احميده النيفر: الـجـامـعة و»بُــؤس السـيـاســـة«

احميده النيفر: الـجـامـعة و»بُــؤس السـيـاســـة«

1 - في خضّم ما تشهده الساحة الدولية والوطنية من تحوّلات غير مسبوقة يبرز لدى النّخب وجانب من قوّى المجتمع حراكٌ وجدلٌ ممهوران بما يمكن أن يُسمّى حالة «الكل السياسي» الذي تتضاءل معه أهمية جلُّ القضايا الكبرى المعرفية والثقافية والاجتماعية والمؤسّساتية والاستراتيجية بشكل خطير. مع هذا «الكل السياسي» يتبيّن أننّا، في تونس مع أقطار عربية أخرى، بصدد «اكتشاف» معنى جديد للسياسة والشروع بالانخراط فيه وفق اللحظة الحضارية القائمة والخاصيّات التاريخية العامّة والقُطرية. أفضل ما «اكتشفناه» في تونس يُعيدنا إلى ما سبق أن وضعته المُنَظِّرة السياسية الألمانية «حَنَة أرندت» (Hannah ARENDT.) حين اعتبرت أنّ غاية السياسة عامّة هي «قضيّة الحريّة إزاء الاستبداد». 

2 - لكن أعقد ما في هذه القضيّة يظهر حين نتوسّع في مفهوم السياسة بما تصدق عليه من قطاع «العمل» وضرورة ما يستلزمه من «النظر». لهذا صحّ القول إنّ أيّ عمل سياسيّ دون وعي تاريخي لا يفضي إلاّ إلى ضروب من العبث وإتلاف للكفاءات والطاقات. أهميّة الوعي التاريخي راجعة لما يعنيه التاريخ من تبدّل وتغيّر لأنّ الأحداث تدلّ على السيرورة والدّوران والتّمرحل. لكن هذا التبدّل لا يكون اعتباطا بل يشتمل في ثناياه على عناصرصامدة تكون هي حاملةً ومؤسّسةً للتغيير الذي يتعيّن من خلاله الثابتُ إلى ما يجب أن يصيرَ عليه من خلال سيره نحو غايته ومعناه.  لهذا ورغم ما يهيمن على المشهد الوطني من حالة «الكل السياسي» المتعالي على ما عداه والمصادم لكلّ تنوِّع وإبداع فلا مفرّ من الحديث عمّا يُعرف بأزمة الجامعة التونسية رغم ما يبدو أنّ هذا ضرب من التّغريد خارج السّرب.

3 - أوّل ما يدعونا لتناول هذا الموضوع صورة تداولتها أخيرا وسائل التواصل الاجتماعي عن مدى إقبال عدد مهمّ من التونسيين للتسجيل بمؤسّسة تعليمية خاصّة لبلد غربي مع عنوان إنذاري هو «تشييع جثمان التّعليم العمومي». في نفس هذا السياق نشرت أستاذة للآداب الأنقليزية في صفحتها على «الفايس بوك» نصّا وقع تداوله انطلقت فيه من تجربتها باعتبارها نتاج التعليم العمومي التونسي بما تحمله من فكر وطموح وشغف بهذا الوطن العزيز الذي أغدق على تعليمها وأبناء جيلها ومن جاء قبلهم أو بعدهم. أردفت الأستاذة قائلة إنّ غاية ندائها الدفاع عن المدرسة العمومية التي يدرس بها «أبناء المعلّم الذي علّمنا، وأبناء الجندي الذي يحمي ثغورنا، والفلاح الذي يوفّر قوت يومنا، والعامل الذي يشتغل في معاملنا ومناجمنا وضيعاتنا، والفقراء والمعدومون الذين جازفوا بكلّ ما يملكون في مسيرة تحرير هذه الأرض».

من هاتين اللقطتين وإسهاما في معالجة موضوع التعليم العمومي وخاصّة الجامعي الذي مضى على تأسيسه في صيغته الحديثة ما يناهز ستّة عقود يطرح سؤال أوّل موصول بجذور الأزمة وهو: «هل لدينا فعلا جامعة تونسية؟».

