اقتصاد - 2018.11.22

نظـرات فـي مـشـروع ميزانية الدولة لسنة 2019

نظـرات فـي مـشـروع ميزانية الدولة لسنة 2019

تشكّل الميزانية في ظاهرها عملية حسابية سنوية توافق بين مداخيل الدولة ومصاريفها وفي باطنها توجه الحكومة القائمة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية ومدى عزمها على إصلاح ما فسد من الناحية التنظيمية والهيكلية وكذلك بعد نظرها من حيث وضع الميزانية في إطار مخطط اقتصادي واجتماعي تنموي متوسط أو طويل الأمد. وعلى هذا الأساس فانّ نقد أي مشروع للميزانية لا يضع الأمور في هذا الإطار لا معنى له. ولقد أشار الحبيب بورقيبة لذلك في مقال نشره في أول عدد لجريدة «لاكسيون تونيزيان» في غرّة نوفمبر 1932 وهو يعلم جيدا أنّ المسألة تبدو فنية وصعبة الفهم لأغلب الناس وأنّها لا تثير مشاعر الجماهير بسهولة كقضية التجنيس والدفاع عن مقومات الشخصية التونسية مثلا. ورغم مرور الزمن وتطوّر آليات الحسابات العمومية وتشعّب المشاكل فإنّ الزاوية التي انطلق منها الحبيب بورقيبة في نقده للميزانية تبقى الزاوية الصحيحة التي لا بدّ لكل عاقل أن ينطلق منها للحكم لسياسة أيّ حكومة كانت أو عليها.

لا يختلف مشروع قانون المالية لسنة 2019 (236 صفحة) من حيث التوجّه العام عن قانون المالية لسنة 2018 لأنّه يصدر عن نفس الحكومة من جهة ولأنّه يقرّ الاختيارات الأساسية التي سبق أن سُنّت من جهة أخرى ولو تميّز بتعديلات أكثر ما يمكن أن يقال عنها إنّها فنّية بحتة أو ظرفيّة لا تعالج الأسباب الهيكلية لعجز ميزانية الدولة وعجز الميزان التجاري وتفاقم المديونية والتضخّم المالي وارتفاع أسعار صرف أهمّ العملات الأجنبية مقابل الدينار. ولقد ورد في مشروع قانون المالية لسنة 2019 ذكر هذه الإشكاليات بسلبية مطلقة لأنّه لم يقدّم في ديباجته ملامح سياسة بديلة من شأنها أن تخرج تونس من الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة ولو علي مراحل.

ففي مجال مداخيل الدولة سكت مشروع ميزانية 2019 عن المصدر الأساسي من ناحية العجز وهو ضعف الموارد الجبائية المتأتّية من الشركات ومن الأصناف النشيطة غير الأجراء وهو مشكل مزمن وحسّاس لا يمكن إصلاح الميزانية إصلاحا جوهريا بدونه. كما أنّ الحكومة لم تركّز على ضرورة التعديل في أمد ما بين الضرائب المباشرة والضرائب غير المباشرة وبين الحِمل الجبائي للأجراء والحِمل الجبائي لغيرهم من الأصناف النشيطة. أمّا في باب المصاريف فإنّ مشروع ميزانية 2019 سكت سكوتا غريبا عن الثقل الناجم عن التضخم الوزاري والنيابي والإطاري مشيرا فقط وبصفة مبهمة إلى العبء الثقيل الناتج عن كتلة أجور الوظيفة العمومية كما سكت أيضا عن عجز الحكومة عن فرض حوكمة رشيدة في التصرّفات المالية للبلديات والمجالس الجهوية والمؤسّسات العمومية.. وعلى هذا الأساس فانّ مشروع ميزانية 2019 لا يتّسم بروح المسؤولية ولا يعدّ معقولا بالنظر إلى حجم وخطر الأزمة الاقتصادية والمالية التي تمرّ بها البلاد حيث يمكننا الدلالة على تفاقمها من خلال مؤشّرات تهمّ المديونية وعجز الميزان التجاري وعجز الميزانية العمومية وتدهور العملة الوطنية والقدرة الشرائية وهي مشاكل هيكلية ازدادت حدّتها اعتبارا إلى الأوضاع السياسية والأمنية في حين قدّمتها الحكومة وكأنّها مشاكل ظرفية يمكن تجاوزها لو تجاوزت نسبة نموّ الناتج الداخلي الخام خمسة بالمائة سنويا وهذه فرضية ساذجة ومغالطة. وبالتالي فانّ الخلط المتعمّد بين النتائج والأسباب في الميدان الاقتصادي والمالي وغياب رؤية شاملة ومخطّط يناسبها هما من سمات مشروع ميزانية الدولة لسنة 2019 مثلما هما من خصائص الحكم في تونس منذ سنوات عديدة ولو ظهرت سلبياتها بصفة أوضح منذ 14 جانفي 2011. والسؤال المطروح  علينا جميعا الآن هو الآتي: هل يمكن إصلاح سياسة الاقتصاد والمال دون إصلاح الحكم أم لا؟

سنة 2019 ستكون حاسمة من هذه الناحية٬ فإمَّا ستكون بداية الخلاص وإمَّا بلوغ الأزمة الاقتصادية والمالية أوجها ممّا سيدفع بالبلاد إلى المجهول والتفرقة والعنف٬ وحتّى ولو تحسّنت بعض المؤشّرات كنسبة النموّ ونسبة التضخّم فإنّ هذا التحسّن سيبقى هشّا لأنّ الأسباب الهيكلية لتأزّم الأوضاع مرة أخرى ستبقى فاعلة ومردّ هذا كله بالأساس منظومة الحكم نفسها.

وبالتّالي فإنّ الوضع يقتضي مراجعة الدستور إن لزم الأمر ومراجعة القانون الانتخابي بالخصوص في أسرع وقت ممكن، أي قبل انتخابات 2019 ولو لم ننجح في ذلك فإنّ دار لقمان ستبقى على حالها إن لم تسقط جدرانها على ساكنيها.

الحبيب التهامي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.