أخبار - 2018.08.10

الأديب التّونسي علي الورداني مـكلّـفًا من السّـلطـان بمهمّـة علميّـة فـــي إسبانـيا

الأديب التّونسي علي الورداني مـكلّـفًا من السّـلطـان بمهمّـة علميّـة فـــي إسبانـيا

علي الورداني شاعر ورحّالة تونسي، وهو من أوائل التّونسيين الذين انخرطوا بالمدرسة الصّادقية وتلقّوا بها تعليمًا متقدّمًا يجمع بين أصالة الثّقافة العربية الإسلامية وبين العلوم الحديثة. وشأنه شأن كثير من التّونسيين الآخرين سافر الورداني إلى استانبول، وأقام بها مدة طويلة استفاد ممّا فيها من الكُنوز العلميّة والثقافيّة، ثم كلّفته نظارة المعارف، ضمن بعثة علميّة، للانتقال إلى إسبانيا للبحث عن المخطوطات العربيّة في مكتباتها. وقد تركت هذه الرّحلة أثرًا بالغًا في نفس الورداني، وكانت بمثابة البحث عن المجد الضّائع في بلاد ظلّت تحت حكم المسلمين لمدة قرون من الزّمن.

لكن قبل الخَوض في الحديث في شخصيّة علي الورداني العلميّة ومهمّته إلى إسبانيا، يحسُن بنا أن نُلقي الضّوء بشكل سريع على علاقة العَرب بالتّراث العلمي الإسلامي في مكتبات إسبانيا.

المسلمون وعلاقتهم بالتراث العلمي في إسبانيا

بعد انقطاع طويل عن مصادر المعرفة في إسبانيا بدأ العرب، سواء منهم المشارقة أو المغاربة يتردّدون على إسبانيا، وقد كان الغرض من رحلاتهم طلب العلم والرّغبة في اكتشاف  ما في هذه البلاد من مخطوطات وتراث علمي عربيّ . كما أنّ تردّدُ العرب على إسبانيا يُمثّل  ربطًا جديدًا للصّلات التي انقطعت طوال قرون عديدة بين البلاد العربيّة والغرب عمومًا. ويمكن إرجاع انقطاع هذه العلاقات إلى عدّة صعوبات لعلّ أهمّها: اِنطواء العرب على أنفسهم خاصّة في القرون الوسطى بعد الهزائم التي لحقت بهم من قبل الغرب المسيحي، وطرد المسلمين من الأندلس. بيد أنّ العرب والمسلمين أخذوا  يخرجون من هذه العزلة إثر حملة نابليون بونابارت على مصر. وقد تجلّت بوادر الوعي بمكانة الغرب مع محمّد علي، الذي أدرك بعمقٍ الأبعادَ الحضاريّة لحملة بونابارت، وذلك ما جعله يقتنع بضرورة الاقتباس من الغرب مع المحافظة على الرّوح الإسلاميّة. كما جعله يقتنع بأن لا سبيل لتحقيق هذه المعادلة إلاّ عن طريق المعرفة، وهذا ما يُفسّر تكاثر البعثات العلميّة العربيّة  خاصة ابتداء من عام 1828م، وكانت العواصم الأوروبية الكبرى مثل روما وباريس ولندن وبرلين قبلة هذه البعثات، بينما ظلّت إسبانيا بعيدة عن الاهتمام. غير أنّ مشاعر الحنين لدى العرب والمسلمين سوف تتحرّك بدواخلهم لما لهذه المدينة من تاريخ لا يمكن أن يُمحى من الذّاكرة الإسلامية.

وبالإضافة إلى هــذا يرى الأديــب الفرنـــسي «هنري بيراس» (1890 - 1983م) في كتابه «إسبانيا كما يراها الرّحالة المسلمون»  أنّ هناك عاملين أفرزا الرّغبة في الالتفات إلى إسبانيا هما أوّلا: إنشاء صحيفة الجوائب  في القسطنطينية، وثانيا: مساهمة المشارقة في المؤتمرات العالمية للمستشرقين في أوروبا . وقد أسّس أحمد فارس الشّدياق في القسطنطينيّة جريدته «الجوائب» في عهد السّلطان عبد الحميد الثاني، وكانت ناطقة بالعربيّة وساهمت في نشر التراث الفكري والأدبي العربي وذلك بمباركة من السّلطان نفسه، إلا أنّ الشدياق الذي عاش طويلا في أوروبا  وتشبّع بالمناهج العلميّة لم يكن ليكتفي بما توفّر له من وثائق لا تخلو من نقائص تضعف من قيمتها العلمية. ولذلك حرص على الاطّلاع على محتويات المكتبات الأوروبية من مخطوطات عربيّة والتي يحتاجها حاجة ملحّة لمواصلة رسالة «الجوائب» كما يتصوّرها. ومن أهمّ المكتبات الأوروبية التي تحتوي على مخطوطات عربية ثمينة مكتبات إسبانيا وخاصة مكتبة الأسكريال بمدريد. ولعلّه أعلم السّلطان عبد الحميد برغبته، وتجسّمت هذه الرّغبة ابتداء من عام 1885م حين أخذ هذا السّلطان يُرسل البعثات إلى إسبانيا بحثًا عن المخطوطات. وأوّل من فتح الطّريق هما محمد محمود الشّنقيطي وعلي الورداني.

