مع خديجة معلى، لامفرَّ من اختيار النصفِ الملآن من الكأس..

مع خديجة معلى، لامفرَّ من اختيار النصفِ الملآن من الكأس..

سعدت، بعد ظهر وعشية السبت 24 نوفمبر، بمتابعة اللقاء الذي دعت إليه جمعية مجيدة بوليلة للحداثة بصفاقس بالاشتراك مع النيابة الجهوية للاتحاد الوطني للمرأة، الدكتورة خديجة معلى الخبيرة والمستشارة الأممية للحديث في قضيةٍ في غاية التعقيد والخطورة. ألا وهي "الأوضاع الراهنة في تونس- الجذور والآفاق". أو "تونس إلى أين؟".  وقد دار اللقاء بقصر بلدية صفاقس.

تقديم موجز

خديجة معلى هي أصيلة مدينة صفاقس. وُلدت بها، خاتمةً لعنقودٍ من أحد عشر ولدا وبنتا، وعاشت بين أحضانها طفولتَها الأولى إلى سن الثامنة في بداية سبعينات القرن الماضي، حين قرر والدها المرحوم توفيق معلى المؤمن بدور العلم والثقافة في الارتقاء بدولة الاستقلال، والحديث هنا عن خمسينات وستينات ومطلع سبعينات القرن الماضي، حين قرر أن ينتقل بعائلته إلى العاصمة حتى تواصل العائلة احتضانَ ورعايةَ أبنائها وبناتها عندما يدخلون الجامعة.. وهكذا كان! كلُ حبات العنقود ومنها خاتمتُها، خديجة، أينعت علما وثقافة وتخرجت من الجامعات، من تونس ومن فرنسا، بأعلى الشهائد، وحققت، ومازالت، نجاحات مهمة في ميادين عملها المختلفة، في داخل الوطن وخارجه!.

ضيفة جمعية مجيدة بوليلة للحداثة والنيابة الجهوية للاتحاد الوطني للمرأة، حاصلة على دكتوراه في القانون الدولي من جامعة باريس 5، ومستشارة أممية ودولية من درجة أولى. تحمل في مسيرتها المهنية التي استهلتها بالمحاماة في تونس، خبرة أكثر من عشرين سنة تنقلت فيها بين نيويورك والقاهرة، فعواصمِ ومدنِ أكثر من 60 دولة في قارات كرتنا الأرضية الخمس. فقد أشرفت على دورات تكوينية لقيادات وكوادر تلك البلدان. وأدارت في كثير منها ورشات عمل حول محاور شديدة الالتصاق، سلبا، بقضايا التنمية، من مثل ختان البنات في بلدان شرق إفريقيا، والقتل بعنوان الدفاع عن الشرف في عدد من البلدان العربية، ونوعية تأثير رجال الدين، أو القيادات الدينية في المجتمع.. وفي السياسة. ومدى فاعلية العادات والتقاليد الشعبية في تشكيل ذهنيات الأفراد والمجتمعات. وبالتالي كيف كانت كل هذه العناصر، إلى جانب غيرها، أدواتِ عرقلة أمام تحقيق التنمية المنشودة في مختلف البلدان المسماة بالساعية إلى النمو.. أو عالما ثالثا، أو بلدانَ الجنوب.. وكانت أحدث تلك الورشات قد احتضنتها منذ أيام العاصمة اللبنانية بيروت، ودارت حصصُ التدريب والحوار فيها حول مفهوم التماسك الإجتماعي، وما أدراك ما التماسك الإجتماعي. بل إنها لم تبخل على جمهور المجتمع المدني وعموم القراء في بلدها تونس بتحليل هذا المفهوم في مقال قيِّم نشرته مجلة "ليدرز العربية لعدد شهر نوفمبر، المعروض حاليا في الأكشاك. وقد زادت هذا الموضوع إثراء عندما شرحت أهمية علاقته بالسلم الاجتماعية من ناحية، وألقت الضوء على الشروط الواجبة لتحقيقه، من ناحية ثانية..

