الجامعـة التّـونسيّــة في ذكــراها الســّتـّيـن (1958 – 2018) أيقونة الحداثة وقاطرة التّنوير

الجامعـة التّـونسيّــة في ذكــراها الســّتـّيـن (1958 – 2018) أيقونة الحداثة وقاطرة التّنوير

إنّ تاريخ التّعليم العالي في تونس، وإن لم يكن تاريخا طويلا مُوغلا في القِدم، على قدر وافر من الغنى والاكتناز، ويكفي أن نذكّر بثلاث حقائق قائمة لندرك أهميّة مسيرة الستّين عاما التّي لا تعني في عدد السّنين والحساب شيئا ذا بال : أوّلهما أنّ بلادنا تُسيّر اليومَ ومنذ عقود عديدة في المجالات السّياسيّة والإداريّة والتّعليميّة والاقتصاديّة بكفاءات تونسيّة صرف هي ممّا جادت به الجامعة التّونسيّة، ولو لم يكن للجامعة من مزيّة إلّا هذا لكان ذلك كافيا لنُقرّ لها بعظيم فضلها على البلاد، وثانيها أنّ الجامعة التّونسيّة تأتي في مقدّمة معالم إشعاع وطننا خارج حدوده، وتخصيصا في أرجاء الوطن العربيّ، فقد كانت وما تزال منارة تهتدي بنورها سائر الجامعات العربيّة علما منهجا وفكرا ناقدا. والثّالثة أنّ ما عُرفت به تونس من نزوع إلى التّحديث والعقلانيّة ومن فكر تنويريّ، وما طبع مجتمعنا من انفتاح وتسامح واعتدال إنّما تدين به في القسط الأكبر إلى الجامعة وإلى عمق أثرها في الأجيال المتلاحقة من خرّيجيها.

يجدر التّذكير قبل الحديث عن أولى مـــؤسّسات التّعليـم العالي بتونس بأنّ جامع الزّيتونة كان يضمّ تعليما عاليا يرتاده طلبة العلم من تونس ومن بعض بلدان المغرب العربيّ، وكان هذا التّعليم يدوم ثلاث سنوات تُختم بالحصول على شهادة «العَالِميّة».  أمّا أقدم المؤسّسات التّي يُمكن اعتبارها مؤّسسات تعليم عالٍ فهي مدرسة الفلاحة الاستعماريّة وقد أُنشئت سنة 1898، وكانت تُعدّ من المدارس العليا، وقد فُتحت أمام أبناء المعمّرين الأجانب، وهي التّي ستُصبح بعد الاستقلال المعهد العالي للفلاحة. ثمّ أنشئت بعد ذلك سنة 1911 المدرسة العليا للّغة والآداب العربيّة، وهي مؤسّسة تُختم الدّراسة فيها بالدّيبلوم العالي للعربيّة. وكانت هذه المدرسة مفتوحة للعموم، ويُعدّ فيها المنتمون إليها «البروفي العربي» ثمّ الدّيبلوم المذكور.

وتلا هاتين المدرستين إحداثُ مؤسّسة ثالثة هي مركز الدّراسات القانونيّة الذّي بُعث سنة 1922، وكان يُهيّئ المرسّمين فيه لإعداد الإجازة في الحقوق قصد إتمامها إمّا بباريس أو بجامعة الجزائر. ولكنّ أهمّ مؤسّسة جامعيّة أُنشئت قبل الاستقلال هي دون شكّ معهد الدّراسات العُليا ، وقد أحدث سنة 1945 بعد الحرب وكان فرعا من جامعة الصّربون، ويرأسه «جان روش» رئيس أكاديميّة باريس، أمّا مديره المباشر فتُعيّنه الجامعة المُشرفة، كما أنّ برامج التّدريس فيه وامتحاناته من مشمولات الجامعة، وحتّى الاختبارات فيجري إصلاحها بالعاصمة الفرنسيّة.  وقد أُلحقت به المدرسة العليا للّغة والآداب العربيّة ومركز الدّراسات القانونيّة واتّخذ مقرّا له بنهج سوق أهراس في بناية كانت تأوي مدرسة إيطاليّة. وكان أغلب المدرّسين القارّين والعرضيّين بالمعهد من الفرنسيّين، أمّا التّونسيّون فكانوا قليلي العدد وجلّهم من العرضيّين، والمدرّس القارّ الوحيد في اللّغة والآداب العربيّة هو محمود المسعدي. ومن بين مدرّسي المعهد «ريمون بار» (1924 – 2007) رجل الاقتصاد والقانون والوزير الأوّل الفرنسيّ بين 1976 و1981.

