أدب وفنون - 2018.09.01

قـصّــة قـــصيـــرة: زردة فــــي نــهـــج الــدبّـاغين

قـصّــة قـــصيـــرة: زردة فــــي نــهـــج الــدبّـاغين

أقبل «الأستاذ» رضوان من مدخل الزّقاق بسحنة مُتعبة وعينين تكنسان الأرض. نظر إليه يونس بائع الكتب الجالس أمام مخزنه متعجّبا. لم يعتد رؤيته هنا في مثل ذلك الوقت لمعرفته القديمة به وبتفاصيل كثيرة عن حياته. كانت السّاعة تشير إلى العاشرة صباحا والعادة أن يكون الآن بالكلّية مع طلبته يحاضرهم في التّاريخ الوسيط. بدا مُجْهَدًا، مُهْمَلَ اللّحية مَحْنِيَّ الظّهر، يجرّ الخَطْوَ جرّا خلافا لعادته في المشي مستقيم القامة، شامخ الأنف، مُعتدّا بنفسه كعالِمٍ اشتهر بمؤلّفاته في التّاريخ؛ زاد عجب يونس عندما اقترب الرّجل فاتّضحت هيئته المهملة بربطةِ عنق مُتَكمِّشَة وياقةٍ حائلة اللّون وحذاءٍ يعلوه الغبار؛ وإذْ رآه يعقد قبضته في حركة لا إراديّة أيقن أنّ في الأمر خطبًا ما.

وصل «الأستاذ» أمام المخزن فنهض يونس محقّقا النّظر في وجهه قائلا: «مرحبًا أستاذ .. ما الذي أتى بك الآن على غير عادتك؟». لم يجبه وانهار على مقعد بجواره وظلّ مطرقا مثبّتا نظره في الأرض. أضاف يونس: «هل أضرب الطّلبة عن الدّراسة اليوم؟»؛ ولكن الرّجل ظلّ على صمته كأنّه لم يسمع وقد زاد شحوبه وسرت في وجهه تشنّجات تَشِي بانفعال داخلي حادّ.

شعر يونس بالشّفقة عليه  لِمَا كان بينهما من مودّة نشأت أيّام كان «الأستاذ» يتردّد على المخزن بحثا عن مراجع تعينه على إعداد رسالة الدّكتوراه في بداية حياته الأكاديميّة. لم يكن لِرضوان بن سعيد صديق غير يونس يخلع في صحبته قناع العالم فيتَبَسَّطُ معه في الحديث ويُصغي إلى فلسفته الشّعبيّة. كان يعدّ بائع الكتب ممّن خبروا الدّنيا وأهلها ويعترف له بحصافة الرّأي وسلامة الحكم على الأشياء. استمرّت العلاقة بينهما يغذّيها الولعُ بالمؤلّفات القديمة وتمضية أوقات الأنس في غرفة خلفيّة بالمخزن حيث يخوضان في أحاديث الجدّ والهزل ويفتح أحدهم قلبه للآخر ويحلو لهما استحضار ذكرياتهما القديمة؛ وقد ينجرّ الأستاذ أحيانا إلى لعب الورق مع صديقه عندما يضيق بحياته المهنيّة. كلّ ذلك رغم الفروق بينهما في المنبت والأفكار وتجارب الحياة إذ نشأ رضوان في أسرة ميسورة بإحدى قرى السّاحل ودرس التّاريخ وبات من كبار الأساتذة بالجامعة بينما وُلد يونس في واحة بالجنوب واضطرّه الفقر إلى الانقطاع عن دراسته الثّانويّة ليعمل في تجارة الكتب القديمة على الرّصيف. بعد سنوات من الكدّ والمثابرة نجح في امتلاك مخزنه الخاصّ مكتسبا في الأثناء ثقافة واسعة ما فتئت تثير إعجاب الأستاذ رغم اعتراضه كمفكّر ليبرالي على آراء صديقه المحافظة.