من تونس إلى استانبول

كانت ولادة علي الورداني في عام 1861م، وقد وصل في سنّ مبكّرة إلى تونس قادمًا إليها من بلدة «أكودة» التّابعة لمنطقة السّاحل، ودرس في المدرسة الصّادقية التي تمّ إحداثها سنة 1875م في عهد المشير محمد الصّادق بك . وقد حذق العربية والفرنسيّة والتركيّة والإيطالية، الأمر الذي لفت انتباه مؤسّس المدرسة الصّادقيّة الجنرال خير الدّين الذي كلّفه بعد ذلك بمهمّة أمانة سرّه.  وعندما غـــادر خير الدّين البلاد التّونسية تلبية لدعوة من السّلطان عبد الحميد الثاني لتكليفه بمهمة الصّدارة العظمى (رئاسة الوزراء) في الدّولة صاحَبه علي الورداني مع عائلته إلى استانبول التي سيقضي بها أجمل وأخصب سنوات حياته. وكان خير الدّين التّونــسي اُستدعي من قبل السّلطان في عام 1878م على إثر هـــزيمة الدّولة العثمانية في الحرب مع روسيا بهدف الاستفادة من تجـــربته وخبرتــه لإصــلاح أحوال الدّولة العثمـــانية المتــأزّمة على جميــع المستويات. أقام علي الورداني في قصر الصّدر الأعظم، وكان يتردّد عليه بلا انقطاع أعيان الدّولة العثمانية آنذاك، فضلاً عن الشّخصيات العلمية والفكريّة الإسلامية التي كانت تدفعها طموحاتها أو ميولها نحو ذلك القصر. وفي استانبول أتقن علي الورداني اللّغة التركيّة أكثر من خلال معاشرة العلماء والمفكّرين والسّاسة وكثرة الحديث معهم. وقد كان صاحبنا كثير التنقّل في أرجاء المدينة الجميلة التي تزخر بالآثار القديمة التي مرّت عليها مئات السّنين، لكنّها ما تزال صامدة تحكي قصص التّاريخ والحضارة، ومن أبز هذه الآثار مكتبة السّليمانية التي تأسّست في عهد السّلطان سليمان القانوني، ومكتبة بايَزيد القريبة منها ومكتبات أخرى كثيرة منتشرة في أرجاء المدينة.  

وقد كان يشدّه حنين خاصّ إلى مقام الصّحابي الجليل أبي أيّوب الأنصاري في منطقة «أيّوب سلطان» التي سمّيت باسمه تكريمًا له. وكان هذا الصّحابي توفّي في العصر الأموي تحت أسوار قياصرة الرّوم، وكانت نيّته تنفيذ وصيّة النّبي عليه الصّلاة والسلام عندما قال «لتفتحن القسطنطينيّة فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش» .  فكانت نيّته فتح القسطنطينية، إلا أنّ المنيّة وافته قبل أن يحقّق حلمه. ولقد كانت تلك الأحلام المتواصلة تقود هذا الشابّ بعيدًا عن وسط المدينة الصّاخب فتثير قريحته الشّاعريّة وتوحي إليه ببعض المقاطع الشّعرية الرّقيقة. ثم أخبره الصّدر الأعظم ذات يوم أنّه اقترح على السّلطان تعيينه كاتبًا للبعثة العلميّة المكلفة بإحصاء المؤلّفات العربيّة المحفوظة في مكتبات إسبانيا وفرنسا وانجلترا ودَرسها وتمحيصها.