إنشاء دار المعلّمين العليا

بادرت وزارة المعارف التّي كان على رأسها الوزير الأمين الشّابّي منذ أفريل 1956 إلى إنشاء دار المعلّمين العليا، وقد انطلق التّدريس بها في بداية السّنة الدّراسيّة 1956 - 1957 رغم أنّ الأمر المتعلّق بإنشائها لم يصدر إلّا في 13 /9/ 1958.

واختير مقرّها بنهج فرنسا قريبا من مقرّ معهد الدّراسات العليا. وكان من أساتذتها الأوائل الشّاذلي بويحيى والشّاذلي القليبي ومحمّد الطّالبي وفرحات الدّشراوي في الآداب العربيّة، وحسونة بلقايد في الرّياضيّات والهادي التّميمي في الفيزياء والمنجي حمزة في العلوم الطّبيعيّة والحبيب عطيّة في الجغرافيا.

وممّا ميّز حياة دار المعلّمين العليا في سنتها الأولى دعوة طه حسين في أواخر شهر جوان 1957 إلى الإشراف على الامتحانات الأولى التّي نظّمتها الدّار حرصا من المشرفين على شؤون التّعليم في دولة الاستقلال على أن يرأس امتحانات التّعليم العالي أساتذة مشهود لهم بالكفاءة العالية. وقد كتب طه حسين مقالا نشرته جريدة الجمهوريّة في مصر بتاريخ 3 أوت 1957 يُنوّه فيه بمستوى التّعليم العالي في تونس ويُبدي إعجابه بأداء الطّلبة في الامتحان المذكور.

وقد عرفت دار المعلّمين العليا أطوارا مختلفة وانتقلت إلى مقرّات عديدة (كليّة 9 أفريل – حي بوشوشة – سوسة – بنزرت ) إلى أن استقرّت بمقرّها الحالي في القرجاني منذ 1997.

تأسيس جامعة تونس

وداعـــــا الأســــتـاذ محمّد رشـــــاد الحمــــــزاوي
فقدت الجامعة التّونسيّة يوم 15 نوفمبر المنقضي أحد أبرز أساتذتها الأوّائل وهو الفقيد محمّد رشاد الحمزاوي الذّي أدخل تدريس المعجميّة Lexicologie والمعاجميّة Lexicographie إلى كليّة الآداب وكان له الفضل في تكوين جيل من المختصّين أخذ بناصية تلك المسائل وحمل عنه مشعل تدريسها والبحث فيها.

وُلد الأستاذ رشاد الحمزاوي بتالة سنة 1934 وتحصّل على الإجازة في اللّغة العربيّة وآدابها مـــن جامعة الصّربون سنة 1959 وعلى ديبلوم الدّراسات العليا في الحضارة العربيّة سنة 1960 ثمّ أعدّ أطروحة دكتورا دولة حول «أعمال مجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة» وناقشها بباريس سنة 1972.