محاضرة ليست كالمحاضرات

دخلتُ القاعة المخصصة لاحتضان هذا اللقاء (د.خديجة معلّى لاتحبذ أن تصفه بـ"محاضرة")، وكُلِّي تساؤلات كيف ستفكّك هذه السيدة قضيتَنا المعقدة بخيباتنا المتكررة في تحقيق مطالب شبابنا في الشغل والتنمية العادلة والكرامة الوطنية؟ وأي الحلول ستطرحها في هذا اللقاء لتصحيح المسار؟

العائلة والقيم

الدكتورة خديجة، وبكامل التواضع والتلقائية، استهلت حديثها، بالتعبير عن فرحتها بالعودة إلى موطنها، مدينة صفاقس، وبالالتقاء بأهلها فيها وببعض صديقات الطفولة. شاكرةً هيئتي تنظيم هذا اللقاء على إتاحة الفرصة لها للوقوف أمام الجمع الحاضر الجامع كذلك لنخبة من مثقفي ومثقفات الجهة ونشيطات ونشطاء المجتمع المدني فيها. ثم قالت بوثوق تامّ، "إنّ والديَّ ربياني على قيمٍ هي التي قادت خطواتي في كامل مراحل مسيرتي الدراسية والمهنية، وفي حِلِّي وترحالي بين كل تلك المدن والبلدان والقارات، وفي لقاءاتي واجتماعاتي بمختلف الأجناس والأعراق والديانات.. هناك.. وهناك.. وهناك!".. وأضافت، "إن تلك القيم التي تربيت عليها في عائلتي، وفي محيطي الصفاقسي، منذ تلك السنوات الثماني الأولى لطفولتي في مدينة صفاقس، مثل الحب الدائم للتعلم وللعمل، وحسن التصرف في الميزانية وعدم التبذير وحب الخير للغير وغيرها، هي الأصل، والباقي على أهميته، فروعٌ ومكمِّلات"! هكذا باحت الأستاذة خديجة بلسانٍ طفولي ينضح براءة، وبتلقائيةٍ تكشف عن معدن أصيل، وبتواضع الكبار!

ديناميات النمو

ثم، بسلاسة بليغة بعيدة عما تعوّده الناس من غالب الخطباء الموغلين في التعقيد و في التهويل وفي الزعيق، عرضت علينا الأستاذة معلى أنموذجا مكبَّراً، على شاشةٍ مقامة خصيصا للغرض، لتخطيط بياني يحمل عنوانا "ديناميات النمو"، وهو عبارة عن هرم حلزوني مقسم إلى ستِ طبقات أو لفّات. كلُ واحدة منها ملصقٌ عليها عنوانُ أو إسمُ المظلة التي يصطف تحتها من يحملونها هوية لهم في سلوكاتهم، بوعي أو بلاه.. قاعدةُ الحلزون السفلَى تحمل عنوانا "الفرد". واللفة التي فوقها تحمل إسما "العائلة". أما اللفة الموالية فعنوانها هو "القبيلة". والتي تليها محجوزة لـ"الدولة". والتي فوقها لـ"الإنسانية". أما رأس الهرم الحلزوني هذا فيتربع على عرشه مقسَّم "الكون"!

تشرح السيدة خديجة، مستعينة بسبورة بيضاء وبقلم معَدٍّ للرسم البياني المراد ولكتابة الدلالات المطلوبة فتقول:"تتوزع شرائح المجتمع على هذه المقسمات. منها ماهي مقيمة على الدوام في مقسم "الفرد"، بمعنى إنّ كل اهتمامِها في الحياة مقصورٌ على شخصها وعلى ذاتها. ومنها ماهي تستمد مقومات هويتها وسلوكاتها من مقسَّم "العائلة" فيكون مدار اهتمامها الرئيسي في الصغيرة وفي الكبيرة، هو العائلة. ومنها من تكون"القبيلة" مصدر أمانها العاطفي والقيمي فتسطنبته ويسكنها فتحمله هويةً لها. ومنها من ترتقي إلى مقسَّم "الدولة"، أي إلى مرتبة المواطَنة الواعية بانتمائها إلى دولة تضبط القوانينُ علاقاتِ أفرادها ومؤسساتها ببعضهم البعض وتُوضِّحُ حقوقَهم وواجباتهم. ومن بين الشرائح التي يضمها مُقَسَّم "الدولة" هذا، مَن تمضي ارتقاءً إلى مُقَسَّم "الإنسانية" بحيث يتسع أفقُها ليشمل الإنسانَ أينما وُجِد وكيفما كان نمطُ عيشه أو كانت ديانتُه ومعتقادتُه وأصولُه.. العنصر الجامع بين الأفراد فيها يكون هو الرابطُ الإنساني وتَوقُ البشر أينما كانوا إلى التعايش السلمي وإنهاء الحروب ووضع حدٍ لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان.. وأخيراً يبقى رأسُ الهرم مقصدا للشريحة التي صعدت كلَ المدارج أو الخانات والتقسيمات السابقة ووسَّعت مداركَها واهتماماتها إلى الكون بكُلِّيتِه، من بشر وحيوان ونبات، فتراها تحلم وتعمل لأجل عيشٍ صحيٍ متوازنٍ في بيئةٍ نظيفة تُصان فيها حقوقُ البشر والحيوان والنبات، على حدٍّ سواء، في حياةٍ آمنة وفي سلام دائم".
ديناميات النمو وماحدث في تونس، في وبعد 14 جانفي 2011