مرّت فترة صمت ظلّ يونس يبحث فيها عن عبارات مناسبة يواجه بها حالة صديقه الغريبة؛ فجأة نهض ودخل المخزن ثم عاد وبيده كتاب: «أخيرا عثرت لك على ترجمة» انهيار الغرب لــِ«أوسفالد شبنغلر.. لطالما تعبتَ في البحث عنها!». انتفض الأستاذ واقفا تهزّه رعدة غضب واختطف الكتاب وراح يمزّقه  بعصبيّة:

  • إلى جهنّم أنت وشبنغلر ومعكما التّاريخ وكلّ ما ينوء به العالم من سخافات.. إنسانيّة بلهاء لا تزال تؤمن بالكتب !.. 

قال يونس مذهولا: «لا مانع عندي أن تبعث بي وبالتّاريخ وبالعالم إلى الجحيم..أمّا أن تمزّق كتابا فهو أمر جَلَل .. ما الذي دهاك؟!» دفن الأستاذ وجهه بين راحتيه وهمس مخاطبا نفسه: «ما من جحيم إلاّ على هذا الكوكب.. الحياة هاويّة سحيقة فمتى الارتطام بالقاع؟! ثمّ رفع إلى يونس نظرة ممتلئة ألما وقال:

  • لا تغضب، سوف أنقدك ثمن الكتاب .. لا أدري لماذا قادتني قدماي إلى هنا!
  • أنا أعرف لماذا..  لأنّه ليس لك صديق غيري يحتمل حِدّة طبعك وعجرفتك، سوف آتيك الآن بقهوة وعليك أن تخبرني ما الذي أسقطك في هذا الجنون!

كان اليوم ربيعيّا يملأ بنوره أحد الأزقّة الفرعيّة لنهج الدّبّاغين الذي يربط ببناياته ذات الطّراز الكولونيالي بين مدينة تونس العتيقة والحيّ الأوروبيّ؛ هناك حيث الأرصفة مفروشة بالمطبوعات القديمة وعلى المشتري أن يبحث مقلّبا في أكداسها عن ضالّته؛ هناك تنتهي الكتب المنهوبة من رفوف المكتبات العموميّة أو تلك الآتية من أرصدة الأسر العريقة أو من تصفية الكُتْبِيَّات المفلسة.. كُتُبٌ تُباعُ بالجملة أو تُقَوَّمُ بوزنها من الورق فتتجاور على الرّصيف «أزهار الشّرّ لبودلير» و«رسالة الغفران للمعرّي» و «الانطباعيون الفرنسيّون» و «ألذّ المعجّنات الإيطاليّة» و«كيف تصبح ثريّا» مع دوريات الـ «ريدر ديجست» ومجلاّت الموضة التي جعّدتها الرّطوبة وذهبت الأيّام بألوانها.

هدأ روع الأستاذ قليلا بعد أن جلب له يونس قهوة حارّة شربها في جرعتين أو ثلاث مع بضع سجائر دخّنها بلهفة وما لبث أن عاد إلى التّحديق في الأرض غير آبه لما يدور من حوله. بينما انشغل بال يونس بالتّساؤل عمّا يكون قد أصابه ..

جاء شابّ يسأل عن مراجع حول «الفتنة الباشيّة» قال يونس وهو يشير إلى الأستاذ  لعلّه يفلح في حلّ عقدة لسانه: «هذا العالم الجليل أفضل من ينصحك حول الموضوع». انطلق الأستاذ في قهقهة هزّت كامل جسده ثم عاوده تجهّمه فجأة وقال: «مالي وللفتنة الباشيّة والحمّى الاندفاقيّة؟! سوف أمضي وأتركك مع هذه الأشكال المتطفّلة على الفكر !». التفت الشّاب إلى يونس وقال بابتسامة ساخرة:

  • أيّ مجنون هذا؟ !.. عالم جليل، قلت ؟ ! ..هل رأيت يوما عالما يهين النّاس بهذه الصّفاقة ؟  أعرفه جيّدا ، إنّه الأستاذ «منهجيّة»  .. لا ينفكّ يردّد تلك الكلمة حتّى التصقت به .. لا فائدة في ذكر ما يدور حوله من أحاديث في الكليّة.. أحمد الله أنّني لست من طلبته !

انتهر يونس الشّاب مؤنّبا إيّاه فانصرف ساخطًا، مغمغما بشتائم مقذعة بينما كانت نظرات الأستاذ الملتهبة تلاحقه إلى أن غاب في آخر الزّقاق.

