أخبار - 2018.11.30

نور الدّين بن محمود (1914 – 1990) : كالنّسر فوق القمّة الشّمّاء

نور الدّين بن محمود (1914 – 1990) : كالنّسر فوق القمّة الشّمّاء

لاشكّ في أنّ المرحوم نور الدّين بن محمود علم بارز من أعلام الصّحافة والأدب والفنون في القرن الماضي، ويُلاحظ النّاظر في سيرته وآثاره أنّ الرّجل وُهب عبقريّة نادرة وذكاء وقّادا، فقد اجتمع له من المَلَكات والمواهب والخصال ما يعسر اجتماعه عند رجلٍ واحد، وما ظنّك بشابّ باشر الوظائف الإداريّة وهو دون العشرين من العمر وحرّر في الصّحف والمجلّات الأدبيّة وهو بين الطّفولة والشّباب ثمّ ترأّس تحرير عدد منها وما يزال يافعا، وحصل في أثناء ذلك على الإجازة في الآداب من كليّة «بوردو» بفرنسا، ثمّ كان أوّل المنتسبين إلى الإذاعة التّونسيّة الوليدة سنة 1938 وسرعان ما تولّى منصب الكاتب العامّ للقسم العربيّ بها، وهو إلى جانب هذا كلّه يكتب للمسرح والسّينما ويؤسّس الصّحف والمجلّات ويكون صاحب امتيازها، وعندما اضطرّ إلى مغادرة وطنه تراه يُحرّر في منابر إعلاميّة ذات صيت عالميّ بعيد ثمّ يعكف على ترجمة معاني القرآن الكريم وتُوكل إليه مهمّة إنجاز القسم الخاصّ بالإسلام في دليل الدّيانات بفرنسا. فلا جدال في أنّ هذه الخصال لا تلتقي إلّا عند رجل ألمعيّ، دائب الحركة والنّشاط، ثاقب الذّهن، جريئ مغامر لا يخشى الصّعاب.

بين جهود التّحصيل وإغراء «صاحبة الجلالة»

لم تكن طريق نور الدّين بن محمود إلى إثبات ذاته وتحقيق طموحاته طريقا ممهّدة سهلة، فقد واجه منذ طفولته محنة طلاق الوالدين وكابد قسوة زوجة الأب وحيفها وتسلّطها ولكنّه صبر وكافح وجنى ثمرة كفاحه.

تعلّم بن محمود بالمدرسة القرآنيّة بنهج سيدي بن عروس، ثمّ بمدرسة خير الدّين العربيّة الفرنسيّة وتحصّل منها على الشّهادة الابتدائيّة سنة 1928، ونجح في مناظرة الدّخول إلى المدرسة الصّادقيّة ، ولكنّه عدل عن الصّادقيّة بعد سنوات قليلة لينتسب إلى مدرسة اللّغات والآداب العربيّة بالعطّارين حيث نال شهادة «البروفي» ثمّ الشّهادة العليا في التّرجمة. ورغم دخوله سلك موظّفي الأوقاف فقد سجّل بكليّة الآداب ببوردو التّي حصل منها على الإجازة سنة 1935 بعد إعداد رسالة حول «ابن رشيق ناقدا وكاتبا وشاعر بلاط». اقتحم بن محمود السّاحة الإعلاميّة والأدبيّة أواسط ثلاثينات القرن الماضي وافر الثّقة بنفسه راسخ العزم على احتلال المكانة التّي هو بها جدير في أوساط أعلام المثقّفين ومشاهير الأدباء، فحرّر بداية في جريدة «الإرادة» الموالية للحزب الحرّ الدّستوريّ القديم وكان صاحبها محمّد المنصف المنستيري أحد قادة الحزب، ثمّ في جريدة «النّديم» لحسين الجزيري وجريدة «الزّهرة» واسعة الانتشار آنذاك. وأنشأ وهو في العشرين من عمره نشريّة أدبيّة عنوانها «المروج « صدر منها عدد واحد في سبتمبر 1935. وتقديرا لنشاطه الدّؤوب وحزمه وغزارة إنتاجه الصّحفيّ والأدبيّ اختاره حمّودة قوجة صاحب مجلّة «الأفكار» ليكون رئيسا لتحريرها في نوفمبر 1936.

