أخبار - 2018.12.31

المستقبل الثقافي في دراسة بيــن المراجعة والتصحيح والاستشراف

المستقبل الثقافي في دراسة بيــن المراجعة والتصحيح والاستشراف

من آخر ما صدر دراسة للدكتور توفيق بن عامر بعنوان «المستقبل الثقافي بين نداء الهويّة والتجربة الديمقراطية» (منشورات سوتيميديا).  يعتب رمؤلّف هذه الدراسة أنّ المسالة الثقافية هي الخلفية المتحكّمة في الأوضاع السياسية والاجتماعية وهي المحدّدة لماضي المجتمعات والموجّهة لحاضرها والمقرّرة لمصيرها خلافا لما يبدو من ظاهر الوقائع المادية ومجريات الأحداث التاريخية ماضيا وحاضرا ومستقبلا. كما ينطلق في هذه الدراسة من الاقتناع بأنّ للمسالة الثقافية جذورا في التاريخ وامتدادا عبر الزمن وتوجّها نحو المستقبل وهو ما يمكن استشرافه باعتماد التشخيص العلمي الدقيق لمختلف مراحل ذلك المسار. وهو يلاحظ مع ذلك أنّ المسيرة الثقافية للأمم والشعوب ليس من الحتمي ولا الضروري ان تسير دوما وفق خط مستقيم بل غالبا ما تعتريها انقطاعات وانكسارات أمام أحداث قاهرة أو مفاجئة كالانقلابات أو الثورات أو الغزو والاحتلال وفقدان السيادة فيقع التراجع أو التوقّف ولو مؤقتا عن استئناف المسيرة ويحدث جرّاء ذلك اضطراب وتصدّع في الشخصية الثقافية وخلخلة في منظومة القيم وربما الإيذان بميلاد قيم جديدة.

لكنّ النظر الثاقب والكفيل بالسيطرة على الأحداث من شأنه أن يميّز في غمرة تلك المجريات بين الثوابت والمتغيّرات وبين ما تحتّم الأوضاع استمراره وتواصله وما تقتضي استبعاده وإزالته. ومن مسؤولية صاحب النظر والحال تلك أن يضطلع بدوره في القيام بالمراجعة والتصحيح للمفاهيم والقيم وتفحّص الخيارات واختبارها ليزيل عنها آثار التصدّع وأعراض الاضطراب وليضعها ناصعة من جديد على درب تلك المسيرة. واستنادا إلى هذه المقاربة الثقافية يروم المؤلّف إنجاز ذلك التشخيص والاستشراف سواء على الصعيد الوطني بشكل خاصّ أو على المستوى العربي والإسلامي بشكل عامّ. وقد ارتأى المؤلّف عرض هذا المنجز الفكري والثقافي في دراسة توزّعت على ثلاثة أبـــواب وثلاثة عشر فصلا صدّر لها بمــدخل نظري حول المستقبل الثقافي وذيّلها بخاتمة حــول مســـؤولية المثقّف.

فتتطرّق في الباب الأوّل من الدراسة والمُدرج تحت عنوان «في تجديد الفكر الديني» إلى قضيّة تجديد ذلك الفكر على ضوء متطلّبات الحداثة وهو جوهر المشروع المقترح منذ عصر النهضة في القرن التاسع عشر والذي تبنّته المدرسة الإصلاحية سواء على الصعيد الوطني أو على الصعيد العربي والإسلامي . وتولّى تقييم ذلك المشروع مع بيان أبعاده وحدوده ورصد الجوانب الإيجابية فيه والإشارة إلى الجوانب التي اتّسمت بالقصور والمحدودية واستخلص في نهاية المطاف أنّه يمثّل المشروع الجدّي الوحيد الذي استقرّ على الساحة العربية الاسلامية واستطاع أن يشق طريقه نحو التطبيق وإن بدرجات متفاوتة حسب البيئات المختلفة وأن يجمع حوله مختلف التيارات من قومية واشتراكية وليبيرالية وإسلاميّة فهو بمثابة القاسم المشترك بينها لأنّه يمثّل جوهرها ولأنّها كانت بالنسبة إليه عبارة عن تمثّلات وتلوينات لذلك الجوهر. وقد كان من المنتظر تطوّر تلك الحركة الإصلاحية وتجاوز الحدود التي توقّفت دونها لكن ما يحدث في الراهن هو التراجع عنها والعودة إلى ما قبلها أي إلى ما قبل الإصلاح ممّا يعني العودة إلى أوضاع الانحطاط.