عندما أتى رضوان إلى المحلّ آخر مرّة منذ نحو شهرين بدا متّقدا حيويّةً وتفاؤلاً في انتظار مناقشة زوجته الوشيكة لرسالة دكتوراه حول القرصنة في البحر الأبيض المتوسّط خلال القرنين السّابع عشر والثّامن عشر. كانت أنيسة إحدى طالباته وقد اقترن بها منذ عشر سنوات رغم فارق السّنّ بينهما ولم يرزق منها بالولد. أثار ذلك الزّواج آنذاك شتّى التّساؤلات عمّا تغنمه فتاة جميلة في الخامسة والعشرين اشتهرت بمرحها وإقبالها على الحياة من الاقتران برجل جاوز الخمسين أمضى حياته في خلوات البحث وحلبات المناظرة  والجدال؟.. مضى على ذلك عشر سنوات اختفى خلالها شيب شعر رأس الأستاذ وشاربه تحت الأصباغ وأمسى هندامه يجاري أناقة العصر؛ وفي الأثناء واصلت الزّوجة دراستها العليا بقسم التّاريخ إلى أن أنهت إعداد أطروحتها بإشراف أحد طلبة زوجها القدامى.

لم يقاوم يونس رغبته في سؤال كان يودّ طرحه على صاحبه بمجرّد أن رآه لو لم تفاجِئْه حالتُه المضطربة :

  • هل ناقشت أنيسة أطروحتها أخيرا ؟
  • نعم .. ونالت الشّهادة بدرجة مشرّف جدّا مع تهاني أعضاء اللّجنة واعتبار الرّسالة حدثا علميّا تفخر به الجامعة، قال الأستاذ ذلك  بنبرة رتيبة مثل مذيع يسرد خبرا لا إثارة فيه وأردف ذلك بقهقهة مسرحيّة.

لم يفهم يونس سلوك صاحبه ولكنّه ضغط على يده بحماس مهنّئا : «يالها من فرحة ! كان عليك أن تخبرني بذلك في حينه». غير أنّ الأستاذ سحب يده بعصبيّة وقال في ما يشبه الفحيح :

  • «الحدث السّعيد لم يكن سوى فضيحة ما بعدها فضيحة ! شاع في الجامعة أنّني صاحب موضوع الأطروحة وكاتبها ..
  • دعك من الأراجيف .. لعلّك لم تفعل سوى مساعدة زوجتك على التّحرير ..أنت رجل نزيه و قديما كان في النّاس الحسد و... لا إله إلاّ الله .... لست ممّن ينحدرون إلى  .... قاطعه الأستاذ مبتسما بسخرية:
  • بلى  لقد انحدرتُ !..أنا اخترت موضوع الأطروحة وأنا حرّرتها من الألف إلى الياء بينما كانت تعنى  بزينتها وسفراتها السّياحيّة على نفقتي..

ظلّ يونس مذهولا تتوزّعه مشاعر الدّهشة والغضب والشّفقة معا. وأخيرا ربّت على ظهر صاحبه بلطف وقال:» لا بأس .. أنت تبالغ في القسوة على نفسك.. لعلّك تشكو من أعراض احتقار الذّات .. سبحان الله .. أنت في حاجة إلى طبيب». أجابه الأستاذ متبرّما :» أنا فعلا أحتقر ذاتي  ولا دخل لأيّ مرض في ذلك .. من حسن حظّك أنّك رجل مؤمن تواجه ما يحلّ بك من مصائب بالحوقلة والتّهليل، أمّا أنا فإنّي أشهد انهياري دون أمل في العون من أحد.. أتصدّق  أنّني لم أشعر البتّة وحتّى الأسبوع الفارط بتبكيت الضّمير على ما اقترفته خيانةً للعلم؟!.. لم أنشغل آنذاك بما شاع عن ضلوعي في عمليّة غشّ، كنت معنيّا قبل كلّ شيء بحالة زوجتي العزيزة.. عندما رأيتها تبكي خوفا من العواقب هدّأتُ من روعها وطمأنتُها بأن لا أحد يستطيع إقامةَ الحجّة على ما اقترفناه.. ها أنت ذا ترى رضوان بن سعيد كما هو على حقيقته .. لطالما آمنتُ برسالة العلم وبشرف الانتساب إليه حتّى اليوم الذي دخلت فيه أنيسة  قبل عشر سنوات إلى مدرّج الكليّة .. كانت تلبس تنّورة قصيرة وتبعث ببروق قاتلة من عينيها الخضراوين.. منذ سنة الدّراسة الأولى كانت تطيل الحديث معي وتلاطفني ودعتني مرّةً إلى احتساء القهوة في فندق بالضّاحية الشّماليّة .. حاولت مقاومة سحرها .. كان الكثيرون من زملائها الطّلبة يحومون حولها ومن بينهم شابّ هام بها هياما وبلغ تعلّقه بها أن اعتدى على طالب آخر كان ينافسه في حبّها حتّى كاد يقتله.. دست على النّزاهة ونظرت إلى الجاني كغريم ينبغي كسره فكنت أوّل المنادين في مجلس التّأديب بطرده من الكليّة وقد تمّ ذلك فعلا رغم تنازل الضّحيّة عن الشّكوى.. فعلتُ ذلك بدافع غيرتي وحقدي وليس ذودا عن الأخلاق الحميدة ..كانت تلك بداية السّقوط ومرّت سنون طوال على الحادثة ولم أشعر يوما بالقرف من فعلتي إلى أن..». 