بن محمود من أقطاب الإذاعة التّونسيّة

وقد هيّأته خبرته الصّحفيّة المكتسبة وما كان يمتاز به من بديهة حاضرة وفصاحة وقدرة على الارتجال وإتقان للّسانين العربيّ والفرنسيّ ليكون أوّل النّاجحين في المناظرة التّي فتحتها الإذاعة التّونسيّة في سبتمبر 1938 لانتداب مذيعين ومترجمين للعمل بها ، فكان أحد روّاد الإذاعة إلى جانب الكاتب العامّ للقسم العربيّ عثمان الكعّاك ومحجوب بن ميلاد وعبد العزيز العروي ومصطفى بوشوشة.  وأنتج في تلك الفترة عديد البرامج القيّمة والمسامرات الأدبيّة والفكريّة، وتولّى تغطية عدد من الأحداث الهامّة ولا سيّما مواسم الحجّ إلى بيت اللّه الحرام التّي كان يُؤمّنها عبر مراسلات متميّزة بوصفه موفدا للإذاعة. وكان لا بدّ أن تُكلّل جهوده في خدمة الإذاعة بالنّجاح وأن يُعتَرف له بفضل المساهمة في وضع هذه المؤسّسة النّاشئة على الطّريق الصّحيح فتمّ اختياره في أوت 1943 كاتبا عامّا للقسم العربيّ للإذاعة خلفا للأستاذ عثمان الكعّاك تقديرا لما أبداه طيلة سنوات عمله الأولى بها من كفاءة وتفان ونشاط.  وقد عرفت الإذاعة في فترة تولّيه هذه الخطّة تطوّرا واضحا من حيث البرمجة والإشعاع داخليّا وخارجيّا، إذ أمكن له أن يُوظّف صداقاته العديدة وشبكة علاقاته المتطوّرة في أوساط الصّحافة والأدب والفنّ والوشائج التّي تربطه بأبرز الشّخصيّات الفكريّة والثّقافيّة الفاعلة للرّفع من مستوى الإنتاج الإذاعي وتنويعه وإثرائه.

وشهدت تلك المرحلة مساهمات نوعيّة لأعلام مرموقين من أمثال الشّيخ الفاضل بن عاشور والعربي الكبادي وعثمان الكعّاك والشّاذلي النّيفر والهادي العبيدي وحسين الجزيري وأحمد خير الدّين ومحمود بورقيبة وجلال الدّين النّقّاش، ومن الممثّلين أحمد بوليمان وحمّودة معالي، ومن الرّياضيّين ابراهيم المحواشي، ومن الفنّانين شافية رشدي وفتحيّة خيري وصليحة وعلي الرّياحي والهادي الجويني. وممّا يُسجّل لابن محمود الكاتب العامّ للإذاعة تنظيمه أوّل ذكرى إذاعيّة لأبي القاسم الشّابّي في نوفمبر 1943 وتغطية فعاليّات مهرجان ألفيّة أبي العلاء المعرّي في مارس 1944. إلّا أنّ بن محمود فاجأ الجميع بتقديم استقالته في ماي 1946 بسبب خلافات مع السّلط الاستعماريّة التّي شدّدت الرّقابة على مضامين البرامج وضيّقت الخناق على كلّ نَفَس وطنّيّ تحرّريّ لا سيّما وأنّ بن محمود كلن يظهر ميولا دستوريّة إذ كان تلميذا للشّيخ عبد العزيز الثّعالبي وصديقا له ومناصرا للحزب الدّستوريّ القديم.

