أخبار - 2018.08.31

مائويّة الأستاذ الشّاذلي بو يحيى (1918 - 1997) من أساطين الجامعة التّونسيّة

مائويّة الأستاذ الشّاذلي بو يحيى (1918 - 1997) من أساطين الجامعة التّونسيّة

لم ينل الأستاذ الشّاذلي بو يحيى، في حياته وبعد وفاته، ما هو جدير به من احتفاء وتكريم وتنويه رغم أنّه كان رائدا من روّاد التّعليم العالي في تونس وقامة فارعة من قامات الجامعة التّونسيّة على امتداد أكثر من أربعين سنة وعَلَما من الأعـــلام الذّين ساهموا في إشعاع تونس العلميّ، فهو من العرب القلائل الذّيــن حــرّروا فصـــولا بدائرة المعارف الإسلاميّة Encyclopédie de l’Islam، ولعلّه العربيّ الوحيد الذّي تولّى رئاسة لجنة دكتورا الدّولة بباريس.

ولأنّه كان يشعر بما تُقابَل به عطاءات أهل العلم وجهودهم من عدم المبالاة وقلّة الاكتراث فقد أُثِر عنه أنّه كثيرا ما كان يُردّد بيت أبي العتاهية الذّي يقول فيه:

سَيُعْرَضُ عَنْ ذِكْرِي وَتُنْسَى مَــوَدَّتِي      وَيَـحْـدُثَ بَعْـــدِي لِلْخــَلِيلِ خَلِيــلُ

وإذ نُحيّي روحه الطّاهرة بمناسبة مرور مائة سنة على ميلاده فإنّنا أردنا أن نقول له وهو في عالم الخلد: لن يُعرض طلبتُكَ وأحبّاؤُكَ عن ذكركَ ولن ينسوا مودّتكَ ولن يحدث لهم بعدكَ من أخلّاء سواكَ ، فقد أورَدْتَهم عيونا صافية وأورَثْتَهم أعلاقا نفيسة وتركتَ لهم ما به يُفاخرون ومنه يستلهمون ويقتبسون. وُلد الأستاذ الشّاذلي بو يحيى سنة 1918 بمدينة سوق الإربعاء (جندوبة) لأب أصيل منطقة الجريد وأمّ تنحدر من أصل جزائريّ، تعلّم الابتدائيّ بجندوبة والثّانوي بالصّادقيّة والعالي بباريس توَّجَهُ بالحصول على الإجازة في العربيّة سنة 1943 فالتّبريز سنة 1949 ، وأخيرا دكتورا الدّولة سنة 1969.  ولعلّ أوّل ما يلفت في سيرة الأستاذ الشّاذلي بو يحيى وفاؤه الشّديد للتّعليم عامّة وللجامعة التّونسيّة على وجه الخصوص، فلم يتقلّد مناصب إداريّة لا في ميدان التّربية ولا  في غيره من الميادين ولم يضطلع بمسؤوليّات تحول دونه ومباشرة التّدريس، وقد أنفق في فصول العلم ومدرّجات الجامعة اثنتين وأربعين سنة كاملة منها عشر سنوات بالتّعليم الثّانوي (من 1943 إلى 1953) واثنتان وثلاثون سنة بالتّمام والكمال في التّعليم العالي (من 1953 إلى 1985). ولئن أجبرته قوانين الوظيفة العموميّة على التّوقّف عن التّدريس مكرها بعد الإحالة على شرف المهنة – ولم يرض عن ذلك ولم يطب به خاطره – فإنّ نشاطه العلميّ والأكاديميّ لم ينقطع حتّى وفاته، إذ واصل الإشراف على أطاريح دكتورا الدّولة والمشاركة في لجان المناقشة حيث ناقش آخر الأطروحات التّي أشرف عليها يوم 13 أفريل 1994 وهو في السّادسة والسّبعين من العمر، ولعلّه امتياز ينفرد به ويرفعه إلى مرتبة أولئك الذّين نذروا الحياة كلّها للعلم. وممّا يُميّز سيرة الأستاذ الشّاذلي بو يحيى أنّه وقف حياته على خدمة التّعليم العالي ومؤسّساته في تونس حتّى قبل تأسيس الجامعة التّونسيّة. فقد كان، قبل الاستقلال، صحبة محمود المسعدي من المدرّسين التّونسيّين القلائل بمعهد الدّراسات العليا وذلك منذ سنة 1953.

