في معاقل الخوف: تونس في سجـالها القديم الجديد

في معاقل الخوف: تونس في سجـالها القديم الجديد

1 - حين يحتجُّ سياسي وقيادي تونسي اليوم بمقولة أكديمي مصري معاصر اشتهر ببحثه النقدي في التراث الإسلامي مُعلنا بها، قُبيل وفاته، أنّه إمّا «العلمانية أو الموت»، فلا يتمالك السّامع إلاّ أن يتذكّر أسطورة «سيزيف» الإغريقية. ماذا يعني اليوم رفع شعار «العلمانية أو الموت» بعد الثورة وبعد صدور دستور الجمهورية الثانية عند مناقشة مبادرة المساواة في الإرث؟

أحد أهم دلالات رفع شعار «العلمانية أو الموت» هو أنّ السياسة في تونس المعاصرة تبقى محكومة مثل «سيزيف»، بعذاب أبدي يأْسِرُها فلا تفتأ تحمل عذاباته في عناد وعناء لا ينتهيان.

2 - في نفس الفترة وعند مشاركة سياسي آخر من عائلة فكرية  مغايرة في لقاء تلفزي عمّا يدور في الساحة الوطنية بعد الإعلان عن إنهاء  الوفاق بين «الشيخين» يندفع «السياسي» في توتّر واضح وعدائي لرئيس الحكومة الذي اعتبره ممهّدا لعودة الدكتاتورية ومهدّدا جدّيا الحركة التي ناصرته حين تألّب عليه عموم الطيف السياسي حتّى من كانوا أنصاره حزبيا. بقطع النظر عن مضمون المداخلتين وتفاصيلهما، فقد تشابهتا في تعبيرهما الحدّي ودلالتهما الصدامية. المذهل هو التقاؤهما رغم اختلاف اتجاههما فيما يشبه النفير العام المعلن عن خوف متبادل يجعلهما كأبعد ما يكون عن مقتضيات الخطاب السياسي الواعي بالسياق الحزبي والوطني والإقليمي والدولي وأقرب إلى صيحة فزع حقيقي.

السؤال الذي ينبغي طرحه يتعلّق بالسياسة عندنا: لماذا هي صارخة متوتّرة وعدائية؟ ولماذا يضيق غالب السياسيين ذرعا بمخالفيهم خاصّة إذا اتصل الأمر بالهويّة والتديّن والحداثة وما ينجرّ عنها؟

3 - بالعودة إلى السنوات الخوالي في تونس الستينات من القرن الماضي تستوقفنا وثيقة هامّة عن لقاء رسميّ نادر جمع عددا من المثقفين البارزين وكبار الفقهاء بأبرز رجال الفكر والأدب والتوجيه لمناقشة قضيّة «الإسلام ومقتضيات النهضة الحديثة». حصل هذا ضمن أعمال لجنة الدراسات والتفكير المتفرّعة عن اللجنة المركزية للحزب الحاكم بتونس. انطلقت أعمال هذه الندوة- الحدث في ربيع سنة 1967 لتنتهي صيفَ ذات السنة في تسع جلسات دُوِّنـَت محاضرها ثمّ طبعت ووُزّعت داخل الحزب قصد التعريف بالمشاغل الفكرية والإيديولوجية للنخب التونسية يومئذ.  أهميّة هذه الوثيقة في كشفها عن طور من أطوار إدارة الاختلاف السياسي- الثقافي بما يمكن أن يساعد على الإجابة عن سؤال ما يعتري مشهدنا السياسي اليوم من أداء مسكون بالروح الصدامية خاصّة عندما يتعلّق الأمر بمرجعيات اختياراتنا السياسية والاجتماعية. فرادة تلك التجربة مقارنة بأوضاعنا الحالية أنّها تجرّأت على مراجعة إشكالية تحديث المجتمع من أجل بلورة وتوليف أنموذج تونسي كان مواكبا لتجربة حارقة هي الأخرى: «التعاضد».

فائدة هذه الوثيقة المتعلقة بحوار نادر للنخب التونسية عن الإسلام والحداثة والسياسة فيما سجّلته من أفكار ورؤى ومواقف ضمن نشاط مركزي لحزب انفرد عندها بالحكم. ما تجدر إضافته هو أنّ المشرف على سير هذه الندوة وإدارة حوارها كان « أحمد بن صالح»، المثقّف والمناضل النقابي والرجل الثاني في الدولة والحزب عندئذ. ضمّ اللقاء أكثر من خمسة وعشرين شخصية تونسية منها ثلاثة فقط من أعيان رجال الفقه يتقدّمهم مفتي الجمهورية. شارك من خارج تونس ضيف ساهم في إحدى حلقات الندوة هو الداعية الإخواني والشيخ الأزهري «محمد محمود الصوّاف» أصيل بلاد الموصل!

