أخبار - 2019.01.14

عبد الحفيظ الهرقام: هل أصبح الشعور بالإفلات من العقاب ثقـافة مجتمع ؟

عبد الحفيظ الهرقام

تفاقمت في السنوات الثماني الأخيرة ظاهرة أخذت منحى خطرا أصبح يهدّد كيان الدولة والاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد وتجربتها الديمقراطية الغضّة.. ونعني بذلك ما نجم عن حالة الفوضى السائدة من تفشّ للشعور بالإفلات من العقاب والمحاسبة في مختلف أوساط المجتمع في ظلّ ضعف الدولة وغياب البيداغوجيا السياسية، في سياق أوضاع شديدة التأزُّم، وتردّد السلط العمومية في حالات عدّة في إعمال القانون وفرض سلطانه. لم يسلم في حقيقة الأمر أيّ مجال من مجالات الحياة العامّة من استفحال هذه الظاهرة المفزعة فهي حاضرة بقوّة في المشهد السياسي والإداري والاجتماعي والاقتصادي.

سياسيّا: نلمسها في ممارسات عدد ممّن دفعت بهم المحاصصة الحزبية والمحاباة وأحيانا الصدفة -إن لم يكن المال الفاسد- إلى مواقع متقدّمة في السلطتين التنفيذية والتشريعية وفي أحزاب حاكمة فذهب بهم الظنّ أنّهم اكتسبوا حصانة تبيح لهم كلّ ضروب التجاوزات: الدوس على القانون وتحقيق المآرب الشخصية وخدمة مصالح اللوبيات وذوي القربى والعشيرة وكيل التهم والشتائم للخصوم، والقائمة تطول.. ولعلّ منهم من يتوهّم أنّه بالتمترس وراء خطوط دفاع حزبه والاحتماء بأصحاب النفوذ السياسي والمالي أو باللجوء إلى تكثيف الظهور الإعلامي سيكون بمقدوره غدا الإفلات من عقاب صندوق الانتخابات كأنّ التونسي أصيب بفقدان الذاكرة أو سيكون غرّا متسامحا إزاء كلّ مع من خان الأمانة  واستهان بواجباتها. واعتقادنا أنّ التونسي لن ينسى أيضا ما قُطع من وعود لكشف كلّ الحقائق في قضايا سياسية كاغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي ومقتل لطفي نقّض وتسفير الشباب التونسي إلى بؤر التوتّر ولن يقتنع بأنّ لا أحد اليوم فوق القانون إِلَّا عندما يماط اللثام عن هذه القضايا ويقول القضاء العادل المستقلّ كلمته الفصل فيها.

إداريا: تكرّس الشعور بالإفلات من العقاب بسب غياب الحوكمة الرشيدة وضعف الرقابة في عدد من المؤسّسات والمنشآت العمومية ومن تجلّياته كثرة الغيابات وترك مواقع العمل أثناء التوقيت الإداري والتقاعس في أداء الواجب المهني، ممّا يتسبّب في تعطيل مصالح المواطنين والإضرار بالمؤسّسة أو المنشأة، فضلا عن سوء التصرّف في الموارد وإهدار المال العام. وقد سلَّط التقرير الأخير لدائرة المحاسبات الضوء على حجم الإخلالات والتجاوزات المسجّلة في المؤسّسات والمنشآت التي شملتها الرقابة.

وكان يوسف الشاهد رئيس الحكومة  أقرّ في أفريل الماضي بمناسبة الاحتفال بخمسينية دائرة المحاسبات بأنّ استغلال السلطة التنفيذية ومتابعتها للتقارير الصادرة عن الدائرة يبقى غير كاف، مبرزا ضرورة إرساء الشفافيّة والحوكمة الرشيدة ودعم المساءلة باعتبارها دعائم مكافحة الفساد، في حين أكّد شوقي الطبيب رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في ذات المناسبة أنّ الهيئة تستند في عديد الملفات التي تنظر فيها وتعرضها على القضاء إلى التقارير السنوية لدائرة المحاسبات، «التي يلقى بأغلبها إلى النسيان، رغم خطورة الوقائع التي تتطرّق اليها».

اجتماعيا: تسبّبت هذه الظاهرة في ما نلاحظه من تعمّد إلى قطع الطرقات وعمليات السلب والنهب والسرقة في الفضاءات العامّة والخاصّة وازدياد عدد جرائم القتل الفظيعة والاستيلاء على أملاك الدولة وخرق قانون الجولان، نتيجة ضمور الحسّ المواطني وتراجع الدور التربوي للأسرة وهياكل التنشئة الاجتماعية والاستخفاف بالردع القانوني وبالنواميس الاجتماعية، على الرغم من استرجاع المنظومة الأمنية لسالف نجاعتها وتكثّف انتشارها على الميدان.كما أدّى استضعاف الإدارة البلدية بالخصوص إلى تنامي البناء الفوضوي واحتلال الأرصفة من قبل أصحاب المقاهي والمحلات التجارية وانتصاب الباعة في الطرقات والأنهج والشوارع وتلك معضلة لا تكاد تخلو منها مدينة أو قرية في تونس اليوم.

اقتصاديا: يتجلّى الشعور بالإفلات من العقاب بحدّة أكبر وإضراره بمصالح الفرد والمجموعة يبدو بالغا وباهض الثمن.

وعلاوة على استشراء التهريب والتجارة الموازية والتهرّب الجبائي المقدّر بالمليارات من الدنانير والغشّ والترفيع في الأسعار وترويج السلع والمواد الغذائية الفاسدة والإخلال بقواعد الصحّة العامّة في ظلّ النقص في المراقبة الاقتصادية والصحيّة، يجدر بنا الوقوف وقفة الحيرة والتأمّل في قضيّة لها انعكاسات كارثية على الاقتصاد الوطني، ألا وهي قضية تعطيل الإنتاج في قطاعات حيويّة كالمحروقات والفسفاط. فهل يدرك كلّ التونسيين ولا سيّما أولئك الذي يأتون مثل هذا الصنيع الحقيقة الصادمة؟

يقدّر خبير اقتصادي خسائر الدولة في هذين القطاعين في سنة 2018 بما يناهز 8 مليارات دينار وبالعملة الصعبة أي ضعف مداخيل السياحة تقريبا. كما يقدّر مجمل الخسائر خلال السنوات الثماني الأخيرة بثلاثين مليار دينار وهو ما يضـاهي ما اقترضته تونس من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ممّا حدا بالرئيس الباجي قايد السبسي إلى القول: «ثرواتنا تحت أقدامنا ونحن نلجأ إلى الاقتراض». أليس هذا جرما في حقّ الوطن وفي حقّ الدولة التي حُرمت من موارد ماليّة هامّة كان بالإمكان توظيفها في دفع النمّو الاقتصادي وخلق المزيد من مواطن الشغل ومصادر الدخل للعاطلين عن العمل؟

لاشيء يبدو اليوم قادرا على قطع دابر الشعور بالإفلات من العــقــاب لدى عـــدد لا يستهان به من التونسيين وكأنّه أضحى ثقافة مجتمع وكأنّ كلّ الأسيجة الرادعة قد انهارت تماما، فهل يكفي فقط التطبيق الحازم للقانون ضدّ المخالفين أم أنّنا في أوكد الحاجة إلى بناء ثقافة مجتمعية جديدة تعمّق الانتماء إلى تونس والحسّ المواطني والوازع الأخلاقي باعتبارها ركيزة الإصلاح في أيّ مجال كان؟.

عبد الحفيظ الهرقام

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.