ثقافة - 2018.09.23

منجي الزيدي: ثــقـافة الاغــتـصــاب

منجي الزيدي: ثــقـافة الاغــتـصــاب

أصبح تواتر جرائم الاغتصاب في المجتمع التونسيّ قضيّة رأيٍ عام. وهي جرائم تستهدف بالأساس الأطفال والنّساء. ولم يسلم من أذاها المروّع الرضّع والعجائز والمعاقون والمرضى... وتتداول التّقارير الإعلاميّة وبعض الدّراسات أرقاما تعكس حجم الظاهرة وخطورتها. ذلك أنّ الاحصائيّات القضائيّة تؤكّد أنّ عدد قضايا الاغتصاب التي تمّ الفصل فيها في السّنة القضائيّة 2015 / 2016 بلغ 101 قضيّة، في حين تشير إحصائيّات طبيّة إلى استقبال 800 حالة اغتصاب بين أفريل 2016 وأفريل 2017 ... وتبقى هذه الأرقام نسبيّة باعتبار أنّها تتعلّق بالحالات المُصرّح بها أو التي تَعَهَّدَ بها القضاء، في حين تظلّ حالات أخرى كثيرة طيَّ السّر والكتمان جرّاء عوامل الخوف والخجل والشّعور بالذّنب...

تندرج جريمة الاغتصاب في باب العنف الجنسيّ الذي يُعرّفه القانون الأساسيّ لسنة 2017 المتعلّق بالقضاء على العنف ضدّ المرأة في تونس بكونه « كل فعل أو قول يهدف مرتكبه إلى إخضاع المرأة لرغباته أو رغبات غيره الجنسيّة باستخدام الإكـراه أو التغـرير أو الضّغــط وغيرها مــن وســائل إضعاف وسلب الإرادة وذلك بِغـــضِّ النّظر عن عـــلاقة الفاعل بالضحيّة.».وتُسلِّـط المجلـة الجـزائيّة التّونسيّة عقـــوبات على هذا الجرم تصل حدّ حكم الإعدام.

وتشير تقارير المنظمة العالميّة للصّحة إلى أنّ «أكثر من 35 بالمائة من النّساء في العالم عَانَيّنَ إمّا من عنف الشّريك الحميم أو عنف غير الشُّركاء إن بدنيًا أو جنسيًا». كما أنّه وعلى الصّعيد العالميّ «يرتكب الشّريك الحميم نسبة تصـــل إلى 38 بالـمـــائة مـــن جــــرائم قتل النّساء». ويتعرّض7 بالمائة من النّساء للاعتداء الجنسيّ من قبل شخص آخر غير الشّريك.وتترتّب عن كلّ هذه الاعتداءات آثار خطيرة على مستوى الصّحة النفسيّة والجسديّة والاجتماعيّة...ولا تعدو هذه الأرقام والنِّسَب أن تكون سوى مؤشّرات لا تعكس الواقع بدقّة. فالاغتصاب ليس اعتداءً عاديًا يمكن التصريح به بســـهــولة إذ أنّ الضحيّة هي التي تتحمّـــل أوزاره وتبعاته الاجتمــاعيّة، وهـــي مجبـــــرة في أكثر الأحيان على «ابتـــلاع السّكين بدمهــــا» كما يقول المثل الشعبي التونسي. وكثير من الأسر تكتــم ســــرّها وتدفن مأساتها «درءًا للعار» وكي «يسلم الشّرف الرفيع مـــن الأذى».

وهنالك إجماع تامّ على إدانة جريمة الاغتصاب واعتبارها جريمة مُطلَقة un crime absolu . ويطالب الكثيرون بتفعيل حكم الإعدام على مرتكبها.وينادي آخرون بعقوبة خصيّ الجّاني émasculation . ومع ذلك فهذه الجريمة تبقى مجهولة المعالم. ولم تحظ بالقدر اللازم من البحث والدّراسة، وذلك لتعقيد الموضوع وتشعّبه وصعوبة النّفاذ إلى المعلومات حوله. وكذلك الحاجة لمزيد تدقيق مفهوم الاغتصاب وعدم الاكتفاء بالتعريف الجنائيّ، بما يساعد على تفادي الأحكام الجاهزة والتعميمات السّطحيّة.