4 -  أبرز ما يلفت النظر في مداولات هذا اللقاء أنّه طرح للحوار العلني قضيّة ما كانت لتطرح للنقاش بين نخب منضوية في حزب اعتاد أن يتابع بانضباط «توجيهات» الزعيم خاصّة ما تعلّق منها بالقضايا المصيرية من قبيل الإسلام والتنمية والعلاقة بالمشرق العربي أو الحضارة الغربية. أن يطرح موضوع «الإسلام والنهضة الحديثة» لحوار حرّ في أعلى مستويات الحزب الحاكم دليل على أنّ التوجهات السابقة المعتمدة في الموضوع أصبحت بحاجة إلى مراجعة علنية وأكيدة. إلى جانب هذا فقد كانت تركيبة الحاضرين ونوع مداخلاتهم بالغة الأهمية. من ناحية كان ممثّلو التوجّه «الفقهي» أقلية غير أنّ كلماتهم جاءت طويلة، مثيرة للنقاش ومتّفقة فيما بينها في تصوّرها العام. الجامع بينهم هو اعتبار أن تخلّف المسلمين راجع إلى العادات والتقاليد الطارئة والعاهات الاجتماعية والذهنية المتولّدة من «إهمال حقيقة الإسلام ومبادئه العليا». لذلك رفضوا القول بأنّ حالة المسلمين المتردية حجّةٌ على الإسلام بل اعتُبر الإسلام حجةً عليهم لأنه ظلّ فاعلا و مددا «في المواقف الجهادية ومصارعة الاستعمار وتحقيق الأهداف القومية».  مقابل هذا الطرح جاءت مداخلات عموم المثقّفين قصيرة متنوّعة في أهميتها لكنّها لا تلتقي على رؤية واحدة جامعة. ردّ صنف أوّل بوضوح على حاملي لواء الهويّة الإسلامية منكرين عليهم إعراضهم عن واقع الحضارة والتقدّم اللذين لا مراء فيهما ولا صلة لهما «بالإسلام أو ما عرفناه منه كما أُوِّل ودُوِّن في كتب الفقه».

واقعية هذا الصنف من المثقّفين المختلفين مع خطاب الفقه والهويّة جعلتهم منكرين لإمكانية تجدّد قيم الإسلام وفكره. لذلك لم يترددوا في القول: إذا كانت في الإسلام هذه المبادئ التي وقع التنويه بها (العقل والحرية والتضامن)» فلماذا تَرك[الإسلام ] هذه العادات تتغلغل في النفوس؟ وإذا كانت هذه المبادئ موجودة فهل هي بارزة للعيان تفرض نفسها؟ ولماذا لم يدعُ إليها رجال الدين؟». قيمة التقدم عند مثقّفي الواقعية أهمّ من مقولة العودة إلى الأصل، ذلك أنّ الرجوع إلى الماضي قصد استعادة الجوهر الصافي مُحالٌ لأن السعي إلى التقدّم منافٍ «للنظر إلى الوراء».

5 -  صنف ثان من المثقّفين ابتعد عن المقولتين السابقتين المتناقضتين اللتين حاولتا الإجابة عن سؤال: هل الإسلام معرقل للنموّ أم أنّ هناك عوامل أخرى تفسد البشر والديانات في آن؟ لقد اعتبر هذا الصنف من المثقفين التونسيين الحداثيين المتصالحين مع الذات أنّ المشكلة مثنّاة نتجت عن ركود ذهني أفرز تخلّفا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا لم تزده معضلة المؤسّسة الدينية، تلك الحاضرة الغائبة، إلاّ حدّة. يقوم هذا التشخيص على أنّه لا وجه للحديث عن الإسلام بمعزل عن المسلمين، ذلك أنّ الإسلام بالمسلمين ولا يمكن تصوّر مسلمين دون إسلام. ما يؤكّد هذا التلازم الجدلي هو أنّ الإسلام في فترة فُتوّته كان متجاوزا للأحداث لاستيعاب المسلم مقتضيات عصره ومتمثّلا لقضاياه ومتجاوزا لهما. أمّا في حالة التراجع فلا يواكب المسلمون المدنية الحديثة وإنّما يزامنونها عن بُعد فلا يكون الإسلام بذلك « الدافع والمحرّك لها».  من جهة أخرى فإنّ المعضلة المؤسّساتية في الإسلام تجعل أصحاب الحلّ والعقد من المسلمين لا يواجهون القضايا المستجدّة ولايتمكّنون من إرساء مرجعية فكرية تلاحق الواقع في مواقعه وتطلّعاته. إنّهم يعتذرون عن الالتزام بإجابات واضحة يقدّمونها، لأنّهم لا يعترفون بوجود «كنيسة في الإسلام وعندما يأتي من يريد أن يلتمس الحلّ لهذه المشاكل ينتصبون متكلّمين باسم الإسلام مدافعين عنه». ركّز صنف ثالث من المثقّفين المشاركين في الحوار تحليله على خطورة العدّو الخارجي وفداحة تهديده للهوية والأصالة اللذين يتعذّر إنشاء فضاء وطني حديث دونهما. لشرح مكوّنات هذه الأصالة التي لا صلة لها بالتغنّي بالماضي يتبيّن أنّها تشمل ثلاثة عناصر أساسية هي الدين واللغة العربية وترابط فكر النخب والقيادة بتصوّرات الجماهير وعقائدهم.