4 - يسارع المختصون في الوضع الجامعي الوطني بالتمييز بين ما يتوفّر قانونا ومضمونا من وجود «مؤسّسات للتعليم العالي والبحث العلمي» وبين القول بوجود «جامعة» على الحقيقة. من هذا التمييز يتّضح أنّ الجامعة هي مؤسّسة ذات هيكلية ثلاثية المهام: الأولى علمية تمكّن المنتسبين إليها من معارف وقدرة على تنمية تلك المعارف. ثانية المهام امتلاك رؤية حضارية مميزة تؤدّي إلى الانعتاق من الحَرْفية والتبعية وبما يتيح تطوير البلاد وتحررها. أمّا ثالثة المهام فهي ثقافية لأنّ الجامعة مدرسة تفكير ومخبر آراء بما يرسخ تقاليد التّعايش والتعدّد ويسهم في نموّ المجتمع بالمعنى الواسع للكلمة.

ما لا يجوز الذهول عنه هو ضرورة التفاعل والجدل بين هذه المهام الثلاث لأن ما يجعل الجامعة « جامعة « على الحقيقة هو ما تصنعه من وحدة تلك المهام بما يرسي تعاقدا مجتمعيا ويمنع التعليم الجامعي أن يتحوّل إلى مجال للمحافظة على الامتيازات وتثبيت التفاوت الاجتماعي. في هذا نقرأ للفيلسوف الفرنسي «جاك دريدا» تحديدا هامّا لرسالة الجامعة عند تناوله موضوع «إنسانيات الغد» والمهام المعرفية والأخلاقية الملقاة على عاتق الجامعة وأساتذتها. أهمّ عنصر في تلك الرسالة يتحقّق في معنى الأستاذية المتعيّن في ضرورة الربط بين المعرفة والمسؤولية الأخلاقية الملازمة لها، وعن ضرورة مناهضة الجامعة لكل ضروب الهيمنات الخارجية سواء أكانت اقتصادية أم سياسية أم داخلية لأنّها تحوّل العلم والمعرفة الى مجرّد خبرات برجماتية خالية من أيّ مضمون أخلاقي وإنساني.

5 - بهذا تتبيّن العلاقة الوطيدة بين مؤسّسة الجامعة حين تتوفّر لها الشروط المؤسّسية المحرّكة لها وبين السياسة في فاعليتها الاجتماعية والحضارية التي تستوعبها من غايتها في أنّها  «قضيّة الحريّة إزاء الاستبداد». ذلك هو مؤدّى جدلية العلاقة بين الجامعة والمحيط الاجتماعي- السياسي والثقافي الأمرُ الذي تصبح معه حريةُ الجامعة حريةً غير مشروطة لقدرتها على توليد مجتمع سياسي فعّال ومتميّز نتيجة ما يعتمل في المؤسسة الجامعية من وحدة لمهامها الكبرى. هذا ما يجعل الجامعة، في نهاية المطاف، الرّحِمَ التي تَتَخَلّقُ فيها عناصر المشهد السياسي الصاعد بخصائصه ومضامينه وملامح الفاعلين فيه بقدراتهم وآفاقهم.

لذلك فإنّ الاكتفاء بالتعليق على مشهد إقبال التونسيين للتسجيل في الجامعات الأجنبية الخاصّة بأنّه «تشييع لجثمان التعليم العمومي» صحيح في جانب منه لكنّه يظلّ بعيدا عن ملامسة صميم أزمة الجامعة في علاقتها بما نعايشه من اكتشافنا للسياسة كما انتهت إليه اليوم وطنيا وعربيا. الأدقّ أن نقول إنّ الإقبال على الجامعات الأخرى مُنْبِئٌ، في الجانب الأهمّ منه، بانبثاق طور الجديد للاستقلال وتوق لدروب سيادة لم تستطع أن تبلغها السياسة في صيغتها القديمة.

لقد ظلّت مؤسسة التعليم عموما والجامعة خصوصا مَحضنَ مشروع سياسةٍ جديدة لم تولد بعدُ لأنّ في كلّ تعليم استبطانٌ لتجاوز «بؤس» سياسة متهالكة وسعيٌ إلى عالم معرفة تُـستَنبتُ فيه سيرورة سياسة مغايرة لقادمِ الأيام. ذلك ما عناه عبد الرحمن الكواكبي في طبائع الاستبداد حين أكّد عن بُغض المستبدّ للعلم ولنتائجه لما للعلم من سلطان أقوى من كلّ سلطان.

6 - أكثر من مؤشر يسمح بالقول إنّ ما تعانيه «الجامعة» التونسية من مصاعب وما آلت إليه مهامها الكبرى إنّما هي دلالات لا تخطئ عن مسؤوليتها على ما اعترى السياسة من «بؤس» وما تردّت فيه نخبها السياسية من محنة الأفول.