السفر إلى إسبانيا

في مستهل كتابه «الرّحلة الأندلسيّة» يتحدّث علي الورداني عن المهمّة التي تمّ تكليفه بها إلى إسبانيا وباريس ولندن ضمن البعثة العلميّة. غير أنّ التّركيز في الرّحلة كان منصبًّا أكثر على إسبانيا لما فيها من كثرة المخطوطات العربيّة المحفوظة «إنّه لما كان الاهتمام بشأن تقدّم العُلوم والمعارف من أجلِّ المقاصد المتّجهة نحو تقدّمها يومًا فيومًا أنظارُ جلالة مولانا السّلطان المعظّم عبد الحَميد خان أيد  الله سلطنته بعثت نظارةُ المعارف العموميّة السّلطانيّة مأموريةً إلى إسبانيا وباريس ولندرة للاطلاع على بعض ما بها من الآثار العربيّة والكتب النّفيسة الإسلامية، وعيّنتني تُرجمانًا للمأموريّة بأمر حضرة الوزير الخطير والفيلسوف الشّهير عالم الوزراء ووزير العُلماء صاحب الدّولة منيف باشا وزير المعارف العموميّة». وقد استغل الورداني فرصة وجوده في إسبانيا ليكتُب شيئًا عن رحلته وما استكشفه وما رآه من المشاهدات والآثار بتلك الدّيار. لعلّ أهمّية رحلة الورداني تكمن في الازدواجيّة بين ماضي الأندلس المجيد وما فيه من عظمة سياسيّة وفكريّة وعلميّة، وبين حاضر الأمّة الإسلامية وما يكتنفه من ضعف وهوان، إنّها سياحة في ماضي المسلمين ولهاث وراء المجد الضّائع، وهكذا تسنّى لهذا الكاتب التّونسي الذي حلّ ضيفًا على استانبول أن يخُوض هذه التّجربة الفريدة الصّعبة ليمزج بين ماض ناصعٍ عريق وبين حاضر مرير ليعيش هذا التّمزق وهذه الغربة. ومن هنا كانت لرحلته قيمة أدبيّة وفنيّة كبيرة تستحقّ التأمّل والدّراسة.

بعد أن تلقّى الورداني وصحبه «الأوامر العلية اللاّزمة والتّعليمات المقتضبة من نظارة المعارف الجليلة» أخذ في «التّداركات السّفرية فلمّا كان يوم الأربعاء تاسع عشر ذي الحجة سنة 1304 هــ «بارح دار الخلافة العظمى» . وقد وصف لنا البحر حال خُروجه من مدينة استانبول وصفا أدبيًا شاعريًّا ينمّ عن خيال وجمال فقال: «وعندما ركبنَا الفَابور كان الهواء ساكنًا لطيفًا ومرآة الجوّ صقيلة جدّا، ومياه الخليج هادية الرّوع، والوقت وقت العصر والشّمس مائلة إلى حيث الغروب(...) ومازلت كذلك حتى استترت عنّا غرّة الشّمس وأشرق جبينُ القَمر، فشكَّلت للعيون أبهى منظر  وأبهج مخبر...».

غادرت البعثةُ استانبول في 8 سبتمبر سنة 1887م ووصلت بعد بضعة أيّام إلى مرسيليا. ثمّ توقّفت قليلاً بمدينة بوردُو ومنها تحوّلت إلى إسبانيا، ثم توجّهت إلى مكتبة الإسكوريال  وشرعت في القيام بالمهمّة المنوطة بعهدتها، أي إحصاء المخطوطات النّادرة الموجودة في تلك المكتبة ودراستها دراسة علميّة. كما استغلّ أعضاء البعثة الفرصة للتجوّل في العاصمة الاسبانيّة وزيارة معالمها الأثريّة والتّمتع بجمالها. ومن هناك تحوّلوا إلى طليطلة وإشبيلية وقرطبة وغرناطة وبلنسية، وأجروا بها أبحاثهم. ولم يغفل علي الورداني عن تسجيل ملاحظاته كتابيّا إذ أنّ ذلك يمثّل أهمّ ما كُلّف به من عمل، وذلك لتمكين المهتّمين بهذا المجال للاستفادة من الانطباعات العديدة التي حصلت له خلال رحلته الطّويلة عبر تلك المناطق ذات الجمال الخلاّب والتّاريخ العتيد.

مشاهدات الورداني في إسبانيا

في مدريد بدأ الورداني يتنفّس الأمجاد الضّائعة، فقد رأى على أبواب هذه المدينة نقوشًا مُتقنة ملوّمة مأخوذة من آثار العرب، إلا أنّ هذه النّقوش تغيّرت مع الزّمن وداخلها الفنّ الأوروبي، ولذلك لا يتبيّنها إلاّ من كانت له معرفة تامّة بالنّقوش العربيّة.  وفي مدينة الإسكوريال يُقبل الورداني على آثار القُصور العربية الموجودة بالمدينة فيصف ما بها من نُقوش ورسوم، وقد استرعى انتباهه بقصر فيليب الثاني رسوم جُدرانه التي تصوّر حروب دولة إسبانيا مع غيرها من الدّول بما فيها الدّولة العليّة «وفي جُدران القَصر المذكور رسم غالب محاربات دولة إسبانيا سواء كانت مع العرب أو مع غيرهم من الدّول، حتّى أنّي رأيت بعيني رسم المحارَبة المشهورة التي وقعت في خليج (اللينت) بين الدّولة العلّية وإسبانيا، لكن هذه الوقائع مرسومة بكيفيّة لا تكاد تُوصف إلاّ بلسان المشاهدة».  