بدأ التّدريس بجامعة ليدن بهولندا ثمّ بجامعة الصّربون بباريس والتحق بالجامعة التّونسيّة منذ 1968 إلى 1994، كما عمل بجامعة العين بالإمارات العربيّة المتّحدة وبجامعة السّلطان قابوس بعُمان. واضطلع بخطط إداريّة عديدة، إذ أدار معهد بورڤيبة للّغات الحيّة (1970 – 1974) ودار المعلّمين العليا (1974 – 1976) ثمّ عُيّن مديرا للتّعليم العالي والبحث العلميّ بوزارة التّربية (1976 - 1977) ومديرا للمركز الثّقافي الدّولي بالحمّامات (1979 - 1982). أسّس جمعيّة المعجميّة وترأّسها من 1983 إلى 1993 وكان مديرا لمجلّة المعجميّة. وترك مؤلّفات كثيرة في المعجم العربيّ والمصطلحات اللّغويّة الحديثة والنّظريّات المعجميّة.

وفضلا عن نشاطه العلميّ الغزير كان للأستاذ رشاد الحمزاوي اهتمام بالإبداع الأدبيّ والقصصّي فألّف آثارا نالت شهرة واسعة مثل «بودودة مات» و«طرننّو» و«سفر وهذر» تُرجم بعضها إلى لغات عديدة.

صدر أوّل قانون ينصّ على التّعليم العالي بتونس في 4 نوفمبر 1958، لذلك اعتُبر هذا التّاريخ مرجعا في تحديد منطلق هذه الدّرجة من درجات نظام التّعليم التّونسيّ. ونصّ هذا القانون كذلك على أنّ التّعليم العالي يجري بالجامعات والمعاهد والمدارس العليا المختصّة. ثمّ صدر نصّ ثان يُنشئ جامعة تونس إبّان تأسيسها خمس مؤسّسات للتّعليم العالي هي كليّة العلوم الرّياضيّة والفيزيائيّة والطّبيعيّة، وكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة ، وكليّة الحقوق والعلوم السّياسيّة والاقتصاديّة، وكليّة الطّبّ والصّيدلة، ودار المعلمّين العليا . ثمّ أضيفت إليها في فترات لاحقة كليّة الشّريعة وأصول الدّين ومعهد الدّراسات التّجاريّة العليا ثمّ معهد بورقيبة للّغات الحيّة فمعهد الصّحافة وعلوم الإخبار.

ولعلّ واجب الوفاء لروّاد التّعليم العالي يقتضي ذكر الأساتذة الأوائل والمؤسّسين في مختلف الاختصاصات، ومن بينهم عدنان الزمرلي والبشير التّركي ومحمّد الفقي في العلوم والشّاذلي العيّاري في الاقتصاد ومحمّد الشّرفي والصّادق بلعيد في الحقوق وأحمد عبد السّلام والشّاذلي بويحيى ومحمّد الطّالبي وفرحات الدّشراوي وصالح القرمادي في الآداب العربيّة ومحمّد ستهم ومحمّد المعموري في الأنقليزيّة وعمّار المحجوبي وحمّادي الشّريف وهشام جعيّط في التّاريخ وحافظ ستهم وأحمد القصّاب والحبيب عطيّة ومحمّد العوّاني في الجغرافيا وعبد الوهاب بوحديبة وفاطمة الحدّاد في الفلسفة والشّاذلي الفيتوري في علم النّفس.

بعث مناظرة التّبريز والمرحلة الثّالثة

في 1 جويلية 1968 عوّض أحمد بن صالح محمود المسعدي على رأس كتابة الدّولة للتّربية القوميّة، وكان من أولى القرارات التّي اتّخذها المسؤول الحكومي الجديد إلغاء رئاسة الجامعة – وكان يتولّى هذه الخطّة أحمد عبد السّلام – وتعويضها بإدارةٍ للتّعليم العالي على غرار إدارتي التّعليم الابتدائي والتّعليم الثّانوي. وممّا جاء به القانون الجديد لتنظيم التّعليم العالي (4/1/ 1969) إقرار مبدإ انتخاب عمداء الكليّات ومديري المعاهد والمدارس العليا فنُظّمت أوّل انتخابات منذ أكتوبر 1970.