هذا التشريح النموذجي يصحّ استعماله وتطبيقُه على كل المجتمعات مهما اختلفت، تقول الأستاذة خديجة. الفوارق بينها تظهر في نسب توزع وكثافة شرائح كل مجتمع على تلك التقسيمات لمعرفة مدى رسوخها أو هشاشتها في التحضر والتمدين والتقدم.

وقياساً على المجتمع التونسي، تشيد المحاضرة أولا بالإنجازات التشريعية والقانونية الرائدة التي حققتها دولة الاستقلال بزعامة رئيسها الأول الحبيب بورقيبة، والتي حققت لتونس سبقا تاريخيا على بقية البلدان العربية والإسلامية في ذلك المجال، بمئات السنين. وضربت أمثلة على تلك الإنجازات من نوع مجلةِ الأحوال الشخصية التي مكنت المرأة من حقوقٍ أساسية للاضطلاع بدور مواطني مساوٍ للرجل تُحفظ في إطارِه كرامتُها وتُحترَم حريتُها، ومن نوع إجبارية التعليم على الذكور والإناث ونشر المدارس على طول البلاد وعرضها، وتوحيدِ القضاء ليقوم على محاكم مدنية تستند أحكامُها إلى قوانين وضعية ليس إلا، وحلِ الأحباس وإيقافِ العملِ بها، والعملِ على إحلال مفهوم المواطنة والانتماء للدولة محل التقسيم القبلي العروشي.
 كل هذه الإنجازات ، تضيف محدثتُنا، شكّلت الركائزَ الأولى الأساسية لدولة مدنية حداثية مستقلة! وبرغم مظاهر الزيغ التي كانت تلاحَظ وأحيانا فقط تُحس على مرّ السنين وخاصّة في السنوات الأخيرة من حكم الزعيم الحبيب بورقيبة، وكذلك في الفترة التالية لحكمه، إلا أن بناء الدولة الحديثة ظل قائما، بل وناصعا في الظاهر إلى أن حدث "الزلزال"، وهو الوصف الذي أطلقته المستشارة الدولية خديجة معلى على الحدثِ الأكبر الذي هزّ البلاد ما بين ديسمبر 2010 وجانفي 2011. متفاديةً وصفَه بالانتفاضة أو بالثورة، تجنبا لجدلٍ قد يخرج بالحديث عن مسارِه الجوهري..

الزلزال وماكشف عنه

بعد الهَبَّة الشعبية التضامنية العاطفية التي عقِبت هروب الرئيس بن علي، ومع مرور الزمن، بدأت تُسجل تمظهرات لسلوكات لم يألفها المجتمع التونسي من قبل، تمّ إطلاق وصف الانفلات الأمني على بعضها. فهنا خلاف إلى حد التشابك بالأيدي وأكثر، بين متساكنين في منطقتين متلاصقتين لأسباب تبدو تافهة. ووهناك تنابز بالألقاب بين مجموعتين سكنيتين كانتا في الأصل تنتميان إلى قبيلتين أو "عرشين" بحسب التسمية الشائعة لدينا في تونس، أثارَها خصامٌ بين طفلين من الناحيتين أحيانا أو مجرد حادث مرور عرضي يأخذ تأويلات لاتخطر ببال، أو تجمهر أبناء مجموعة سكنية من أجل الاعتراض على بناء مشروعٍ ما يُعتزم تشييدُه في أرضٍ ملاصقة لأرضهم، فيما يرون أن منطقتهم الأكثر سكانا مثلا أولى به، مدرسةً كانت أو مستوصفاً أو حتى شق طريق. ثم أخذت هذه التمظهرات في الانتشار بأشكال متنوعة. فكشفت دراسات وبحوث وإحصائيات اهتمت بهذه المظاهر وربطتها بديناميات النمو تلك التي شرحت الأستاذة معلى ميكانيزماتها وتقسيماتها، كشفت أن نحو 80 بالمائة من الشعب التونسي مازال متموقعا في التقسيمات الثلاثة الأولى، وهي الفرد والعائلة وبالذات القبيلة التي ظلت مستحكمة في تمثلات الأفراد وسلوكاتهم، فيخفت أثرها مدة قد تطول وقد تقصر ليعود فيظهر في أشكال متنوعة. فيما يتوزع 20 % الباقون على التقسيمات الأخرى، برغم المكتسبات التشريعية والقانونية والتعليمية الرائدة التي تم التذكير بها قبل قليل. وهي المكتسبات التي أبان ذلك الزلزال الكبير أنها لم تكن متغلغلةً في أوسع فئات الشعب التونسي بالقدر الذي تحقق معه قطيعتَها مع التقسيمات الدنيا المشار إليها، وتجذرَها العضوي في التقسيمات العلوية، وأوكدها تقسيم أو خانة الدولة، حيث تكون الدولة بدستورها وبقوانينها هي مرجع الانتماء وضابط العلاقات بين الأفراد كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات ضمن وطن واحدٍ موحِدٍ للجميع !

