسبة إلى حفل الاختتام. فقد أعيـــد استعــراض الأرقام والإحصاءات التي عرضت مرارا وتكرارا ونشرت في الصّحف وفي نشريّات المهرجان وفي الدّليل الخاصّ بالدّورة. وفي تقديم الحفل، اختلط الأمر على المقدّمتين باللّغة العربيّة وبالفرنسيّة فقد كان تقديم الفقرات فرنكو- عربيّا بالنّسبة إلى المقدّمة باللّغة العربيّة.  ككلّ دورة من أيّام قرطاج المسرحيّة، ينظّم المهرجان ندوة فكريّة تطرح أهمّ القضايا المتعلّقة بالشّأن المسرحي في العالم العربي وإفريقيا وهي البلدان المعنيّة بالمهرجان حسب أهدافه العامّة.

توليد الأفكار أم تشتيتها؟

وفي هذه الدّورة العشرين المنقضية، أعلنت الهيئة المديرة للمهرجان في النّدوة الصّحفيّة عن عقد ثلاث ندوات الأولى حول «الكتابة المسرحيّة : تحوّلاتها ورهاناتها في الدّرامي وما بعد الدّرامي» والثّانية حول «الممثّل والرّكح في مسرح ما بعد الدّرامي» والثّالثة في موضوع «اللّا مركزيّة في المسرح». وفوجئ المشاركون في المهرجان ليلة افتتاحه بالإعلان عن نــدوة رابعـــة حــول المســرح المــدرسي.

أربع ندوات امتدّت على طول أيّام المهرجان في حصص صباحيّة وأخرى مسائيّة، كان الحضور فيها ضامرا أي ضعيفا بشكل ملفت، وذلك بسبب تزامن حصصها مع بقيّة الفعـــاليّات والعـــروض المســرحيّة التي تبــدأ على السّــاعــة الثّالثة بعـــد الظّهر وتتواصل إلى حــدود الحادية عشرة ليلا. وفي المقابل، اتّسمت هذه النّدوات بتداخل المواضيع خاصّة فيما يتعلّق بالنّدوتين الأولى والثّانية.  وما يمكن استخـــلاصه مــن كلّ ذلك، على مستوى مضمون هذه النّدوات، أنّها لم تنبع من تفكير في عمق الحاجات الملحّة على الباحثين في الشّأن المسرحي من دارسين ومدرّسين ونقّاد وبحّاثة وأيضا من مبدعين مسرحيّين، ولكنّها طرحت على الهيئة المديرة في شكل مقترحات وقع قبولها بشكل اعتباطي وعفوي.

وإلاّ فما حاجة المسارح العربيّة والإفريقيّة في التّفكير حول مبحث طرح على المسالك الإبداعيّة الغربيّة ولم يقع إلى اليوم الإمساك بملامحه وتوضيحها ؟ فالمسرح مـــا بعــد الدّرامي، كما اصطلح على تسميته في الغرب، برز في حقبة زمنيّة وبيئة عامّة سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وفكريّة صادفت ما بعد الحربين العالميّتين ونشأت في رحم ما بعد الحداثة، تطلّعا إلى مساحات فكريّة مخترقة للأنسنة (post humaniste). وهي كما طرحــهــا المنظّر الأوّل لهــذا المنحى أو التّوجّه الألماني هانس تايس ليهمان ، تعلن نهاية النّسق الدّرامي أو الحكي أو ما يمكن أن نعبّر عنه بالنّسق الأرسطوطاليسي في الإبداع المسرحي.

المقاربــة كانت محرجـــة وحسّاسة، لأنّ المتدخّلين في هاتين النّدوتين مالوا بشكل ملفت إلى تطبيق هذا المنحى على أعمال مسرحيّة عربيّة وإفريقيّة تختلف في مرجعيّاتها الفكريّة والبيئيّة عن المرجعيّات الغربيّة المنشغلة بهذا الطّرح. والحال أنّ المسارح العربيّة والإفريقيّة تتخبّط في مدارات فكريّة معقّدة وفي مصاعب مادّيّة عويصة.

رجوعا إلى مسار الأيّام وهي اليوم تحتفل بعيدها الخامس والثّلاثين، عقدت في أغلب دوراتها ندوات بمواضيع هامّة في علاقة بالمشغل الإبداعي والبحثي للمسارح العربية والإفريقيّة. وأنتجت هذه النّدوة أفكارا قيّمة وتوصيات للأطراف السّياسيّة الثّقافيّة، صاحبة القرار في الشّأن الثّقافي. إلاّ أنّ هذه الأفكار والتّوصيات بقيت في أدراج الإدارة وأتلف أغلبها بسبب غياب الاستقرار في الفضاءات المخصّصة لها وبسبب انعدام نواة قارّة للمهرجان تدير شؤونه وتحفظ أرشيفه وترعى تواصله مع المؤسّسات الأخرى ومع العائلة المسرحيّة. فقد سبق أن أشرت في مقال سابق إلى هشاشة النّسق الإداري والتّسييري للأيّام.

