عامر بوعزة: المرء حديث بعده

عامر بوعزة: المرء حديث بعده

أعزو دائما إخفاقي في اجتياز دورة سبتمبر من امتحان سنتي الجامعية الأولى بكلية الآداب إلى ظروف ذلك العام الاستثنائية وإلى شهري جويلية وأوت اللذين يصعب على طالب عشريني أن يهرب من غوايتهما إلى الدفاتر والكتب! لكنني أدين بنجاحي في الدورة الثانية إلى رجل شهم وشجاع ونبيل لم ألتقه في حياتي إلا مرتين فقط!

لم يعرف حقل التربية والتعليم في تونس منذ الاستقلال عواصف ورياحا أشدّ من تلك التي هبّت عليه العام 1986.فعندما كانت حكومة محمد مزالي تلفظ أنفاسها الأخيرة في ظلّ أزمة اقتصادية خانقة أشرفت فيها البلاد على الإفلاس، اندلعت في مختلف الأجزاء الجامعية مواجهات عنيفة مع السلطة جوبهت بحملات اعتقال واسعة النطاق، وفتحت «رجيم معتوق» ذراعيها لاستقبال زعماء الحركة الطلابية والقادة المؤثرين، واتخذ التجنيد الإجباري والإبعاد في الخطاب الرسمي شكل الواجب المدني والمساهمة الإيجابية في تنمية المناطق الصحراوية.

حطّم البوليس مبيت منوبة الجامعي في ليلة تاريخية لا تنسى، اقتلع أبواب الغرف وألقى بالكراسات والكتب في الأحواض والمراحيض، لم يعد المبيت صالحا للاستعمال بتاتا، ونسبت الرواية الرسمية ذلك الفعل المشين إلى «الفئة الضالّة من الطلبة وشرذمة المفسدين»، وأمر بورقيبة بإغلاق الكلية، ثم سلّم مفاتيح التعليم العالي إلى طبيبه الخاص عمر الشاذلي بعد عزل عبد العزيز بن ضياء مخترع نظرية الخراطيش التي ضيّقت منافذ الجامعة وجعلتها خرم إبرة لا ينفذ منه إلا عدد قليل سنويا.

ظلّت الدروس شبه متوقّفة في كلية منوبة طيلة شهر رمضان، فاضطرت الوزارة إلى ترميم المبيت المنكوب وإعادته إلى ساكنيه، وقرّرت إدارة الكلية استئناف الدروس إلى نهاية شهر جوان، وتأجيل الامتحانات بدورتيها إلى شهري سبتمبر وأكتوبر على أن ينطلق العام الجديد بقليل من التأخير، واضطرت السلطة إلى إغلاق مركز «الأمن الجامعي» الذي شيدته داخل المبيت بعد أن باتت الكلية خارجة عن السيطرة تماما. لقد كان شبح السنة البيضاء يحلّق في الأجواء بجناحين عريضين، وكان ينبغي إبعاده بكل الوسائل حتى أن رئيس الجمهورية اضطرّ بعد الإعلان عن نتائج هزيلة في امتحان الباكالوريا إلى إقرار دورة استثنائية لتحسين نسب النجاح.

كان كل شيء يسير بخطى حثيثة إلى الهاوية. عزل بورقيبة عضده الأيمن، وبدأ التمهيد لمحاكمته بتهمة الفساد، فانتهى به الأمر بعد شهرين إلى الهروب متنكرا عبر الغابات الحدودية في شكل بدا مضحكا عندما نشرت الصحف النبأ مرفقا بصورة تقريبية رسمتها أجهزة الأمن. كانت صائفة مليئة بالإثارة والتشويق مثل أفلام السينما التي ظللنا حتى بدايات الثمانينات نشاهدها على حائط الشعبة الدستورية عندما تأتي شاحنة وزارة الثقافة «السيتروان» الرمادية إلى قريتنا.

وكانت دورة أكتوبر تبدو مثل نقطة ضوء في آخر النفق المظلم، فمجموعي في الدورة الأولى لم تكن تفصله عن الدرجة المطلوبة للنجاح الاّ نقطة ونصف. السبب في ذلك عدد هزيل في امتحان التعريب والنقل العقبة الكأداء في قسم اللغة والآداب العربية، ولم تكن الصرامة العلمية تسمح بالإسعاف.فعدت إلى العاصمة،وشرعت مع بعض الرفاق في البحث عن مكان نراجع فيه جماعيا، ففي المكتبات العامة لا يمكن التدخين واحتساء القهوة، وفي المقاهي لا يمكن التركيز بشكل جدّي على الدراسة خصوصا عندما يتعلق الأمر بمجموعة مختلطة من الطلبة والطالبات.