ولمّا تأسّست دار المعلّمين العليا وانطلق التّدريس بها في بداية السّنة الجامعيّة 1956-1957 كان من الأساتذة المبرّزين الذّين تمّ إلحاقهم بالدّار صحبة الشّاذلي القليبي ومحمّد الطّالبي وفرحات الدّشراوي. وحظيت امتحانات آخر السّنة بحضور عميد الأدب العربيّ طه حسين فاضطلع الأستاذ الشّاذلي بو يحيى بمهمّة مساعدته في الإشراف على تلك الامتحانات.وبعد تأسيس الجامعة التّونسيّة في 1958 كان من الدّفعة الأولى لأساتذة قسم العربيّة بكليّة الآداب والعلوم الانسانيّة وقد ضمّت أحمد عبد السّلام ومحمّد الطّالبي وفرحات الدّشراوي وصالح القرمادي ثمّ التحق بهم في السّنة الجامعيّة 1963 – 1964 عبد القادر المهيري ومنجي الشّملي ومحمّد عبد السّلام والحبيب الشّاوش وعبد المجيد التّركي. وفي تلك الأثناء ساهم صحبة أحمد عبد السّلام في تأسيس مجلّة أكاديميّة رائدة سيكون لها أثر بعيد في الحركة العلميّة بالجامعة وهي «حوليّات الجامعة التّونسيّة»، وسيتولّى الأستاذ الشّاذلي بو يحيى إدارة تلك المجلّة لفترة طويلة من 1969 إلى 1985 ثمّ سيصبح بعد التّقاعد مديرا شرفيّا لها وعضوا في هيئة تحريرها إلى تاريخ وفاته.
من مناقب الأستاذ الشّاذلي بو يحيى أنّه كان مؤمنا بقيمة الإسهام التّونسيّ في إغناء الثّقافة العربيّة وبأهميّة الإضافة التّونسيّة إلى التّراث الإنسانيّ، ذلك أنّه كان صاحب مشروع علميّ متكامل يرمي إلى إبراز مكانة تونس الأدبيّة ومنزلة الأدب التّونسيّ في مختلف عصوره ، فقد جعل موضوع أطروحة دكتورا الدّولة التّي تقدّم بها إلى جامعة باريس- السّربون حول «الحياة الأدبيّة بإفريقيّة في عهد بني زيري « (362هـ/ 555هـ)، ثمّ استكمل هذا المشروع من خلال توجيه ثلاثة من الأساتذة الباحثين إلى إنجاز أطاريح دكتورا دولة حول الحياة الأدبيّة بإفريقيّة في عهود سابقة للدّولة الصّنهاجيّة ولاحقة بها. وعلى هذا النّحو أشرف على أطروحة للأستاذ محمّد المختار العبيدي حول «الحياة الأدبيّة بإفريقيّة في عهد بني الأغلب 184هـ/296هـ)»، وأطروحة للأستاذ محمّد توفيق النّيفر حول «الحياة الأدبيّة بإفريقيّة في العهد الفاطمي (296هـ/362هـ)»، وأطروحة للأستاذ أحمد الطّويلي حول «الحياة الأدبيّة بتونس في العهد الحفصي (1230هـ/1574م)».