6 - إذا توقّفا عند هذا الحدّ من القراءة فإنّ هذا النوع من اللقاء على ندرته يثبت أنّ علاقة المثقف والسياسي بالإسلام، تونسيا وعربيا، تظلّ إشكالية أي أنّها لا تحتمل صورة واحدة نهائية ولا قولا فصلا لا معقب عليه كما أنّها تتضرّر بالغ الضّرر بمقاربات الاستقواء بسلطة الدولة لفرض رؤية على المجتمـع والأفــــراد. ما يدعم هذا أنّ المثقفين المشاركين في لقاء الستينات وهم أعضاء في حزب حاكم لم يجتمعوا على رأي واحد لكنّهم قبلوا التفاعل والتناضح. أكثر من ذلك، لقد تأكّد أنّ كلّ واحد منهم قبل أن يكون علمانيا أو ليبراليا أو قوميا أو محافظا هو حامل لذاكرة تاريخية لا يمكن أن ينفصل عنها وإن كانت ذاكرته تلك، ككلّ ذاكرة، انتقائية بالضرورة. من ثمّ فإنّ أسوأ الحلول هو الحلّ الذي يعتمد الرؤية الكليانية التي تدّعي الانفراد ببناء النموذج الأمثل. إنّها بذلك تُقصي كل فرص الإثراء المتبادل الناتج عن تنسيب الرؤى وإيقاظ ما تغاضت عنه ذاكرة كلّ طرف عند بناء موقفه من الدين أو من اللغة أو من مؤسّسات المجتمع والدولة. لقد أورث الانسحابُ المبكّر للفقيه التراثي والأصولي المحافظ من المشاريع الإصلاحية التونسية الأولى استبعادًا لهم في فترة لاحقة عن مشروع الدولة الحديثة القطرية لكون بُناتها لم يروا جدوى من البحث عن مشروعيتهم في المصادر الإسلامية ولأنّهم لم يروا أيّ داعٍ للتشارك في اتخاذ القرارات المؤسّسة.

7 - محصلة هذه القراءة السريعة لتجربة محدودة كان يمكن أن تؤدي، إن اعتُمِدَتْ وتكرّست، إلى بناء مؤسّساتي يرسّخ تقاليد التعايش والتعدّد والاغتناء المتبادل. ذلك أن الاختيارات الكبرى التي لا تعتمد حوارا حقيقيا أو مشاركة فعلية تظلّ، أيّا كانت درجة تقدميتها أو إنسانيتها، مهدّدة باللافاعلية والانتكاس لأنّها لم تنجم عن وفاق يكسبها شرعية تاريخية. لقد قضى انزواء النخب المفكّرة والحاكمة في معاقل الخوف عليها بالعجز عن التوصّل إلى تعاقد اجتماعي ثقافي يقي الوطن من الاستقطابات المريرة التي تعيد إنتاج السجالات العقيمة باستمرار. هذا المعنى المستفاد من تجربة استَبْعَدَتْ فيها نخبةٌ مثقفةٌ حداثية الرؤى المخالفة منفردة بالقرار بادّعاء امتلاك البديل السياسي والاجتماعي والثقافي وبتجاهل قوانين الاجتماع الإنساني وضوابط الانتظام المدني التي تنقل الفعل السياسي من الإكراه والاعتباط إلى مجال العقل والعلم والتجديد.

د. احميده النيفر

رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.