كانت العاصمة تغرق شيئا فشيئا منذ ساعات الصباح الأولى في حرارة ثقيلة خانقة تجعل الحركة في شوارعها أشبه بالطنين. لا أذكر كيف اهتدينا بعد طول تسكّع إلى المركز الثقافي لشركة السكك الحديدية، كانت بناية متاخمة لمحطة قطارات الأحواز في ساحة برشلونة، هناك حيث الاكتظاظ والضجيج طيلة ساعات النهار يختلط المسافرون والغرباء والباعة المتجولون والمتشردون في سمفونية عجيبة، وتتمازج الأرواح لتعطي للمدينة معنى مختلفا يجعلها كما لو كانت صورة من شعر «عزراباوند» أو «إليوت».

في ذلك النادي يلتقي أعوان شركة السكك الحديدية بين سفرتين أو خارج أوقات العمل، ويأتي المتقاعدون وكأنما هم في حاجة إلى أن يظلّوا دائما على مقربة من صفير القاطرات وضجيج المسافرين وصرير محوّلات السكة ليستطيعوا مواصلة الحياة بتؤدة حتى النهاية، وكان مدير النادي الممثل المسرحي «أحمد معاوية» يحرس في هذا الزحام أرواحهم التي لا تستطيع الابتعاد كثيرا عن ساحة برشلونة. التقيناه، كان في مطلع الأربعين، وسيما، يحتفظ بأناقة رجال السبعينات وجاذبية رجال المسرح الذين كنت أراهم وأنا طفل في محيط المسرح البلدي وفي مقهى الفلورنس بشارع قرطاج. أصغى إلينا مبتسما ونحن نحدثه عن رغبتنا في التردد على هذا المبنى للمراجعة دون أن تكون لنا أيّ صلة بالشركة أو بسككها، وكان يمكن أن يصرفنا بلباقة لهذا السبب بالذات، لكنه نهض من مكتبه وفتح غرفة مجاورة غير مستخدمة، وسلّمنا مفاتيحها، ثم أشار إلينا بأن نجلب طاولة وبعض الكراسي من القاعة الكبيرة حيث يجلس رواد النادي طيلة اليوم للعب الورق والشطرنج وتبادل الشجون والذكريات، وقال: المفتاح سيبقى معكم، تستطيعون المجيء في أيّ وقت، أرجعوه إليّ عندما تكملون المراجعة.

ليس أسرع من مرور الزمن، أيام المراجعة تلك، وأعوام الدراسة الجامعية كلّها مرت مسرعة، وأكثر من ثلاثين عاما من الشوق والحنين والذكريات. ونحن نسافر من محطة إلى أخرى في قطار الحياة لم تبرح مخيلتي صور ذلك العام وموسيقاه المفضلة عندي، معزوفة بيتهوفن «رسالة إلى إلزا»، التي أستيقظ من النوم على نغماتها في الصباح الباكر من ساعة الكترونية صغيرة. وأصداء ساحة برشلونة ومطاعمها ومقاهيها، وصورة ذلك الرجل بنظرته الواثقة المطمئنة وروحه الجميلة. وكنت أفكر دائما في الأسباب التي قد تدفع مسؤولا في مؤسسة رسمية إلى أن يجازف فيسلّم طلبة غرباء لا يعرفهم مفتاح غرفة في مؤسسته ليراجعوا فيها دروسهم استعدادا للامتحان، وكان ذلك المفتاح أثمن ما يمكن أن يعثر عليه طلبة يبحثون عن مأوى في وقت ما تزال فيه المبيتات الجامعية مغلقة. وعندما بدأت العمل في الإذاعة بعد سنوات قليلة التقيته في مسرح الرباط الأثري بالمنستير في عرض مسرحي من عروض المهرجان الصيفي، فاغتنمت الفرصة لأقول له إنني مدين لك بالنجاح، وذكرته بتفاصيل ذلكالموقف الذي لم تكن ذكراه لتعني له فيما يبدو شيئا كثيرا.

عندما بلغني نبأ وفاة أحمد معاوية استيقظت في ذاكرتي صورُ تلك الأيام، وقررت الكتابة عنها، فعلى امتداد أكثر من ثلاثين عاما لم يتسن لي التعرف إليه ممثلا وفنانا، لكنني عرفت فيه الإنسان، الرجل الشهم الشجاع النبيل في زمن أصبحت فيه هذه الصفات مجرد ذكريات لا غير.

عامر بوعزة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.