علا وجه يونس فجأة تعبير عن الاستهجان وقاطعه حانقا:

  • إذا كنت لا تشعر بتأنيب الضّمير فما الذي دفعك إلى هذه الحالة اليائسة؟!
  • أرجوك .. مجرّد الحديث في ذلك يؤذيني فلا تعد إلى سؤالي مرّة أخرى ..أنا على يقين أنّك الآن تحتقرني .. هذا أفضل، لعلّه يخفّف عنّي بعض ما أنوء به .. قد أُصبِحُ بذلك رجلا حرّا .. رجلا تافها يمتزج بالسّوقة ويدمن المخدّرات ويتقذّر في الكلام .. العوامّ هم، قطعا، أكثر النّاس حريّة لأنّ أصفاد العلم المزيّف لا تكبّلهم.. لماذا لا تجلب لي شيشة جيراك قويّة لأبدأ حياتي الجديدة بعيدا عن ابن خلدون وبروديل وعبد الله العروي ؟!

نهض يونس من مقعده مغتاظا وقال : «لن أتركك تعبث بنفسك .. أنت مريض ولا بدّ أن أُعْلِمَ أنيسة بهذا الهذاء !» أخذ هاتفه الخلوي ومضى يركّب رقما على لوح المفاتيح. ولكن رضوان اختطف الهاتف منه وصاح: «أرجوك لا تعقّد الوضع ولا تعمّق مأساتي.. حسبتك صديقا فلجأت إليك .. أنا لا أثق بأحد سواك»؛ ثم أخذ جسده يرتعد وفجأة قبض على أسفل عنقه كأنّه يحسّ بالاختناق فاحتضنه يونس فزعا وأجلسه على المقعد قائلا:

  • اطمئن لن أكلّم أحدا .. يا للكارثة .. لا أفهم شيئا ممّا يحدث لك ولا أدري ما الذي أتى بك وأنت على هذه الحال؟!
  • طيّب، سأخبرك ..جئتُ لأعرض عليك مكتبتي الخاصة ؟!
  • كيف؟! .. تبيعني مكتبتك؟!.. أنت رجل في سعة من أمرك فما يلجئك إلى ذلك؟! .. ثلاثة آلاف كتاب من أنفس المصنّفات!.. كيف تتخلّى عن كنز قضيت كلّ عمرك في جمعه؟! على أيّ حال، أنا لا أملك ما يكفي من المال لشرائها ..
  • من حدّثك عن البيع والشّراء أيّها الغبيّ ؟.. سوف أهبُها لك وسأُمضي وثيقة قانونيّة و...
  • هُراء .. وثيقتك قابلة للطّعن لأنّ الواهب مريض عافاك الله !
  • طيّب .. إذن سوف أحرق الكتب وستندم لأنّك كسرت خاطر من اصطفاك صديقا من دون كلّ الأوباش الذين صادفهم في حياته البائسة!
  • إن كنت مصمّما على التّخلّص من مكتبتك فلماذا لا تهبها لإحدى المؤسسات الأكاديميّة؟!
  • طزّ في المؤسّسات الأكاديميّة.. أن تدخل الكتب في الدورة الاقتصاديّة بيعا وشراء أفضل من أن تواصل موتها على الرّفوف!
  • لم لا تحتفظ بها لأنيسة .. ألا تفيدها وهي مقبلة على حياة أكاديميّة واعدة؟!