كيف السبيل لتدارك النقائص وتقويم المسار؟

تؤكد السيدة معلّى في الإجابة على هذا السؤال أنها لاتزعم امتلاك وصفة سحرية بمجرد تطبيقها يتم وضع القطار على السكة من جديد. وتضيف أن الأمر موكول إلى كل بنات وأبناء الوطن الشريفات والشرفاء الغيورين عليه كي يوحدوا الصفوف ويبحثوا بمعية خبراء أكفاء نظيفي الأيدي عن أقوم المسالك لتصحيح المسار وإنقاذ البلاد مما تعانيه من ويلات، فيها المزمن وفيها المستحدَث. وكلها، الواحدة أخطر من الأخرى! غير إن محدثتنا تؤكد مع ذلك على بعض المسائل الأساسية واجبة التحقيق لتكون قاعدة صلبة لإنجاح كل برامج الإصلاح القادمة. فتقول " إن خيار الدولة المدنية العلمانية وفصل الدين عن السياسة هو الركيزة الجوهرية لتحقيق التماسك الاجتماعي الذي هو أساس إدامة السلم الاجتماعية" . وتضيف "إن عَلمانية الدولة هي الضامن لترسيخ الحريات الفردية للمواطنين، بما فيها حرية المعتقد والضمير، على عكس ماتنشره حملات التشويه بشأنها. ولإشاعة روح التحابب والاحترام بين جميع شرائح المجتمع وأفراده. وإدارة الاختلافات في نطاق القوانين وأعلاها الدستور، على أساس حرية الفكر واحترام الرأي المخالف. غير إن كل ذلك يبقى منقوصا في ظل انتشار الفقر والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة". وختمت السيدة معلى حديثها التلقائي الذي تفاعل معه الحضور بالتركيز التام وبالحوار الراقي حول آفاق الأوضاع الحالية في تونس، بالقول "أريد أن أطمئنكم أنني لست منتمية لأي حزب سياسي أو منظمة. بل إنّ انتمائي الوحيد، والذي يشرفني، هو انتمائي وعشقي لوطني.. وهو دافعي الأساسي لاختيار هذا الموضوع أتحدث معكم بشأنه وأعرض رؤايَ عليكم من خلال خبرتي المهنية وملاحظاتي الشخصية لسير الأمور في بلدي. وقد عمّقت كلها قناعتي بأن القادم خيرٌ من الفائت ومن الراهن. خاصة وأن البلد يزخر بكفاءات وطنية نظيفة من كل الأعمار، تتقد حماسا من أجل الإسهام في إشاعة الأمل في النفوس وتحقيق الغد المرتجى. فلم آت إليكم حاملة لموقف حزب أو اتجاه سياسي معين، لأنني مستقلة تماما، ولست منحازة إلا لحب الوطن!"

ومن بين ماورد في حوار الحاضرات والحاضرين مع الضيفة خديجة معلى، للمساعدة على إرساء أسس متينة لتطوّر البلاد، ضرورةُ إنجاز ثورة ثقافية لترسيخ قيم الحداثة والدولة المدنية المواطنية. وإصلاحُ المنظومة التعليمية وعدمُ التهاون في تطبيق القانون على الجميع وترسيخ علويته دائما وإفساح المجال للشباب ليحقق طموحاته وأحلامه في وطنه. وقد كان من بين الحاضرات والحاضرين مجموعة من فتيات السنة النهائية من التعليم الثانوي تناولن الكلمة فعبرن عن تفاؤلهن بمستقبل تونس وعن عزمهنّ على الإسهام مع كل شباب البلاد في تحقيق الأحلام المؤجلة!

مختار اللواتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.