محمّد لسير: تركيا قبل حكم الإسلاميين وبعده

محمّد لسير: تركيا قبل حكم الإسلاميين وبعده

عرفت السياسة الخارجية التركية عدة تغييرات منذ أن وضع أسسها الزّعيم الرّاحل مصطفى كمال أتاتورك تماشيا مع متطلبات الأوضاع الداخلية والخارجية، إلا أن توجّهاتها ومبادئها الأساسية لم تتغيّر قبل حكم حزب العدالة والتنمية..

وللتعرف على خصائصها يجدر التذكير بما يلي:

أ - اعتمدت تركيا في عهد مؤسّسها مصطفى كمال آتاتورك سياسة خارجية تقليدية مبنية على توازن القوى طبقا للشعار الآتاتوركي «سلام في الوطن، سلام في العالم»

« Peace at home, peace in the world».

ويرى الكاتب Sanberk، الخبير في الشؤون التركية، أنّ محاكاة الغرب (التغريب) وشبه قدسية الميثاق الوطني المعترف به من قبل معاهدة Lausanne والذي يرجع تاريخه إلى 1920 والهادف إلى إنشاء الدولة – الأمّة في الأراضي التابعة سابقا للإمبراطورية العثمانية والتي تقطنها أغلبية تركية والشعار الأتاتوركي «سلام في الوطن، سلام في العالم» هي المبادئ الراسخة التي انبنت عليها السياسة الخارجية التركية ولم تتغيّر منذ نشأة الجمهورية التركية، لذلك يعتقد أن السياسة التركية اتّسمت دوما بـ «الحذر» بما يعنيه ذلك من ابتعاد عن التهوّر والمغامرة. وكان مبدأ حسن الجوار وإرساء علاقات جيّدة مع البلدان المجاورة الدعامة الأساسية للسياسة الخارجية التركية في بداياتها. من ذلك إبرام اتفاقات وتفاهمات مع الاتحاد السوفياتي، ميثاق البلقان مع اليونان ورومانيا ويوغسلافيا (1934) ومعاهدة Montreux للمضائق (1936) وميثاق سعدباد مع العراق وإيران وأفغانستان (1937).

ب - وفي فترة الحرب الباردة، لزمت تركيا الحياد خلال الحرب العالمية الثانية، وإثر انقسام العالم إلى شقّين قرّرت تركيا الانضمام إلى المعسكر الغربي للاحتماء به ضدّ الجوار السوفياتي وأصبحت عضوا في مؤسّساته المختلفة: مجلس أوروبا (1949)، الحلف الأطلسي (1952) إلخ.... واعتمدت سياسات داخلية وخارجية موالية لأمريكا وأوروبا الغربية ممّا سمح لها بتمويل اقتصادها وتقوية جيشها وتسليحه بأحدث العتاد الحربي في مواجهة الخطر السوفياتي.

وبانضمامها إلى الحلف الأطلسي بدأت تركيا تطبّق سياسة أحادية الجانب تقيّم الأحداث من منظور الولايات المتحدة الأمريكية هدفها في ذلك تثبيت موقعها في المعسكر الغربي ممّا جعلها تشارك في الحرب الكورية. إضافة إلى ذلك، تقدّمت تركيا بطلب الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية في 1959 في إطار سعيها للاندماج في كافة المؤسّسات الغربية.

ج - موقف المجموعة الأوروبية المتحفّظ إزاء خرق حقوق الإنسـان والأقليــات والرافض للتدخــل العســكري في قبرص سنة 1974 وما تبعه من مــواقف مناهضة للسياسة التركية في المنابر الغربية، أدّت إلى حظر على الأسلحة ضدّ تركيا وإلى التشكيك في إمكانية قبولها مستقبلا كعضو في المجموعة الاقتصادية الأوروبية.

هذه التطوّرات أفضت إل عزلة تركيا في المحافل الدولية ممّا شجعها على تطوير علاقاتها مع الاتحاد السوفياتي والعالم الإسلامي ونهج سياسة خارجية متعدّدة الأبعاد.

د - لم يدم التباعد الظرفي بين تركيا والبلدان الغربية طويلا إذ شكّل الغزو السوفياتي لأفغانستان والثورة الايرانية في 1979 واندلاع الحرب بين العراق وإيران في 1980 منعرجا جديدا مكّن تركيا من فكّ عزلتها وزاد من أهميتها الاستراتيجية في نظر الولايات المتحدة والغرب عامّة بحكم موقعها الجغرافي المتاخم للاتحاد السوفياتي وإيران والعراق.