صمت الأستاذ برهة وهو يغالب انفعالا عنيفا ثمّ قال والعبرة تخنقه: « لقد تركت أنيسة البيت منذ أسبوعين وبلغني أنّها تُعِدُّ لِرفع قضيّة في الطّلاق.. يا لي من أقرن مغفّل، أهديتها الدكتوراه على طبق من فضّة ثمّ سعيت لكي أحصل لها على رتبة أستاذ مساعد .. فَبِمَ كافأتني ؟ ! .. إنّها تعتزم السّفر في الموسم الجامعيّ القادم إلى أحد بلدان الخليج للتّدريس هناك صحبة عشيقها المشرف على أطروحتها.. نهض الأستاذ من مقعده وقد زاد وجهه شحوبا بينما بدت عيناه الجامدتان لا تريان شيئا. خاطب يونس بصوت واهن دون أن يلتفت إليه :

  • أنا ذاهب الآن .. إن كنت تحفظ لي بعض الودّ فلا تعلم أحدا .. أفهمت .. لا أحد مطلقا !..
  • لن تذهب وحدك .. سوف أقفل المحلّ وأصحبك إلى البيت. 
  • أنت تضجرني .. أعدك بأنّي لن أنتحر ..أنا مقبل على حياة جديدة .. معي ما يكفي من المال لأنعم بحياة شعبيّة بلهاء أرتكب فيها كلّ الحماقات التي حرمني منها العلم المزيّف..سوف أنسى أنيسة التي حصلت منّي على بغيتها ثمّ رمت بي كما ترمي بحفّاظة قذرة .. كيف لم أتفطّن مبكّرا لِطُموحها المَرَضِيّ وحبِّها للشّهرة.. كيف استطاعت إخفاء عواطفها الميّتة وقلبها الجليدي عنّي تحت قشرة النّعومة والإغراء ؟ !..ذاك هو العلم أو ما بقي منه في أيّامنا هذه : مطيّة يركبها المنحرفون للحصول على المراتب الجامعيّة !.. سوف أندمج بالسّواد الجاهل، بالدّهماء الذين لا تتجاوز أحلامهم اللّبلابي والشّيشة، هناك حيث لا يتهامس النّاس عنّي عند مروري في الطّريق لآخر مرّة أعرض عليك كتبي .. سوف تكسب منها الكثير حتّى إن بعتها بأبخس الأثمان.. 

نهض فجأة تهزّه نوبة عصبّية وصرخ :»فليعلم الحميع أنّ الأستاذ رضوان «منهجيّة»  يقدّم العلم قربانا على مذبح الحياة الحقيقيّة» ثم التفت إلى يونس وأضاف :

  • ولكنك أبعد عن أن تدرك المعنى العميق لهذا الفعل .. غدا سأعود ومعي شاهد عدل ..لإتمام إجراءات الهِبَة!
  • لن آخذ منك شيئا ويقيني أنّ الأمر سينتهي بك إلى مستشفى الرّازي!
  • كما تريد .. الجنون نعمة تكشف للخاصّة أسرارًا عجيبة يخفيها الغباء عن العوامّ الأسوياء.. 

انصرف الأستاذ متّجها إلى مدخل الزّقاق بخطوة خفيفة كأنّما نشط جسمه من عقال وبدا وجهه منفرج الأسارير مشرقا بابتسامة غامضة. ظلّ يونس يتابعه بنظرات حزينة قلقة ولم يلبث أن بلغه صوت صديقه وهو يهزج بأغنية «عايروني بيك يا حمّة»...