ويذكر الورداني أنّ الوفد العلميّ مكث في مكتبة الإسكوريال الموجودة في القصر ذاته عشرين يومًا لمدة ستّ ساعات كلّ يوم ما عدا يوم الأحد، يتصفّح الكُتب وينقّب فيها. وقد أُعجب بالإتقان الذي يُميّزها  والتّرتيب الذي هي عليه، ويذكر أنّ فيها 84 ألف مجلّد منها أزيد من ألفي مجلّد كتب عربيّة اختار منها هو 408 كتب سجّلها كلّها وقدّم عنها تقريرًا مفصّلاً للوزارة العثمانية. ويعتقد النّاس خطأً حسب الورداني «أنّ الكُتب العربية الموجودة في هذه المكتبة من مخلّفات الأندلس، وليس الأمر كذلك، فقد أظهر لي التّحرّي والتّحقيق وكثرة المحاورة والمذاكرة مع أرباب الوقوف والاطّلاع أن الإسبان لما ملكوا الأندلس أشار عليهم رُؤساء الأَديان بحرق الكُتب الإسلاميّة، لا سيّما الدّينية فكانوا كلّما تمكّنوا من بلاد أحرقوا كتبها إلاّ ما بقي عند بعض الأفراد، وأنّ هذه الكُتب هي من كتب زيدان أمير المغرب كان اِشتراها من المشرق، وبينما مأمورُوه قد قَدموا بها إذ فاجأتهُم سفن إسبانيا الحربيّة قريبًا من بوغاز سبتة (جبل طارق) فغلبتهُم وغَصبت هذه الكتب، فهي في التحقيق من كُتب حُكومة مراكش لا الأندلس. والذي يدلّ على صحّة ما ذهبتُ إليه ما شاهدته مكتوبًا على أغلب الكُتب من أنّها ملك الأمير زيدان المذكور». وقد أطلعه بعض قسيسي مدينة الإسكوريال على أنواع من النّقود الإسلامية وقد كُتب على وجهها الأوّل: لا إله إلا الله، والأمر كلّه لله، لا قدرة إلا لله، أمّا الوجه الثاني فقد كتب عليه: الله ربّنا ومحمد رسولنا والهادي إمامنا. والظّاهر أنّ هذه النّقود هي من سكّة الخليفة العبّاسي موسى الهادي، إذ ليس من الخلفاء العبّاسيين من تلقّب باسم الهادي غيره. وصف الورداني طليطلة وأشبيلية وقرطبة وغرناطة تلك المدن الفاتنة المثيرة لذكريات ماض مليء بالأحداث المجيدة أو المحزنة. ولنتوقّف معه في قرطبة ولنتخيّل ما شعر به من حزن عميق عندما عبر شوارع تلك المدينة العريقة الفخورة بماضيها المجيد، وتذكّر كيف كانت مزدحمة بالجماهير المسلمة الصّاخبة.

وبعد نحو أربعة أشهر من العمل والبحث والمشاهدات والتّجوال في أنحاء إسبانيا عادت البعثة العلمية إلى استانبول بتاريخ 25 ديسمبر سنة 1887م وقد أعدّت تقريرًا عن مهمّتها.  وحســب ما أثبته الورداني في نهاية كتابه «الرّحلة الأندلسيّة» فإنّ الكُتب التي أُعدّ بشأنها التّقرير كانت متنوّعة المواضيع، فقد جاء بعضها في اللّغة وبعضها في الفقه وبعضها في التّاريخ وبعضها الآخر في الطبّ وغير ذلك. وقد تمّ اِنتخابها بشكل خاصّ من المكتبة العموميّة بمدريد، ومكتبة الإسكوريال ومكتبة الأندلس. وقد ذكر أسماء بعض هذه الكتب وأسماء مؤلّفيها والمجال الذي تنمي إليه. ولقد مكّنت رحلة الورداني من تقديم خدمة علميّة جليلة للمكتبة العثمانيّة، وفي الوقت نفسه نقل لنا الورداني صورةً عن آثار العَرب في إسبانيا وعن الحياة الاجتماعية والعلميّة والثقافية هناك، ومن حسن الحظّ أنّه دوّن ما رآه وشاهده بنفسه في كتابه القيّم «الرّحلة الأندلسيّة» الذي يَستحقّ كثيرًا من البحث والدّراسة.

د. مصطفى الستيتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.