هـ - وصول Turgut Özal زعيم حزب الوطن الأمّ إلى الحكـــم (83 - 89 كـرئيس وزراء و89 - 93 كرئيس للجمهورية) أعطى دفعا جديدا للسياسة الخارجية التركية إذ كانت له رؤية خاصّة تجمع بين الليبرالية الاقتصادية والقيم الإسلامية ويعتقد الكثيرون أنّه السياسي التركي الأكثر تأثيرا في علاقات تركيا الخارجية منذ آتاتورك وبحكم نشاطه السابق في المنظمات الدولية وعلاقاته الواسعة بالدوائر السياسية شرقا وغربا، حرص أوزال على تغيير طرق عمل الدولة في المحافل الخارجية وإضفاء مرونة وحركية أكبر في السياسة الخارجية تقطع مع الأسلوب التقليدي المتحفّظ. هذه الرؤية المتطوّرة أبقت على خيار الاندماج في الفضاء الأوروبي بهدف تنمية الاقتصاد ودعم المسار الديمقراطي في تركيا لكنها بالتوازي مع ذلك طوّرت علاقاتها مع الجوار خاصة في المجال الاقتصادي وسعت جـــاهدة لاحتــلال موقع ريادي في العالم الإسلامي بحكم موقفها الديني المعتدل.

و - حكومات الائتلاف التي تداولت على تركيا في نهاية القرن الماضي باستثناء حكومة نجم الدين أربكان، ركّزت جهودها على العضوية في الاتحاد الأوروبي التي أصبحت تركيا مرشّحة لها رسميا في سنة 1999. وبحكم همومها الداخلية المتعدّدة والأزمات السياسية والاقتصادية التي مرّت بها، لم تشهد تركيا في تلك الفترة حراكا سياسيا مميّزا على الصعيد الخارجي.

بعد استلام السلطة من قبل الإسلاميين

تأثّرت السياسة الخارجية التركية الجديدة بفكر الدكتور أحمد داوود اغلو منذ السنوات الأولى من حكم أردوغان. فقد نشر داوود أغلو في أفريل 2001 كتابا تحت عنوان «العمق الاستراتيجي: المـــوقع الدولي لتركيــا» يعتبره المحللّون المرجع الأساسي للسياسة الخارجية للنظام. يرى داوود أغلو أن هناك مجموعة من المبادئ في السياسة الخارجية التركية تعتبر مرجعية لاعتمادها بصفة منتظمة من قبل الحكومات المتتالية وهي احترام الحرمة الترابية للدول وفضّ النزاعات بالطرق السلمية والانتماء إلى التحالف الغربي والعضوية في الحلف الأطلسي وتحقيق مشروع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. هذه المبادئ الأساسية تبقى صالحة بالنسبة إلى النظام الجــديـــد لكــــن ظروف ما بعد الحرب الباردة تحتّم عليه تطوير مفاهيم ومقاربات جديدة في السياسة الخارجية.

مقاربة داوود أغلو للسياسة الخارجية التركية أطلق عليها البعض اسم «الداوودية» وفسرها بأنّها إطار إيديولوجي يتخطّى الحيّز العثماني ويطمح أن يكون كونيا. الخلفية النظرية لمقاربة داوود أغلو في السياسة الخــارجية تتلخّص في اندماج أربعة عوامل أساسية قــد يطغى أو يهيمن بعضها على البعض الآخر حسب طبيعة الأحداث وظروفها وتتمثّل في ما يلي:

أ - العامل الأساسي الأوّل هو المثالية المستلهمة من فكر الفيلسوف الألماني Emmanuel Kant حول العلاقات الدولية. يرى داوود أغلو الذي يصف نفسه بالواقعي الحذر، أنّ لكلّ فاعل في العلاقات الدولية واجب احترام القيم الأخلاقية المعمول بها وكما هــو الحـــال بالنّسبة إلى الأشخاص في علاقاتهم الاجتماعية اليومية فإنّ الدول مطالبة هي الأخرى بالتصرف بصدق وبطريقة عادلة.