وخلف الشّاذلي العيّاري أحمد بن صالح في بداية 1970، فكان من مميّزات مروره بوزارة التّربية القوميّة بعث مناظرة التّبريز بمبادرة من أساتذة قسم العربيّة، وهكذا جرت المناظرة الأولى في جوان 1971. ثمّ تتابع بعث هذه المناظرة في اختصاصات أخرى وإنْ بشيء من التّأخير فبُعثت مناظرة التّبريز في الفلسفة سنة 1978 ثمّ في التّاريخ والجغرافيا سنة 1985، وبعد ذلك في الرّياضيّات والفيزياء سنة 1992 وفي التّكنولوجيا والاقتصاد والتّصرّف والفرنسيّة والأنجليزيّة سنة 1993.

وبالتّوازي مع بعث مناظرات التّبريز في السّنة الجامعيّة 1970 – 1971 شرعت كليّة الآداب وكليّة العلوم في إعداد نصوص للدّراسات العليا تهمّ مستوى الحلقة الثّالثة ومستوى دكتورا الدّولة، وعلى هذا النّحو شهدت كليّة الآداب مناقشــــة أوّل شهــادة كفاءة في البحث في مــاي 1970 ومنـــاقشـــة أوّل شهـــادة تعمّق في البحث وأوّل دكتورا دولة سنة 1979.

وزارة خاصّة بالتّعليم العالي

بُعثت في سبتمبر 1978 وزارة مستقلّة تُعنى بشؤون التّعليم العالي، وبذلك انفصل التّعليم العالي لأوّل مرّة عن وزارة التّربية، وكان لهذه الاستقلاليّة آثارها الايجابية فقد شُرع صلب الوزارة الجديدة في التّفكير في قطاع البحث العلميّ وبُعثت لذلك الغرض لجان خاصّة بدأت متعثّرة ولكنّها انتهت إلى نتائج ملموسة، فتمّ إنشاء إدارة للبحث العلميّة ووفّرت الوزارة إمكانيّات ماديّة مُشجّعة لكلّ مشاريع البحث التّي اقترحتها المؤسّسات الجامعيّة في مختلف الاختصاصات. وتمّ في سبتمبر 1982 إصدار قانون أساسيّ لرجال التّعليم العالي والبحث العلميّ. وفي المحصّل فإنّه مع بعث الوزارة الجديدة تعمّق الوعي بالمشاكل والتّحديّات الماثلة أما القطاع وبدأ التّفكير في إدخال الإصلاحات الضّروريّة فأقّرت العودة مثلا إلى نظام الجامعات فتكوّنت ثلاث جامعات : جامعة تونــس للشّمــال وجامعة المنستير للوسط وجامعة صفاقس للجنوب.

وشهدت عشريّة التّسعينات طفرة واضحة في عدد المؤسّسات الجامعيّة وعدد الطّلبة، وتمّ تعميم بعث مؤسّسات للتّعليم العالي في الجهات الدّاخليّة. ولئن كان لهذا الخيار بعض الانعكاسات الإيجابيّة فإنّه ساهم في تدنّي مستوى التّكوين وتشتيت الأقطاب الجامعيّة الكبرى والإفراط في اللّجــوء إلى الأساتذة العرضيّين.

ومهما يكن من أمرٍ فإنّ الجامعة التّونسيّة تظلّ مصدرا من مصادر الفخر لدى التّونسيّين فقد منحت البلاد مئات الآلاف من الكفاءات العليا والخبرات وأهل الذّكر في جميع التّخصّصات وساهمت بقسط وافر في ما لبلادنا من إشعاع بفضل تألّق أساتذة الجامعة ونتاج الجامعة في الخارج. وقبل ذلك وبعده كانت الجامعة وماتزال منارة المعرفة وأيقونة الحداثة وقاطرة التّنوير.

 الحبيب الدّريدي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.