التطبيع: حرب المصالح والتباس المفاهيم

التطبيع: حرب المصالح والتباس المفاهيم

عادت مسألة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي مرّة أخرى إلى رحاب البرلمان التونسي في الجلسة التي خصّصت لمنح الثقة لحكومة يوسف الشاهد في نسختها الجديدة، ولم تكن من قبل قد غابت عن أيّ جلسة مماثلة، فهذه المسألة تعتبر واحدة من أهمّ نقاط الارتكاز التي تعتمدها بعض أطياف المعارضة في دراسة ملفّات المرشّحين للوظائف السامية في الدولة وفي الاعتراض على هذا التعيين أو ذاك.  ورغم الاختلافات الظرفية التي تحدّدها المصالح والتجاذبات الحزبية والإيديولوجية فإن العائلات السياسية تتّفق مع الرأي العام ظاهريا في رفض كلّ أشكال التطبيع، لكنّها تختلف إجرائيا في تحديد المدى الذي يمكن أن يبلغه هذا الرفض. تتّـفق من حيث المبدأ على التمييز بين الديانة اليهودية والحركة الصهيونية تأسيسا على التنوّع العقائدي الذي يميّز بلادنا منذ القدم، وتأكيدا على أهميّة القضية الفلسطينية في الوجدان الشعبي العام بوصفها قضية العرب الأولى، لكنّها تختلف عمليا في استراتيجيات التفاعل مع المتغيّرات الدولية التي تريد أن تجعل من التعامل مع «دولة إسرائيل» أمرا واقعا، لا سيما في ظلّ تعاظم النفوذ الإسرائيلي وعدم ابتعاد القضية الفلسطينية عن المربّع الأوّل رغم التنازلات الكثيرة.

لكن كلّ الدلائل تشير في تونس اليوم إلى أنّ مجرّد التفريق بين اليهودية والصهيونية لم يعد كافيا لحلّ المعضلة الديبلوماسية والسياسية، فهذا الموقف هشّ لأنّه ينبني على التباس في المفاهيم، ولم يعد يفي بالحاجة لتفادي شبهة «التطبيع» في كلّ ما يستجدّ من تطوّرات لا تتجلّى فيها العلاقات مع الكيان الإسرائيلي بشكل مباشر. كما إن مفهوم التطبيع في حدّ ذاته لم يخضع لمراجعة أو إعادة تحديد رغم كلّ التطورات الميدانية والديبلوماسية التي شهدها الملفّ الفلسطيني على امتداد الأربعين سنة الماضية لا سيما بعد إمضاء معاهدة كامب دافيد الأولى التي فصلت نهائيا بين عهدين في سياق العلاقات العربية الإسرائيلية.

أبرز دليل على ذلك ما حدث عند الإعلان عن افتتاح فرع محلّي «للرابطة الدولية لمناهضة العنصرية ومعاداة السامية، ليكرا» حيث أكد المشرفون على هذه الجمعية التي تحصّلت منذ بداية العام الجاري على تأشيرة عمل قانونية أنّها ستعمل على «حماية الأقليّات الدينية في تونس كاليهود والمسيحيين والبهائيين، إضافة إلى مكافحة العنصرية والدفاع عن حقوق المثليين»، لكن حزب «المسار» في تعليله القرار الذي اتّخذه بتجميد عضوية الحبيب الكزدغلي العميد السابق لكلية الآداب تحفّظيا على خلفية مشاركته في أنشطة الجمعية أكّد التوجهات الصهيونية لهذه المنظمة في علاقتها بالرابطة الأم، ودعم هذا الموقف سليم اللغماني أستاذ القانون العام وعضو لجنة الحريات الفردية والمساواة عندما نشر اعتذارا عن مشاركته في نشاط للجمعية معلّلا اعتذاره باكتشاف ارتباطاتها الصهيونية.

واعتبرت الهيئة الوطنية لمناهضة التطبيع والصهيونية ودعم المقاومة أنّ افتتاح فرع لمنظّمة معروفة بدعمها للكيان الصهيوني «عمل يهدف إلى اختراق الأكاديميين وفرض التطبيع» كما اعتبرت الهيئة الوطنية للمحامين أن الكيان الصهيوني «يسعى إلى كسر الحصار المفروض عليه عبر اختراق الهيئات المهنية والجمعيات الموجودة في تونس بشكل مدروس ومكثّف وبطريقة تُنبئ بتطوّر منظومة الصهيونية في تونس عبر الجهات غير الرّسمية».

وكانت تلك هي المرّة الثانية التي تثار فيها بشكل حادّ قضيّة التطبيع في غضون شهر واحد فقط، فقد أقامت بعض أحزاب المعارضة والهيئات المناهضة للتطبيع دعوى عاجلة ضدّ الكشّافة التونسية أصدرت إثرها الدائرة الاستعجالية في المحكمة الابتدائية قرارا بمنع وفد إسرائيلي من المشاركة في «الملتقى العالمي لسفراء الحوار بين الأديان» الذي نظّمته هذه المنظمة مع الاتحاد العالمي للكشّاف المسلم. وعلى سبيل المثال يتجلّى التباس المفاهيم بوضوح في ردود أفعال بعض الجهات التي طالتها تهمةُ التطبيع، فالكشّافة التونسية نفت في بيان أصدرته بعد الحكم المذكور التعامل مع أيّ طرف إسرائيلي موضّحة أنّها وجّهت دعوات إلى ممثّلي الهيئات الدينية المُعترف بها رسمياً كهيئات استشارية ضمن الكشّافة العالمية، مع التأكيد على أنّ الملتقى يهدف إلى نشر ثقافة السلام والحوار المتحضّر بين ممثّلي الأديان في العالم بما في ذلك الديانة اليهودية. أمّا الحبيب الكزدغلي فرغم نفيه في تصريحات صحفية الانتماء إلى مكتب فرع منظّمة «ليكرا» في تونس أو تولّيه رئاستها الشرفية أكّد أنّه يساند الأفكار التي تدافع عنها هذه الجمعية الشبابية بوصفها تعمل ضدّ العنصرية والتمييز.