ب - العامل الثاني يتعلّق بالمرجعية التاريخية والثقافية كمقاربة في تفسير العلاقات الدولية والسياسة الخرجية التركية. ويعتقـد داوود أغلو أن تركيا لم تستغل الإيجابيات التي يوفّرها الموروث العثماني في تسيير علاقاتها الخارجية منذ إنشاء الجمهورية التركية. لذلك وجدت تركيا نفسها في حيرة حول كيفية التعامل مع التطورات الإقليمية التي جدّت بعد انتهاء الحرب الباردة.

وفي هذا الإطار، يرى داوود أغلو أن تسعى تركيا إلى إحداث منطقة نفوذ في الحيّز الجغرافي الخاضع تاريخيا للسلطة العثمانية.

ج - العامل الثالث هو ذو طبيعة جغراسياسية وثقافية. ويتمثل في دمج المعطى الجغراسياسي التقليدي مع العنصر الثقافي. ويشير داوود أغلو هنا إلى أنّ بيئة جغراثقافية بصدد التطوّر في العالم الإسلامي وتتمثّل أساسا في التعددية في إطار الوحدة. والعامل الموحّد في العالم الإسلامي هو الصّحوة الحضارية كردّ على داعي التعصير وتجلّياته الكونية المتعدّدة. ويضيف داوود أغلو أنّه إذا استثنينا الحزام الرابط بين ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبين روسيا شمالا والصين والهند شرقا نجد أن أقوى اقتصاد في المنطقة الوسطى هو الاقتصاد التركي، لذلك يعتقد المنظّر أن تركيا لا يمكن أن تغضّ الطرف عن مشاكل هذه المنطقة الممتدّة من البلقان إلى القوقاز والشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ويرى داوود أغلو أن نجاح تركيا في إنشاء نظام في هذه المنطقة من العالم سيمكنها من التأثير كذلك في مجريات الأحداث على الصعيد العالمي.

د - العــامل الرابــع والأخــير يتعلّق بالمنوال الاندماجي حيث يعتقد داوود أغلو أنّ هناك إمكانية لاندماج تركيا مع المناطق المجاورة وذلك بإلغاء الحواجز الاقتصادية بين الدول القائمة في نفس الحيّز الجغرافي والتي تجمعها وشائج ثقافية. هذا الاندماج من شأنه أن يوطّد التعاون السياسي في المنطقة ويقوي اللحمة بين شعوبها.

يذكر أنّ المثال الاندماجي في مقــاربة داوود أغلو للسيـاســة الخارجية يستلهـم من نظـريات (Security communities) Karl Deutsch + (Neo-functionalism) Ernest Haas وتركيا مؤهّلة، حسب هذا المنوال، لصياغة وتنفيذ سياسة خارجية مندمجة ومتعدّدة الأبعاد لأنّها تنتمي إلى هويّات إقليمية مختلفة بحكــــم تــــاريخها وجغـــرافيتها مــــمّا يحتّم عليها المشاركة الفعلية في فضّ النزاعات وإحلال السلام في كــافّة المناطق التي ترتبط بها.

أمّا آليات تنفيذ هذه السياسة فإنّها ترتكز على دعائم أساسية تتمثّل في:

  • عدم قابلية تقسيم مفهوم الأمن وتحقيق التوازن بين الحرية والأمن.
  • سياسة الحوار.

عدم تقسيم الأمن في مقاربة داوود أغلو للسياسة الخارجية يعني أن أمن بلد ما لا يجب أن يتمّ تحقيقه على حساب بلد آخر. كذلك يطرح داوود أغلو مسألة تعدّد القوميات والحساسيات العرقيّة والثقافية في المنطقة ويخلص إلى استنتاج أن التعايش السلمي بينها لا يمكن أن يتحقّق إلاّ عبر التوازن بين الأمن والحرية.

فإذا نجحت تركيا في تحقيق هذه المعادلة بدءا بمعالجة أوضاعها الخاصّة فإنّها ستقدم مثالا يمكن اتباعه على صعيد عالمي.

أمّا سياسة الحوار التي يقترحها داوود أغلو كآلية فترتكز على العناصر التالية:

أ - تنتمي تركيا إلى منطقة من العالم تستقطب جلّ المشاكل الكبرى وبإمكانها التأثير في كافة المسارات وإيجاد الحلول عن طريق الحوار والدبلوماسية. لذلك رفعت السياسة التركية الجديدة شعار «صفر مشاكل مع الجوار» «Zero problems with neighbours».