ويحلّل المؤلّف أسباب ذلك التراجع أو الانكسار في مسيرة الإصلاح والتحديث وهو لا يرى حلّا لهذا الوضع سوى العمل على استئناف المسيرة الإصلاحية باستكمال المشروع وإزالة ما يعرقل انطلاقته من العوائق . واعتنى المؤلّف في هذا الباب أيضا بتصحيح مفاهيم أساسية في الفكر الديني المعاصر كان لها رواج كبير على الساحة السياسية والاجتماعية واعتراها الكثير من التحريف والالتباس والمغالطة ممّا أصبحت معه بمثابة العائق عن استئناف المسيرة الثقافية ومما يستوجب مراجعة النظر فيها لرفع ما خيّم عليها من غموض وإزالة ما طرأ عليها من اضطراب وتداخل. ومن أهمّ تلك المفاهيم مفهوم الجهاد الذي انحرف عن مبادئه الأساسية واستعمل في الأوساط الإسلامية في غير سياقه الديني الصحيح. وكذلك مفهوم الإرهاب الذي أضحى يستعمل في الدوائر السياسية الغربية لغير ما وضع له ويوظّف لأغراض سياسية تحيد بمفهومه عن دلالاته الأصلية. ومن تلك المفاهيم الدينية التي لها أبعادها السياسية والاجتماعية أيضا والتي اعتراها خلل في التصوّر وقصور عن استكناه دلالاتها الحقيقية مفهوم الحجاب وما دار حوله ولا يزال من جدل ديني وسياسي واجتماعي ولا يخفى ما لهذا الأمر من أهميّة لأنّه يطال منزلة المراة في المجتمع وصورتها الممثّلة للهوية الاجتماعية والحضارية للشعوب والأمم كما يتعلّق ذلك الأمر أيضا بضرورة إعادة النظر في مفهوم الحريّة الفردية ومبادئ حقوق الإنسان ومدى تناغمها مع تناغمها مع الهوية الاجتماعية للأمم والشعوب.

ويتناول المؤلّف في الباب الثاني من هذه الدراسة والموسوم بعنوان «سؤال الهويّة المكوّنات والتحديات» مراجعة مفهوم الهويّة وتصحيح ما تلبس بتصوّره من أخطاء وانحرافات تتعلّق بمكوّناته ووظائفه الأساسية وهو يمهّد لذلك بالإشارة إلى الظروف والملابسات التي يرتفع فيها خطاب الهويّة ويعلو صوته والتي يخفت خلالها ذلك الصوت ويغيب فيها ذلك الخطاب أو يكاد معلّلا ذلك بطبيعة الأوضاع الثقافية والحضارية السائدة وبمستوى النهوض أو الركود الاجتماعي. وقد أفضى به ذلك التحليل إلى تفحّص مكوّنات الهويّة محدّدا منزلة كلّ منها ومصنّفا إيّاها الى مكوّنات طبيعية وأخرى ثقافية مع الاشارة إلى ما يحدث بين النوعين من تفاعل مستمر. كما صنّف المكوّنات الثقافية الى مكوّنات أصلية وأخرى اضافية بهدف الوصول الى رصد الثابت والمتغيّر في هذا المفهوم . وقد أفضى به ذلك الفحص والتحليل إلى اعتبار الهويّة كائنا حيّا ومتحرّكا وليس معطى ثابتا وساكنا وإلى أنّه لا يتماهى بالضرورة مع الماضي الموروث بل توجد له امتدادات في الحاضر ومؤهّلات لبناء المستقبل.