وقد حدث في 2015 أن بادرت الهيئة العربيّة للمسرح بدعم الفعاليّات الفكريّة للأيّام في مستوى تمويل البحوث والمداخلات فيها إلى جانب نشرها وتوثيقها. وانطلقت العمليّة بمناسبة تظاهرة «همزة وصل» التي نظّمتها الهيئة في جلّ البلدان العربيّة لتقييم التّجارب المحلّيّة في المسرح. وبعد سنة من انعقاد كلّ من هذه النّدوات تمّ توثيقها ونشرها. ثمّ تواصلت التّجربة النّشريّة ، فنشرت أشغال النّدوتين الفكريّتين لسنتي 2016 و2017. على أنّه بالنّسبة إلى ندوة 2017، تكفّل الأستاذ محمّد المديوني الذي كان مكلّفا بإدارة النّدوة، بتجميع المداخلات وتوثيقها ونشرها برعـــاية الهيئة العـــربيّة للمســـرح. فذكر على غلاف الكتاب أنّه من تحريره، في حين أنّ المداخلات المنشورة أعدّت وحرّرت من قبل باحثين وناقدين دعوا إلى ذلك ولم تذكر أسماؤهم على غلاف الكتاب وهو أمر مخالف لأعراف النّشر وحقوق التّأليف.

التّلاعب بالمصطلحات

كما أنّه وفي موضوع الفعاليّات الفكريّة للأيّام، أعلن في النّدوة الصّحفيّة السّابقة للمهرجان، عن نشر كتاب يجمع كلّ ما كتب في وسائل الإعلام عن مهرجان أيّام قرطاج المسرحيّة على امتداد الخمس وثلاثين سنة. وبالاستفسار عن هذه البادرة، وقعت إفادتنا بأنّها بمثابة الخدمة و«المزيـّة» ستســـدى لأصحــاب هـــذه المقــــالات وتخرج أعمالهم إلى النّور، والحال أنّه لم تقع استشارتهم وطلب الإذن منهم لنشر مقالاتهم.

هذه التّحرّكات التي برزت في الدّورة العشرين للأيّام تبعث على الحيرة من غياب الحوكمة الفكريّة للهيئة المديرة ومن الارتجال في برمجة المنشورات وفي التّعامل مع جوهر التّظاهرة وأهدافها الفنّيّة والثّقافيّة ومن إشعاعها السّياسي بالمعنى النّبيل والسّامي للسّياسة.

المسارح العـــربيّة والإفـــريقيّة تتغـــاضى عن المشروع الذي يصالحها مع فنّها وفكـــرها ومحيطها ومع المتلقّي الذي وجـــد في خيـــار بين منحيين اثنين: مسالك استهلاكيّة تراود الأحاسيس السّاذجة للمتفرّج وتستعير من الواقع ظاهره وتغيّب كلّ منزع للتّفكير حول هذا الواقع ومساءلته والغوص في عمق أبعاده. يقابل ذلك منحى يرنو إلى التّجريب والتّغريب ويفرض رؤية للإبداع تحتفي بالصّورة وما يسمّى بالكتابة الرّكحيّة وتغيّب الفكر الحامل للفعل المسرحي والذي يمكنه أن يلتقــي مـــع المتفـــرّج في علاقة حوار ونقاش وتساؤل حول الفنّ وحـــول المعنى الذي يمكن للـــفنّ أن ينتجه بإبداعاته.

ذلك ما تجلّى من خلال برنامج العروض المسرحيّة التي حضرت هذه الدّورة من الأيّام وكانت متهالكة النّفس الإبداعي. وقد عبّر عن ذلك أعضاء لجنة الانتقاء التي شاهدت أكثر من مائة وخمسين عرضا من العالم العربي والإفريقي وعاينت ضعفا لافتا لهذه الأعمال.

هذا الخفوت في صـــوت الإبداع العربي والإفريقي يبدو محيّرا. بالنّظر إلى الحراك السّياسي وموجات التّحرّر التي طالت عدّة مناطق استراتيجيّة في المنطقة العربيّة، كيف يمكن أن نقرأ ظاهرة استسهال الإبداع وإدماجه في خانة التّرفيه السّاذج أو في خانة «الإعجاز» المزعوم؟ أليس ذلك عنفا في الحالتين؟

عنف ضدّ المدارك الذّهنيّة للمتفرّج من جهة واستنقاص لقيم المعنى الفكري والدّلالات الإبداعيّة ، هرولة نحو الإبهار الذي يفتح مباشرة على الخواء مخلّفا فراغا فكريّا تتجلّى مظاهره واضحة في السّلوكيّات الفكريّة والثّقافيّة للمجموعات والأفراد.

لعلّ ذلك من تبعات تخلّي الدّولة عن تنمية الثّقافة الفنّيّة، مسرحا وموسيقى وسينما وفنونا تشكيليّـــة وأدبا، لـــدى النّاشئة التي يتوجّب أن تتلقّح ضدّ السّهولة والاستسهال وتكسب حصانة ثقافيّة تمكّنها من محاورة الفنّ عن وعي ودون وصاية  من أيّ طرف كان.

دويلات منفردة، منفصلة كلّ واحدة عن الأخرى، منفردة وغير متفرّدة، أصبحت تتلاعب بمكاسب المهرجان تطوّعها لرغبات ذاتيّة تتضخّم بها «الأنا» ويخمد صوت الجمع ويهمّش جهـــده وتطفأ جــذوة فكره. حتّى أنّ بعضهم أبح يتحدّث عن المهرجانـــات فيستعمل عبـــارة «مقاولة المهرجانات».

فوزية بلحاج المزّي




 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.