فإذا ألّف القارئ بين هذه الأطاريح الأربع وجدها تُغطّي ثمانية قرون (من القرن 2هـ إلى القرن 10هـ) من التّاريخ الأدبيّ التّونسيّ وتُعرّف بجلّ أعلامه وما أنتجوه من آثار مختلفة في الشّعر والنّثر والنّقد الأدبيّ. وتُضاف إلى ذلك كلّه الجهود التّي بذلها الأستاذ الشّاذلي بو يحيى في تحقيق المخطوطات التّونسيّة وتقديم الكتب المتّصلة بالأدب في تونس، فقد حقّق كتاب ابن رشيق القيرواني «قراضة الذّهب في نقد أشعار العرب»، وكتاب محمّد القروي «حادثة جويّة على الاستطلاعات الباريسيّة»، وقدّم كتاب «ورقات عن الحضارة العربيّة بإفريقيّة التّونسيّة لحسن حسني عبد الوهاب» بأجزائه الثّلاثة، وكتاب «تاريخ إفريقيّة والمغرب» للرّقيق القيرواني وغير ذلك كثير. ولم يقصر اهتمامه بالأدب التّونسي على عصوره القديمة فحسب بل عُرف للأستاذ الشّاذلي بو يحيى اهتمام خاصّ بعدد من الأدباء التّونسيّين المعاصرين من ذلك عنايته بأدب أبي القاسم الشّابّي ومحمّد الحليوي تشهد على ذلك مقالاته المتنوّعة عن «شاعريّة» الشّابّي وتقديمه لبعض مؤلّفات الحليوي. لا يملك النّاظر في مقالات الأستاذ الشّاذلي بو يحيى والمستمع إليه محاضرا أو مناقشا إلّا أن يُعجب بقدرته الخارقة على المجادلة والخصام العلميّ وبراعته الفائقة في الحجاج والمنافحة اللّذين ينتهيان إفحاما وتبكيتا، وحسبنا أن نذكر ثلاثة أمثلة مشهورة عند زملائه وطلبته:

  • أوّلها مقاله بحوليّات الجامعة التّونسيّة (العدد 1) حول تاريخ وفاة إبراهيم الحصري حيث أثبت بالحجّة الباهرة والدّليل القاطع وقوع بعض كبار مؤرّخي الأدب من أمثال الصّفدي صاحب «الوافي بالوفيات» وابن بسّام صاحب «الذّخيرة» وحاجي خليفة صاحب «كشف الظّنون» في الخطإ عند ترجمتهم لابراهيم الحصريّ وضبط تاريخ وفاته.
  • ثانيها مقالان بالحوليّات كذلك (العدد 8 والعدد 9) حول نشر كتاب «قطب السّرور في وصف الأنبذة والخمور» للرّقيق القيرواني حيث طعن على بعض المعطيات الواردة في فصل «ابن الرّقيق» بدائرة المعارف الإسلاميّة الذّي حرّره الأستاذ محمّد الطّالبي. ولئن ردّ الطّالبي على المقال الأوّل فإنّ تعقيب الأستاذ بو يحيى جاء أنموذجا أمثل في الحجاج المفحم الدّقيق وآية من آيات المجادلة التّي لا تترك للخصم مهربا دون الإذعان والتّسليم.
  • ثالثها مقال بمجلّة الفكر (السّنة 6، العدد 3، ديسمبر 1960) ردّ فيه على النّاقد الفلسطيني الشّهير إحسان عبّاس الذّي أنكر شاعريّة الشّابّي عند تحليل قصيدته «أيّتها الحالمة بين العواصف»، فكان مقال الأستاذ بو يحيى الذّي حمل عنوان «النّقد فنّ صعب المراس» درسا بليغا لإحسان عبّاس في أصول النّقد الأدبيّ وآليّاته وطرائقه ومقاييسه.

عُرف الأستاذ الشّاذلي بو يحيى في الأوساط الجامعيّة بصرامته العلميّة في البحث والتّدريس وحرصه الفائق على التّدقيق والتّحقيق، فقد كان ثَــبَــتا محقّقا وعالما مُدقّقا يُلازم في البحث الأناة والصّبر ويُصاحب في العلم الصّرامة والجدّ، يُفضّل الرويّة على الرّأي الفطير وعناء الدّرس وكدّه على بريق الخاطر العابر. وأهّلته هذه الخصال لأن يُدعى إلى إلقاء دروس بجامعات أجنبيّة عديدة فدرّس بجامعة السّربون بباريس من 1982 إلى 1984 وألقى دروسا مؤقّتة بجامعة الجزائر (1965) وبجامعتي الرّباط وفاس بالمغرب (1968) وجامعة باريس الثّامنة Vincennes (1973 و1976) والجامعة اللّبنانيّة وجامعة بيروت العربيّة (1974) ودار المعلّمين العليا بنواكشوط (1975). وبعد مرور أكثر من عقدين على وفاته ما يزال طيف الأستاذ الشّاذلي بو يحيى يرفرف في ساحات الجامعة التّونسيّة ينشر القيم الأكاديميّة العُليا ويُذكّر بجوهر البحث والدّرس وهو الإخلاص للحقيقة والسّعي إليها بأمانة الصّدّيقين وصبر المجتهدين وتواضع المريدين.

د. الحبيب الدريدي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.