بينما كان يونس يستعدّ لغلق المخزن قبيل الغروب، أقبلت عليه أنيسة ذابلة الوجه وسألته إن كان بوراوي قد زاره في الفترة الأخيرة. كانت تلك مفاجأة محرجة وحار بِمَ يجيب وقد وعد صديقه أن لا يخبر أحدا بما دار بينهما؛ غير أنّه استحيا أن يَكْذِبَهَا القول، خصوصا أنّها كانت تكّن له مودّة واحتراما وتدعوه بـ «عمّ يونس» فما عسى يفعل لو ألحّت في سؤاله؟!. قرّر أن يجيبها باقتضاب في حدود أسئلتها ودون التّوسّع في تفاصيل ما أخبره به رضوان. أعلمها بزيارته ولمّح إلى حالته السّيئة مشيرا إلى حاجته الماسّة إلى الرّاحة. باغتته قائلة :» هل حدّثك عن وضعنا في البيت ! لم يجب يونس وتظاهر بعدم فهم السّؤال. أضافت:

  • أقصد هل حدّثك في موضوع افتراقنا ؟!
  • بلى.. قال إنّك غادرت البيت وتعتزمين رفع دعوى في الطّلاق..

انغلقت ملامحها في تعبير قاسٍ وقالت :»فعلا لقد فعلت .. ضقت ذرعا بظنونه وغيرته المرضيّة.. أصبح يعترض على سفري إلى الخارج للمشاركة في النّدوات العلمية ..وكم مرّة أغلظ لي في القول وما فتئ يذكّرني بأفضاله عليّ مدّعيا أنّني مدينة له بدرجتي العلميّة .. أنا الآن أعاني انهيارا عصبيّا إنّي أجفّ، أتخشّب ولم أجاوز الخامسة والثّلاثين من عمري!». نصحها يونس بالتّريث قبل الإقدام على أمر لا تحمد عقباه مشيرا إلى حالة زوجها اليائسة؛ واقترح أن يجتمع بهما للبحث عن حلّ ما ولكن ملامحها انقبضت وقالت بنبرة صارمة:

  • أرجوك عمّ يونس، لم آتكَ لتبحث لي عن حلّ .. لقد حزمت أمري ولا رجوع عن قراري .. الآن معي درجة علميّة تمكّنني من العمل في أي بلاد أخرى؛ سوف أهاجر إلى أيّ مكان أرمّم فيه وضعي وأستنشق هواء نقيّا افتقدته منذ سنوات.. وقد أجدّد حياتي مع رجل آخر لا يرهقني بجفاف عقله ورهبانيته الفكريّة.. دعنا الآن من ذلك .. أريد أن آخذ أغراضا شخصيّة وبعض الوثائق التي تركتها سهوا في البيت ولكنّ صاحبك غيّر القفل وأرجوك أن تتدخّل لديه لأسترجع أشيائي. 

ظلّ يونس صامتا برهة بينما كانت شتّى الخواطر المفزعة تتزاحم في رأسه؛ لا يدري لِمَ أحسّ بأنّ جانبا من حياته ينهار من حوله في سحابة من الغبار الممتزج بالرّائحة المنبعثة من الكتب البالية.كان يحبّ صديقه ويستأنس به وهاله ما آل إليه من يأس لعلّه ذهب بعقله؛ أيقن أنّ مشكلته مع أنيسة أشبه بورم انفجر وسال صديده ولن تفيد حكمته ومودّته لهما في شفائه. رفع إليها نظرة يائسة وقال: « أنيسة يا ابنتي .. سوف أحاول وأرجو من الله التّوفيق..». 

حاول عميد الكليّة جاهدا إقناع الأستاذ رضوان بن سعيد بالعدول عن قرار الاستقالة من قسم التّاريخ ولكن الرّجل ظلّ جامدا أمامه مردّدا بصورة آليّة: «لا بدّ من ذلك، لا بدّ من ذلك». قال العميد: أفهم أنّك تضايقت ممّا يدور من شائعات حول مساعدتك لزوجتك في إعداد أطروحتها، ولكنّك تعلم أنّها مجرّد أقاويل وتعلم أيضا أنّه لا تكاد تسلم أطروحة من شائعات .. الأمر بسيط وأنصحك أن تخرج في إجازة لبعض الوقت .. أنت في حاجة إلى الرّاحة.» سحب الأستاذ أوراقا من محفظته ونشرها بحركة عصبيّة فوق مكتب العميد قائلا: «سيّدي أمامك رجل لا يستحقّ مرتبته الأكاديميّة .. ليس في الأمر أقاويل وإنّما هي الحقيقة .. لقدّ اخترتُ إشكالية الأطروحة وقمت بتحرير النّصّ من أوّله إلى آخره  وهذه حجّة الإثبات أمامك.. رسائل إليكترونيّة تبادلتها مع المسمّاة أنيسة بن صالح بينما كانت تنعم بأوقات ممتعة مع عشيقها في الخارج.. عليك أن تقرأها لأنّها تتضمّن فقرات، بل فصولا كاملة كنت أعرضها عليها ليهنأ بالها.. جريمة غشّ مستوفاة الأركان..لا يزال لدي بعض الإحساس بمسؤوليتي إزاء العلم!».