وأعمل المؤلّف النظر أيضا فيما تتميّز به الهويّة الفردية عن الهويّة الاجتماعية وفي طبيعة العلاقة القائمة بينهما وفي هامش الحرية الذي يخوّل للفرد داخل المجتمع. لكنّه حرص أيضا على التمييز بين نوعين من الهوية إحداهما منغلقة والأخرى منفتحة مع التّعمق في الأسباب المتحكّمة فيما يطرأ عليها من انغلاق او انفتاح . ولاحظ أنّ انغلاق الهوية في نظره يؤدي في النهاية إلى ضمورها وفنائها بينما يساهم الانفتاح في نموّها وتالقها. وختم المؤلف بحثه في هذا المجال باعتبار الهوية سكينا ذا حدين إذ يمكن لها إذا أُسيئ فهمها أن تكون عامل جمود وتحجّر وعرقلة لنهوض المجتمعات كما يمكن لها إذا أحسن فهمها وأجيد تمثّلها أن تكون عامل دفع وحافز نموّ وازدهار لتلك المجتمعات. وعلى هذا الاساس يقترح المؤلّف على الشباب تصوّرا منفتحا للهوية يتناسب مع مقتضيات العلم والمعرفة ويتلاءم مع أوضاع العصر ويخضع لشروط النهوض والتقدّم ويرسم ملامح مستقبل ثقافي واعد.

ويرى المؤلّف في الباب الثالث الذي وسمه بعنوان «من ثقافة الحوار إلى الخيار الديمقراطي» أنّ الذات بعد فهمها كنه ذاتها وبعد أن توفّرت لها المؤهلات الضرورية لبناء مستقبل ثقافي أصبح بإمكانها الانخراط في طور ثقافي جديد هو طور الثقافة الديمقراطية. وقد حرص المؤلف في هذا السياق على التمييز بين طورين ثقافيين طور ثقافة ما قبل الديمقراطية وطور الثقافة الديمقراطية فحلّل في الطور الأوّل الأسباب والعوامل التي كانت وراء تأخّر ظهور الديمقراطية على الصعيدين الوطني والعربي الإسلامي وهي أسباب وعوامل ثقافية خاصّة .كما استعرض في هذا السياق مجمل الخيارات الثقافية والسياسية المطروحة على الساحة والمناهضة للتوجه الديمقراطي وناقشها مبيّنا تهافتها . وأفضى به ذلك العرض والتحليل الى تركيز النظر على الثقافة الديمقراطية منبّها إلى أنها الامتداد الطبيعي والحتمي للحركة الإصلاحية المنادية بالعدل والحرية ومنبّها أيضا إلى أنّ الديمقراطية ليست مجرّد اليات انتخابية وأشكال مؤسساتية وإنما هي ثقافة تكتسب بالمراس وتستند الى نمط سلوك قائم على منظومة من المبادئ الجوهرية وفي طليعتها التشبّع والالتزام بثقافة الحوار والتواصل بين الثقافات معتبرا أنّ الحوار هو الضمان الاساسي للسلوك الديمقراطي وأنّ الحوار مع الذات شرط ضروري للحوار مع الاخر فلا مناص إذن من العمل على تأهيل الذات لتقبل ثقافة الحوار انطلاقا من قبول مبدإ الاختلاف والتسامح. وقد حرص المؤلف في هذا المضمار على تصحيح بعض الرؤى والمواقف ورفع الالتباس عن بعض المفاهيم. فميّز في هذا الإطار بين مفهوم المثاقفة الضرورية للنهوض والتطوّر ومفهوم الغزو الثقافي الذي يتصدّى له الكيان ويرفضه . كما توقّف بالتحليل عند شرعية السلطة المستمدّة من الإرادة الشعبية منبّها إلى ضرورة العمل على تأهيل تلك الارادة اقتصاديا واجتماعيا والرقي بها ثقافيا إذ من الصعب أن لم يكن من المستحيل تحقيق النجاح للثقافة الديمقراطية لدى شعوب تعاني الفقر والخصاصة وغير مؤهّلة لاستيعاب معنى الحرية وغير مقتنعة بعلوية القانون.

وإثر ذلك المجهود الذي بذله المؤلف في المراجعة والتصحيح والاستشراف ذيّل كتابه بخاتمة تحدّث فيها عن وظيفة المثقف  ومسؤوليته في تبليغ الرسالة الثقافية ونشرها على أوسع نطاق عبر الحوار المستمرّ دفعا للمسار وتمهيدا لبناء المستقبل الثقافي الموعود.

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.