أوّل هذه المؤشرات يتصل بالتصنيف العالمي لوضع التعليم الجامعي في تونس والذي لا يُدرج الجامعات والمعاهد الأكاديمية العليا في ترتيب «شنغاي» و«كي آس» العالميين. يقدَّم لتفسير مقاييس الترتيب الأكاديمي للجامعات عالميا أكثر من اعتبار من أبرزها  نذكر عدد الدّراسات العلمية المنشورة من قِبَل الأساتذة والباحثين في المجلاّت العلمية الدولية المحكمة إلى جانبها نسبة الباحثين المحرزين على جوائز علمية عالمية مع اعتبار عدد الطلاب المنتسبين إلى الجامعة ودرجة التنّوع في التخـصّص العلمــي والمخبـري المتـــوفّر بالجامعة.

خلاصة مقاييس الجودة العالمية في المجال الجامعي تتركّز في عامل بارز هو إنتاج المعرفة والقدرة على تنميتها. ما لا يقال إلّا نادرا في هذا الصّدد هو أنّ اكتساب المعرفة وتنميتها يكون من جهة الطالب ومن جهة الأستاذ أيضا وبالأساس باعتبار أنّ المعرفة في السياق الجامعي تعني استيعاب ما توصّلت إليه الشعوب والحضارات من نظريات فلسفية واجتماعية وتكنولوجيـة وما يستدعيه ذلك من حـركية فكرية وحضـارية في تفـاعل مـع واقع المجتمع واحتياجاته. هذا ما يجعل الجامعة مؤسّسة ثقافية بامتياز بما تعنيه الثقافة من فاعلية مجتمعية تتجاوز بها النقل الحَرْفي وما يفضي إليه من تبعية واستلاب بفضل امتلاك رؤية حضارية مميّزة تسهم في إبداع صيغ وحلـول وتقنيات جـديـدة.

7 - عند هذا الحدّ يمكن القول إنّ «الجامعة» التونسية في مفترق طرق وإنّ فرص الإنقاذ قائمة ومطلوبة لاعتبارات عديدة في مقدّمتها ضرورة الخروج من «بؤس السياسة» وهذا ما تؤكّده بعض الحالات العربية المنكبّة على تفعيل الديناميكية الجامعية بشكل لافت. حالة أولى تستوقفنا من الرباط، عاصمة المملكة المغربية حيث انعقدت جامعة صيفية في مركز مغارب للدراسات في الاجتماع الإنساني عن موضوع « التعدّد الثقافي وبناء المجتمعات: العوائق والفرص». في هذه الدورة الثالثة لجامعة مغارب التقى باحثون من المغرب الكبير ومن اختصاصات علمية مختلفة فيما يسمى تفاكرا علميا يحضره عدد من طلبة الماجستير والدكتوراه لإثراء فكرهم ومناهج بحثهم فيما يتابعونه من محاضرات صباحية وفيما يقدّمونه مســـاءً مــن عــروض لأعمالهم في ضـوء الطـروحات المتعلقة بالتعدد الثقافي منظورا إليها من زوايـــا علمية مختلفة.

في فضاء أكاديمي ثان استقبلت بيروت مطلع هذا الصيف في رحاب الجامعة الأمريكية ورشة عمل صيفية متخصّصة عن «إعادة بناء الدراسات الإسلامية». كان لقاء للتباحث فيما تقتضيه هذه الدراسات من مراجعات وتقييم وإضافة في ضوء ما ظهر في الدراسات الغربية من أعمال المراجعين الجدد Neo-revisionists وفيما ظهر في العالم الإسلامي من نزعات «الإحياء الإسلامي الجديدة» وما تتطلبه من حفر معرفي وصياغات قانونية وسياسية.

منتهى البحث في الشأن الأكاديمي التونسي في ضوء الحالتين السابقتين الواعدتين وفيما يُطرح عن معضلة التعليم الجامعي في العالم هو أنّ جامعتنا ستبقى مأزومة  ليس لإعراضها عن الالتزامات والمسؤوليات التي يرتقبها محيطها المجتمعي فقط بل أيضا لذهولها عن طبيعتها الثقافية ومآلاتها السياسية وعن عنصرها الصميمي وهو واجب البحث عن الحقيقة.

احميده النيفر

رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.