مرّ وقت على العميد وهو يطالع الوثائق وأخيرا قال مفتعلا الهدوء: 

  • أرجوك، أستاذ رضوان، أنت زميل عزيز وتلك تهمة خطيرة لن يترتّب عنها فصلكما من الجامعة فقط بل قد تودعان السّجن .. أن تسيء لنفسك ولزوجتك التي سوف تفقد درجتها العلميّة .. نصيحتي لك أن تنسى الأمر .. لن يقتنع النّاس بغيرتك على العلم .. سيقولون إنّك فقدت صوابك وفعلت ما فعلت بدافع الغيرة والحقد.. أرجو أن ندفن السّر هنا.. هذا في صالحك!
  • ولكنّه ليس في صالح الحقيقة .. صدّقني أنّ الغيرة ليس الدّافع الوحيد .. أنا فعلا قَرِفٌ من نفسي ..أعرف تبعات ذلك عليّ ولكنّه الثّمن الذي ينبغي أن أدفعه لقاء خيانتي.. عليك أن تقوم بالإجراءات اللاّزمة لوضع حدّ لهذه المهزلة؛ وإذا كنت تخشى على سمعة الكلّيّة فأنا أؤكّد لك إنّ موقفا حازما منك سوف ينقذ وحده شرف هذه المؤسّسة!.. إن لم تفعل فسوف أرفع الأمر إلى جهات أخرى ..

جمع العميد الوثائق المنشورة أمامه وحفظها في ملفّ كتب عليه شيئا ثم دسّه في درج أغلقه بمفتاح. نظر إلى رضوان وقال بأسى: «إنّ كنت تعتقد فعلا أنّك تخدم الحقيقة فأنت سقراط هذا العصر !».

نهض الأستاذ من مكانه وانحنى يصافح العميد هامسا بسخريّة مرّة: «صدقت سيّدي العميد فلطالما عانى سقراط من زوجته مثلي .. يقال إنّها لم تكن تتورّع عن ضربه !»

بعد أيّام قدم يونس إلى نهج الدّباغين متأخّرا وفوجئ بغليان غير معتاد ورأى أعدادا من النّاس تتعالى ضوضاؤهم وهم يتصفّحون كتبًا مكوّمة في غير نظام على جانبيّ الرّصيف أمام الباعة. اقترب من أحدهم وتناول كتابا ونظر إلى الصّفحة الأولى فهاله أنّها تحمل طابعا يعرفه جيّدا :»مكتبة الأستاذ رضوان بن سعيد». بادره البائع قائلا : « يا لسوء حظّك يا عمّ يونس، حُرِمْتَ اليوم من زَرْدَةِ صاحبك الأستاذ.. لقد أغرقنا جميعا بإحسانه ووزّع علينا كلّ ما يملك من كتب.. شاحنة بأكملها أفرغها على الرّصيف!».

رمى يونس بالكتاب أرضا وابتعد صامتا محاولا كبت انفعاله وعندما وصل إلى مدخل الزّقاق المؤدّي إلى مخزنه، لمح رضوان جالسا أمام بابه المقفل وهو يدخّن شيشة ويحتسي القهوة. كان يرتدي سروال «دجين» ومريول بحريّة ويرفع عقيرته بأغنية شعبيّة. وعندما رأى يونس أشار إليه بحركة مرحِّبة من يده وعلى شفتيه ابتسامة بلهاء. ولكن يونس توقّف عن السّير ثم عاد أدراجه منفطر القلب دامع العين .. لم يكن قادرا على مواجهة صديقه وهو على تلك الحال.. لقد انتحر على طريقته الخاصّة.. وفكّر أنّ عليه الآن الاتّصال بطبيب يأمر بأخذ الرّجل إلى مستشفى الرّازي.

علي اللواتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.