يضاف إلى هذين الحادثتين النموذجيتين ما هو مسكوت عنه عادة في الزيارة السنوية إلى «الغريبة»، حيث يهرول إلى جربة كافّة ممثلي الطبقة السياسية لاستقبال الحجّاج والتقاط صوّر تذكارية في المعبد اليهودي تثمينا لفضيلة التّسامح الديني وتوظيفا لهذه الصورة لا سيما على نطاق العلاقات الخارجية لأحزابهم، لكن الجميع يغضّون الطرف على أنّ غالبية هؤلاء السياح قادمون من إسرائيل، وأنّ قدومهم من وجهات مختلفة بجوازات أوروبية في الغالب هو جزء من السيناريو الموضوع بعناية للمحافظة على الوضع كما هو، بما يتيح للدولة الاستفادة من السياحة الدينية سياسيا واقتصاديا دون أن يُعتبر ذلك شكلا من أشكال التّطبيع أو يؤدّي إلى إنشاء علاقات مباشرة مع الكيان الإسرائيلي.

وهكذا تواجه كثير من المسوغات التي تدخل في باب القيم الإنسانية كالتسامح الديني أو نبذ العنصرية حقيقة تاريخية محرجة، وهي أنّ جوهر الحركة الصهيونية ديني ومنه انبثق العمل السياسي العنصري المتجسد عمليا في «إنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين». وكلّ تفريق بين اليهودية والصهيونية يستوجب حينئذ استحضار العنصر الغائب والأكثر أهمية وهو الموقف من فكرة «دولة إسرائيل» في حدّ ذاتها ومن تطوّرات الوضع على الميدان حيث تواصل سلطات الاحتلال عرقلة الحلّ السياسي بإقامة المستوطنات على الأراضي المحتلّة ومحاصرة الشعب الفلسطيني في غزّة ناهيك عن الضغط الصهيوني المسلّط على المجتمع الدولي لاعتبار كل أشكال المقاومة إرهابا. ولذلك، وانطلاقا من تقاطع المصالح الاقتصادية مع التوجّهات السياسية ذهبت بعض أطراف المعارضة إلى جوهر الموضوع مباشرة في جلسة منح الثقة لوزراء الحكومة الجدد عندما طالبت رجل الأعمال اليهودي رونيه الطرابلسي المكلّف بوزارة السياحة بإعلان موقف صريح من إسرائيل وممارساتها إزاء الشعب الفلسطيني، وهو المخرج الذي يمثّل لديها حلاّ مقبولا لتجاوز الالتباس والتمييز بدقّة بين التعايش الديني والتطبيع السياسي فمن الشائع أنّ كثيرا من اليهود يناهضون الفكرة الصهيونية ويدافعون عن حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية أيضا.

لكن استدراج هذا الطرف أو ذاك إلى موقف واضح ومحدّد من إسرائيل فكرة وكيانا وواقعا أمر لا يخلو بدوره من فخاخ كثيرة منصوبة، فالساحة السياسية منقسمة بين توجّهين، أحدهما مثالي موغل في الالتزام ويجعله التطرّف الإيديولوجي يلاحق في مسألة التطبيع حتّى النوايا المضمرة، وهو موقف يزايد من موقع المتفرّج حتّى على الفلسطينيين أنفسهم، فبعد ربع قرن من اتّفاق أوسلو، وفي ضوء الإجماع الحاصل على ألاّ أفق للقضية الفلسطينية إلاّ على أساس الدولتين وانحصار الأولويات النضالية في قضيّة وقف الاستيطان وحقّ العودة وملّف القدس،   ما يزال الكثير من السياسيين المحليين يطرحون قضيّة التطبيع بمعايير الخمسينات ويحلمون بإزالة إسرائيل من الخارطة وإلقاء شعبها في البحر. أمّا الموقف الثاني فموقف براغماتي يتبنّاه عادة كلّ من يجلس على كرسي السلطة، يأخذ بعين الاعتبار إكراهات الالتزامات الدولية والمنظمات العالمية حيث يلتبس الموقف الرافض للفكرة الصهيونية بمعاداة السامية، ويكتفي بإعلان المساندة المطلقة للشعب الفلسطيني ورفض التطبيع وتيسير كل أشكال مناهضته في الشارع وعن طريق الجمعيات والفعاليات دون الوصول إلى تجريمه، وهو المستفيد الأوّل من التباس المفاهيم لخدمة مصلحة سياسية لا تستقيم بالذهاب بعيدا في الرفض والممانعة.

عامر بوعزّة

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.