ب - يجب أن تتحرّر تركيا من مركّباتها وألاّ تخجل من هويّتها الشرقية وهي مطالبة بالتصرف كبلد شرقي في المحافل الإقليمية الشرقية وكبلد غربي في المحافل الغربية ويجب أن تصبح تركيا مؤهّلة للمشاركة في أيّ حوار حول مستقبل أوروبا بالتساوي مع القوى الأوروبية الأخرى.

هنـــاك إذن مفهـــومان أساسيان ترتكز عليهما السياسة الخارجية التركية وهما:

  • العثمانية الجديدة Néo-Ottomanisme
  • الوحدة الإسلامية Pan-Islamisme

الأول يتلخّص في كون تركيا يدفعها الحنين إلى الماضي المتمثّل في التاريخ العثماني وأنّها تطمح إلى إنشاء منطقة نفوذ تتكوّن من الأقطار التي كانت تخضع للإمبراطورية العثمانية. هذا المفهوم، للذّكر، لا يعتبر مستجدّا حسب بعض المختصّين في الشؤون التركية (Bayram Balci) الذي أشار إلى أنّ هذا المصطلح ظهر لأوّل مرّة في التسعينيات على لسان الإدارة الأمريكية التي وصفت به الحضــور التركي المأمــول في الجمهوريات الخاضعة سابقا للاتحاد السوفياتي وكان يكتسي صبغة إيجابية في الخطاب الأمريكي نظرا لرغبة الولايات المتحدة في استبدال النفوذ السوفياتي بنفوذ تركي حليف.

أمّا المفهوم الثاني –الوحدة الإسلامية - فيعني أنّ السياسة الخارجية التركية تحرّكها دوافع إيديولوجية وأنّ الهدف الذي ترمي إليه أنقرة هو تحقيق التضامن الإسلامي – وحدة الأمّة-في محاولة لبناء «كومونولث إسلامي» يدور في فلك تركيا. وبالطبع فإنّ حزب العدالة والتنمية يحنّ بموجب أصوله الاسلامية إلى حقبة الخلافة والماضي العثماني ويسعى حسب البعض إلى إحيائهما.

هذان المفهومان يتطلّبان من الناحية النظرية على الأقل امتلاك القوّة الاقتصادية والعسكرية والإيديولوجية لتفعيلهما.

فعلى الصعيد الاقتصادي أصبحت تركيا «قوّة متوسّطة» أو «قوّة إقليمية صاعدة» تسعى إلى اعتراف العالم بوضعها الجديد في محيطها الإقليمي مع العلم أنّ هناك تحوّلات جارية حاليا تتمثّل في انتقال مصادر القوّة تدريجيا من الغرب إلى الشرق ومن القوى العظمى التقليدية إلى القوى الصاعدة الجديدة التي تسعى إلى التمكين وإلى فرض وجودها على الساحتين الإقليمية والدولية. وتندرج تركيا ضمن هذه المجموعة حيث يسمح لها تصنيف البنك العالمي بأن تحتلّ لأوّل مرّة في تاريخها موقعا وسطا بين الشمال والجنوب والدول العظمى والدول الصغرى. هذه النّقلة في السلّم الترتيبي خوّل لها نموّا اقتصاديّا سريعا وصادرات ترتفع باطراد ودخلا فرديّا تجـــاوز 10 آلاف دولار. وهناك رغبة في أن تحوّل تركيا قوّتها الاقتصادية إلى نفوذ سياسي وأن تطالب بحقّها في المشاركة في تسيير شؤون العالم. ويمكن في هذا الإطار مقارنة تركيا بقوّى إقليمية أخرى تسعى بدورها إلى البروز والتموقع والتأثير في محيطها مثل إيران والهند والبرازيل وغيرها.

والدول عندما تكتسب عناصر القوّة تميل بطبعها إلى الانتشار وإلى توسيع نفوذها في محيطها وخارجه.

على الصعيـد العسكــري تحتــلّ تـــركيا الموقع الثاني في الحلف الأطلسي مــن ناحية حجم قوّاتها وهي بصدد تطوير صناعاتها العسكرية وبادرت في السنوات الأخيرة بإقامة قواعد عسكـــرية في قطر والصومال وفي المستقبل القريب بجزيرة سواكن في البحر الأحمر، التابعــة للســـودان.

ولتركيا إيديولوجيا طوّرها المنظّر أحمد داوود أغلو وتبقى سارية إلى الآن رغم إبعاد صاحبها عن دائرة القرار.

محمّد لسير

قراءة المزيد:

تقييم المقاربة الجديدة للسياسة الخارجية التركية

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.