وقد ظلّت محاولات علم النّفس وعلم الاجتماع لضبط ملامح القائم بفعل الاغتصابle profil du violeur غير دقيقة. وانحصر التوصيف في عوامل نفسيّة (مرض نفسي، اختلال عقلي، طفولة صعبة، شخصيّة عدوانيّة...) وأخرى اجتماعيّة (وسط اجتمــاعي شعبـــي، مستـوى تعليمي وثقافي محدود، مشاكل اجتمـــاعية، عنف أســري...). وهي عوامل غيـــر كـافية لتقديم فهم وتحليــل متمـــاسك، وقد تفضي إلى تداول الأنماط الجاهزة Stéréotypes.

والاغتصاب جريمة تحتمي بما يُسمَّى «ثقافة الاغتصاب». وهو مصطلح يُقصَد به: «الأفكار الجاهزة والتمثّلات المنتشرة التي تحاول تبرير جريمة الاغتصاب بالتركيز على مسؤوليّة الضحيّة والتماس الأعذار  للمُغتَصِب». وذلك بتداول جملة من التصورات الجاهزة التي من شأنها في نهاية الأمر أن تفضي إلى التطبيع مع هذه الجريمة، ومن بين هذه التصورات:

التشكيك فيما حدث: باعتبار صعوبة إثبات الأركان المادية والمعنوية لهذا الجــرم، وعجـز الضحية في أغلب الأحيان عن ملاحـقــة المُعتدي، وتجاوز حواجز الخوف والتـرهيب ونظــرة المجتمــع وثقـــافته السّائدة والظّالمة،واستعدادها للفحوصات والمكافحات وما إلى ذلك من المواقف العصيبة.

ربط الاغتصـــاب بالأصـــل الاجتمـــاعيّ للمُغتَصِـب: وحصـر الجرم في المنحرفين وقطاّع الطّرق والمدمنيـــن وأبنـاء الأحيـاء الفقــيرة والنـازحين والمهـاجرين...الذيـــن يستفردون بضحاياهم في الأزقّة المظلمــة والأماكن المقفـرة. وقـد أثبتــت دراســـات عديدة أنّ الاغتصاب جــريمة قرب Un crime de proximité تُرتكب غالبا في محيط الضحية الأسريّ والاجتماعيّ، وفي المحيط المدرسيّ والاقتصاديّ، وحتى في أماكن العبادة... وكثيرا ما تحدث أيضا على فراش الزوجيّة بوجه مكشوف وبعقليّة إقطاعية يحمل صاحبها (رخصة شرعيّة).

التأكيد على مسؤوليّة الضحيّة: وتبرير الجرم الحاصل عليها بنمط عيشها ومظهرها وسلوكها: (لباسها مثير، تدخّن وتضحك كثيرا، تمازح الذكور، تسكن بمفردها..). وهذا التصور الشّائع سطحي ومتخلّف فكثيرات هنّ العاملات المكافحات اللواتي يَسرِين بِقِطَعٍ من اللّيل لكسب رزقهن وإطعام أسرهن فيعترضهن قطّاع الطّرق من ضباع اللّيل، أو يقعن تحت مخالب الصّعاليك من أرباب العمل...وقد شهد مجتمعنا حالات اغتصاب لعجائز  وأطفال ورضّع...

انهيار الضحية أمام جلادها يعني الرضا والقبول: يقول كثيرون: كان بإمكانها أن تقاوم، أن تصرخ، أن تهرب... ولكنّها أذعنت، فهي إذاً شريكة في العملية. ويذهب البعض الآخر من أصحاب الخيال المريض إلى أنّ النّساء يرغبن فيمن «يمتلكهن عُنوة» و«يَطأَهُن» و»يتمنّعن وهن الرّاغبات» أو في لغة أخرى elles aiment ça. وهذه صورة من صور الثقافة الجنسية السقيمة الرائجة.

خلاصة القول: تحتاج الكثير من المسلمات حول الاغتصاب إلى المراجعة.»كليشيهات» كثيرة تبعدنا عن جوهر القضية. وإنّ من أوكد الواجبات الملقاة على عاتقنا اليوم مكافحة «ثقافة الاغتصاب» هذه،  والدراسة العلمية الدقيقة لهذه الجريمة النكراء، والعمل التوعوي المتواصل لكسر جدار الخوف والصمت.

منجي الزيدي

أستاذ تعليم عال بجامعة تونس

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.