التّجربة السّياسيّة وخيار الهجرة

بعد أن طُويت صفحة الإذاعة عاد بن محمود إلى عالم الصّحافة الأدبيّة والمجلّات فصرف عنايته إلى مجلّة «الثّريّا» التّي كان قد أصدرها في ديسمبر 1943 وتواصل ظهورها إلى غاية أفريل 1950 ، وهي مجلّة أدبيّة وجدت صدى واسعا في البلاد العربيّة مغربا ومشرقا ولفتت إليها الأنظار وليس أدلّ على ذلك من اهتمام ناقد كبير مثل طه حسين بها حيث نشر فصلا شهيرا في مجلّة «الكاتب المصري» بتاريخ نوفمبر 1946 حول مجلّتي «الثّريّا» و«المباحث» التّونسيّتين. وقد عزّز بن محمود مجلّة «الثّريّا» بصحيفة إخباريّة أسبوعيّة جامعة هي جريدة «الأسبوع» التّي امتدّ ظهورها بين ديسمبر 1945 وجانفي 1956 وصدر 414 عددا، وكانت منبرا لأهمّ الأقلام التّونسيّة في الأدب والفكر والثّقافة والفنون.

وعُرفت «الأسبوع» بتوجّه وطنيّ تحرّري واضح ممّا جعلها عُرضة للرّقابة الاستعماريّة المُشدّدة لا سيّما وقد كانت من الصّحف المنادية بالاستقلال وبعودة المنصف باي إذ كان صاحبها «منصفيّ» المهجة والهوى، وقد أمكن لبن محمود أن يزور المنصف باي في منفاه بمدينة «بو» الفرنسيّة قبيل وفاته وأن ينشر تحقيقا في عددين عن لقائه بالباي. ولمّا جدّ الخلاف البورقيبي اليوسفي بشأن اتّفاقيّات الاستقلال الدّاخلي اختار بن محمود الانضمام إلى صفّ صالح بن يوسف وسخّر جريدة «الأسبوع» للتّرويج لموقف اليوسفيّين وانتقاد سياسة المراحل البورقيبيّة ممّا عجّل بإيقاف الصّحيفة في 28 جانفي 1956. ولم يجد بن محمود من حلّ أمام احتداد الخلاف والانزلاق إلى العنف سوى الهجرة إلى فرنسا فسافر في 15 فيفري 1956، وعمل هناك مترجما بإحدى الشّركات السّينمائيّة ثمّ محرّرا بوكالة الأنباء الفرنسيّة، كما تعاون مع عدّة صحف ومجلّات عربيّة وفرنسيّة وانتهى إلى تأسيس مطبعة خاصّة. وبالتّوازي مع نشاطه في الصّحافة والنّشر اتّجه إلى الإنتاج الفكريّ فأقدم على ترجمة معاني القرآن سنة 1967 ونشرها في طبعة فاخرة. ودُعي في السّنة نفسها إلى تحرير القسم الخاصّ بالإسلام من كتاب «دليل الدّيانات بفرنسا» وهو عمل لا يُناط إلّا بكبار المختصّين.

عاد بن محمود إلى تونس سنة 1973، غير أنّه ظلّ يتردّد على فرنسا إلى أن استقرّ نهائيّا بأرض الوطن سنة 1989 حيث تفرّغ لكتابة مذكّراته ، ولكنّ المنيّة عاجلته يوم 16 أكتوبر 1990 عن سنّ 76 عاما ودُفن بمقبرة سيدي يحيى بالعاصمة حيث أبّنه ورثاه الأديب الرّاحل الحبيب شيبوب. وبرحيله فقدت تونس فارسا بارعا من فرسان القلم وإعلاميّا فذّا ومثقّفا أصيلا. كانت حياته رحلة كفاح مرير وعطاء غزير وحركة دؤوب . وما أشبه تجربته بتجربة «سيزيف» قُدّر عليه أن ينهض بعبء ثقيل وكلّما شارف على بلوغ قصده يتبخّر الحلم فيستأنف كَرَّة جديدة ، كذا كانت رحلته مع الإذاعة مسارا لم يكتمل، ومع «الثّريّا» مجدا لم يبلغ غايته، ومع «الأسبوع» مشروعا قُضي عليه أن يُجهض دون إتمام رسالته. ولكن حسبه أن كان له دوما شرف المبادرة والإقدام، فعاش رغم الدّاء والأعداء كالنّسر فوق القمّة الشّمّاء.

د. الحبيب الدريدي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.