منجي الزّيدي: المرأة مستقبل الإنسان

منجي الزّيدي: المرأة مستقبل الإنسان

كتب المصلح التونسيّ الرّائد الطّاهر الحدّاد عام « 1929 المرأة هي أُمُّ الإنسان .» وأنشد بعده الشّاعر الفرنسيّ الكبير Louis Aragon : قولته الشّهيرة:
La femme est l’avenir de l’homme, ولتي أميل إلى تعريبها بالمرأة مستقبل الإنسان. ذلك أن الذّات الإنسانيّة وحدة مُوَحَّدة متكاملة، فالله عزّ وجلّ خلق الإنسان من ذكر وأنثى ولم يُفرّق بينهما. الميز والحيف والاضطهاد نتاج اجتماعيّ من فعل البشر. ولا جدال في أن تحضّ المجتمعات وسعيها الى تحقيق الرقيّ الإنسانيّ مرتبط بمكانة المرأة فيها. وهذه المكانة تعلو بفضل الثّقافة والوعي المستنير، وتنحدر بسبب الانحطاط الفكريّ والتّزمت الدينيّ والعُقد النفسيّة-الجنسيّة.

قد أدرك المصلحون في بلادنا منذ ما يزيد عن قرن من الزّمان أن إصلاح المجتمع مشروط بإصلاح أوضاع المرأة وفكّ أسرها الاجتماعيّ والاقتصاديّ، وتحرير طاقاتها، واحترام ذاتها، والإيمان بقدراتها، من منطلق القراءة المستنيرة للدين الإسلاميّ والاجتهاد في تأويل تعاليمه بما يتناسب وقيمةالإنسان وتبدّل الأحوال وتغيّ الأزمان وتطوّرالمجتمعات.

كما أيقنوا أنّ مجتمعا نصفه مُقيّدٌ هو مجتمع مُقْعَدٌ كسيح. وتفطّنوا بنباهتهم وصدق وطنيتهم إلى ارتباط النهوض بالمرأة بالتعليم. ذلك أن ما آلت إليه مكانة المرأة من تخلّف وتَرَدٍّ كان نتيجة قرون من الجهل والتجهيل والانغلاق والتحجّر.

لقد انتبهت النّخبة المستنيرة منذ نهاية عشرينات القرن الماضي إلى لزوم تعليم المرأة تعليما عصريًا متوازنًا يساعد على تطوير أوضاعها ويُكّنها من القيام بوظائفها الاجتماعيّة في الأسرة والمجتمع. وتَجَسَّدَ هذا التلازم في مشروع دولة الاستقلال التحديثيّ بقيادة الزعيم الخالد الحبيب بورقيبة. وها نحن اليوم نجني ثمار ذلك. فإذا كان عابر الطّريق في السّنوات الأولى بعد الاستقلال يندهش من «تضخّم سيل البنات المقبلات على المدارس مثقلات بالكتب والدفاتر» ويدرك «مدى تسابقهنّ على موارد التثقيف وازدحامهن على مناهل العرفان ») كما جاء في وصف العلامة حسن حسني عبد الوهاب في تقديم الطبعة الرّابعة من كتابه شهيرات التونسيات (فإننّا اليوم وعندما ننظر في محيطنا الاجتماعيّ نجد في أكثر من أسرة تونسيّة فتاة متميّزة تحتلّ المراتب الأولى في التحصيل الدراسي وتتألّق داخل الوطن وخارجه.

فتيات نابهات مجتهدات يعكفن على الدراسة ويثابرن في طلب المعرفة. نتائج مناظرة الباكالوريا للأعوام الثلاثة الماضية دليل على ذلك فقد حصد الصبايا أعلى المعدّلات: أحلام، سيرين، هيفاء، أميمة، آمنة، أريج، أمل، ياسمين، رؤى، إيناس، مريم، لينا، منال... أذكرهنّ دون ذكر ألقابهنّ العائلية فلهنّ لقب واحد: التونسية، إذ هُنّ بنات تونس وزرعها الطيّب.

ولا يَحسَبنّ البعض أنّ هؤلاء المتفوّقات منقطعات للدراسة وزاهدات في مجالات الحياة الشّبابية الأخرى بما فيها من أنشطة فنية ورياضية وترفيهية. لا بل هُنّ يعشن حياة متوازنة معتدلة. ويزاولن واجباتهن بانضباط وتنظيم. فتيات متوازنات وجَدن في أسرهن الحُنوّ والرّعاية وحفز الهمّة والاحترام.

وتَعَّهدَهُنّ مربّون أجلاّء بالمتابعة والتّوجيه والتّشجيع. وتعلّقت همّتهُن بطلب العُلى فسهرن اللّيالي. وقبل ذلك وبعده فهُنّ لا ينقصهنّ لا العقل ولا الدّين.

إنّ ظاهرة تَيُّز الفتاة في الدّراسة والعمل ليست حكرا على تونس بل هي ظاهرة منتشرة في مجتمعات كثيرة. فأغلب المُدرّسين يعرفون أنّ الطالبات أكثر انضباطا واجتهادا والتزاما وتفوّقا في الدراسة من زملائهنّ الطّلاب.

نايلة المزغنّي رئيسة قسم علمي جامعي بكندا

للظاهرة بلا شكّ أسباب وعوامل اجتماعيّة ونفسيّة واقتصاديّة. ولكن الأرجح أنّ هناك استعدادًا أنثويًّا للعمل والبذل والتضحية لا يتوّفر دائما عند الذّكور. وهو استعداد لا يقتصر فقط على التّعليم بل يمتّد إلى مجالات الحياة العمليّة. وتؤكّد الملاحظة السوسيولوجيّة والمعايشة اليوميّة، في ظلّ غياب الدراسات والإحصائيات، جديّة المرأة في العمل وحرصها على الإتقان والتزامها بالقوانين والضوابط.

هنالك بلا شكّ استثناءات، ولكن كلّما أتيحت للمرأة فرصة الإشراف والتسيير إلاّ وأثبتت كفاءتها واستقامتها. فهي في الغالب الأعم تتعامل مع عملها وتدير مصالحه بعقلية الأمّ وربّة الأسرة.

وإذا كانت المرأة منبع الحياة، وقد خصّها الله بامتياز الحمل وشرف الوضع، ومنحها من القّوة ما تتحمّل به شدّتهما، فهل بها بعد هذا من الضّعف ما يُبرّر إقصاءها عن مواقع القيادة ومراتب الريادة؟

أن يتمادى المجتمع الذكوريّ في جهله وغطرسته ويعتبر المرأة ناقصة عقل ودين، ويُشهر في وجهها تهمة الضّعف الجسديّ والهشاشة النفسيّة فذلك إصرار على التّخلف. الشعوب التي تقودها نساء شعوب لا تقلّ عنّا وعيًا أو ثقافةً أو تديّنًا، هي فقط تجاوزت عقدها ونرجسيتها وتخلّصت من تراث «شهريار» و«سي السّيد»، وأدركت أنّ المرأة فعلا مستقبل الإنسان.

منجي الزّيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.